q

استخدام التاريخ كأداة في الفعل النهضوي الحضاري، ليس بجديد في الفكر الإسلامي، والإنساني عموماً، فدارسة التاريخ العام، وما يرتبط بها من الدراسات الخاصة في التراث، تلحظ أن اختيار الاستخدام الوظيفي له، يتحكم في زوايا العرض، خاصة من خلال مبنيين رئيسيين فيه، وهما ما يطلق عليه بالتاريخ الصغير والتاريخ الكبير، واللتين يمكن أن يكونا مؤشراً في اختيار الدالّة البحثية، وفي استدلال المخرجات الرئيسة في البحث التاريخي، لجهة تأثيراته الاجتماعية والحضارية.

غير أن ما يميز فكر المجدد آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي «أعلى الله درجاته» ومشروعه النهضوي، يتبين في هذا الاختيار في "فلسفة التاريخ"، من خلال فهم واستيعاب الشكلين من التاريخ، الكبير وهو الحضاري المجتمعي، والصغير الذي لا يترك أثراً في حضارات الشعوب، ومخرجات أدوارها التاريخية، وعليه تتداخل الدراسة في الشكلين من التاريخ، في تبيان رؤية المفكر المجدد فيها، التي عرض لها، في مباحثه في هذه المباني.

يشمل منهج البحث في التاريخ الصغير، تتبع سيرة النخبة الحاكمة، وما يدور في البلاط والقصور الملكية، والتركيز على عوامل الإثارة، والحياة الخاصة والترف فيها، والصراعات الكيدية والنزاعات الدموية في جنباتها، على اعتبار أنّ ذلك، هو تاريخ أمّة من الأمم، في حين أنّه يشكل، صورة منقوصة وقاصرة، عن الحياة العامة والمجتمع، تبرز حياة شريحة صغيرة من قمة الهرم، وغالباً ما يكون مثار السخط والاشمئزاز، إذ يعمل على تقزيم دور الأمة، وتحطيم روحها المعنوية.

وكمثال لذلك، عندما يُدرس التاريخ الصغير في الغرب، لينظر الى القصور الملكية، والمؤامرات التي تحاك على أفرادها، وعمليات الإجرام التي كانت تتم بين الأسوار، في النزاع والمنافسة حول الملك، فهي تطبع صورة نمطية في الذهن، عن سير الحياة وأحوال المجتمع فيها، دون أن تنقل الصورة الأكبر، التي قد تكون ناقلة، لأصل الحقيقة.

بينما البحث في التاريخ الكبير، هو مقاربة إنجاز الأمة التاريخي والحضاري والإنساني، ومخرجات أدوارها في المجال السياسي والاقتصادي والدفاعي، والتي تشكل منابع ومرتكزات الأداء الإستراتيجي العام، فضلاً عن إبداعاتها في الجوانب العلمية والفكرية، والثقافية والقانونية، وما يرتبط ذلك في سلوكياتها القيمية والأخلاقية، ومنجزها في خدمة البشرية.

فهو الجزء من تاريخ الأمة، الذي يشكل عطاء الغالبية من المجتمع، ونتاج مبدعيها، في حقبة تاريخية محددة، وهو الأمر الذي يؤكد هوية الأمة، وقدراتها على العطاء، وعبقريتها الخاصة، وبالتالي قابلياتها على التجدد والإحياء، في استنهاض تراثها وقدراتها الكامنة.

والمفارقة أن الباحثين الغربيين، يقدمون التاريخ الأوربي، الى العالم وأمم الشرق والإسلام تحديداً، من خلال التاريخ الكبير، فيما يتم الإصرار على تقديم التاريخ الإسلامي، الى العالم والى الغرب الأوربي والمسيحي تحديداً، من زاوية التاريخ الصغير، وغير الموثق، وهو جهد تقوم به بعض دوائر الاستشراق بتقنية عالية، وهذه الجزئية في تقدير هذه الدراسة، هي التي دفعت الأستاذ المفكر المجدد، ليبين رؤيته في كتابة التاريخ، وبيان علته التاريخية والفلسفية.

والمفكر المجدد بموضوعيته، ومنهجيته العقلانية المنفتحة، لم ينكر على الغرب تفوقه العلمي والحضاري، بما يطلق عليها حضارة الآلة والجمال والنظام، والتي هي بالأساس مستمدة من تموجات الحضارة الإسلامية، كمبادئ الشورى والتعددية، فهذا الجسد "الغربي"، يحتاج الى كمال الروح، حيث معنويات الإسلام ومثله العليا، في الفرد والعائلة والمجتمع، وبذلك يمكن الوصول الى روح الحضارة البشرية، وفلسفة الحياة الإنسانية، فيدعو في "مسألة" غاية في الأهمية والجرأة، بعنوان "مسؤوليتنا تجاه الغرب"، الى ضرورة الاهتمام بالمجتمع الإسلامي، حتى ينطلق من جديد، وبالمجتمع الغربي، حتى لا يسقط.

ويشير المفكر المجدد لهذه الجزئية في البحث التاريخي، من خلال عنوان "الفلسفة العقلية ومعرفة التاريخ"، في مقدماته لفلسفة التاريخ، أن التاريخ في الإسلام، بدأ من تاريخ الشعوب، لا من تاريخ الحكام والقادة العسكريين، مستشهداً بقوله تعالى: "إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم") سورة الحجرات، الآية 13).

المحور هو التعارف بين الشعوب، والتقوى في شرائعهم، وبذلك تفهم فلسفة التاريخ الإسلامي، والتحليل التاريخي في هذا المنطق، وهذا يتماهى في جوهره، مع مفهوم التأريخ الكبير.

إن عرض التاريخ ومخرجاته، والاستخدام النهضوي للبحث في التاريخ، أداة خطيرة بالنسبة للناهض الاجتماعي، وبناة الحضارة، فعندما يستخدم التاريخ الصغير، للتعبير عن حالة أمّة معينة، يؤدي ذلك الى الإحساس بالتهميش والضعف والعجز، فهو يستخدم كأداة للتحطيم النفسي والمعنوي، بينما يؤدي استخدام التاريخ الكبير، الى عملية النهوض المادي والمعنوي والنفسي، في النظر الى الكتابات الإيجابية، التي يراد بها أن ترفع شأن الأمة، وتستنهض البناء فيه، من خلال استخدام أدوات التاريخ الكبير، بعكس ارتداء النظارة السوداء، في استخدام أدوات التاريخ الصغير، التي تقوم بعملية الهدم، فهو ليس عملاً حيادياً بريئاً، كونه يؤدي دوراً وظيفياً، في عملية الصراع والتدافع، في المجتمعات والحضارات والثقافات المختلفة.

والحال أن الأمة أمام ملف ضخم، يجب على بناة النهضة الحضارية، سواء في المؤسسات الدينية والفكرية، والهيئات المجتمعية، أن ينظروا إليه، وأن يفهموه جيداً، لجهة أن يختاروا من التاريخ ما يعرضوه، ولجهة المداخل التي يستخدموها، والغرض من استخدامها، وليس القصد في النظرة المجردة، المتعلقة بالتوازن والاعتدال والموضوعية والحياد فحسب، بل البحث في الواقع المعاش، وكيفية استخدام هذه الأدوات المختلفة، وفي الظروف المختلفة.

وفي موضوع نشأة التاريخ الإسلامي، يبين المفكر المجدد، أنّ للقرآن الكريم، الأثر الكبير في تصور المسلمين للتاريخ، من خلال ما ذكره من قصص الأنبياء مع أقوامهم، ومع الطغاة في بلدانهم، بما في ذلك ذكر غيرهم، باعتبار اتصالهم بالأنبياء، وبسبب ذلك، قد تحول التاريخ الى الدين لا الى السياسة، لإرتباطه في الهدف الديني والأخلاقي والإنساني، وعليه فهو يعبر عن هذا التاريخ، بكونه تاريخ الأنبياء.

وفي المرحلة اللاحقة، فقد ارتبط التاريخ الإسلامي في نشأته، ارتباطاً وثيقاً في الحديث المروي عن الرسول الأكرم، وبعض أصحابه، أو عن الأئمة من آل بيته الشريف، حيث تأثّر في منهج رجال الحديث، بما يتعلق بالإسناد والتصحيح والتجريح، وما الى ذلك من مناهج التحقيق في الرواية والدراية.

وأما من حيث الموضوع، بالرغم من بدايات الكتابة التاريخية، بالأعمال العسكرية، التي قادها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، والتي يطلق عليها "المغازي"، غير أن السيرة النبوية الشريفة، وهي القدوة، كانت مادة التاريخ الإسلامي وموضوعه، بهدف تسجيل نظام الحياة، في الجوانب الحضارية، وإن هذه الخصوصية في المنهج التاريخي الإسلامي، تماهت ودليل الإجماع، في البحث الفقهي الإسلامي، المستمد من قول الرسول الأعظم، "لا تجتمع أمتي على ضلالة"، حيث أهمل الباحثون، سيرة ونزاعات الحكام والملوك، ليبرزوا أدوار المصلحين والعلماء، انسجاماً مع مقولة أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) أن "الملوك حكّام على الناس، والعلماء حكّام على الملوك".

فيفهم من هذه الجزئية، أن الملوك البناة، والحكام الرؤساء المصلحين، الذين لا تخلوا عنهم الأمة الإسلامية حتماً، إذ يحشرهم التاريخ الإسلامي، مع العلماء والصالحين، فيؤكد المفكر المجدد هذه الرؤية، في صدر مقدماته لمادة فلسفة التاريخ، بأن أخلاقيات الحكام، سواء انبثقت عن الإيمان أو عن العقل، فالنتيجة واحدة.

وهي حال أخلاقيات الفرد، فإن كانت صحيحة، سيلتف الناس حوله، ويصل الى هدفه، بينما الأخلاقيات المنحرفة، تسبب سقوطه، بعد أن ينفضّ الناس عنه، وهذا ينطبق على الحكومة، وعلى الحزب الحاكم، والكيان السياسي، كما هو منطبق على الفرد والمجتمع، وعليه يمكن أن يستقرأ من هذه الرؤية للتاريخ الإسلامي، عند المفكر المجدد، أن هذا التاريخ، قد اعتمد مفردات التاريخ الكبير، مقابل إهماله الواعي، لجزئيات التاريخ الصغير.

اضف تعليق