إن القيمة الفكرية الإنسانية، أو رؤى الأنسنة وأخلاقيات البحث، ومعاييره ومهنياته، في مدرسة المفكر المجدد، والتي تمحورت حولها، مجموعة الأطر والمبادئ، المشكلة للجوانب المعرفية والعلمية، التربوية والسلوكية، على مستوى الفرد والمجتمع، تعد الضامنة الأساس، لدعم وإشاعة السلم الأهلي، وثقافة قبول الآخر، وإحترام الإختلاف، والعيش المشترك والتعايش السلمي، والشراكة في الوطن والموارد، فهي الحالة المشعة لعنوان "اللاعنف والسلم المجتمعي"، والتي تشكل الثقافة الداعمة، والموضوعية المتقدمة، لكل جوانب الحياة المشرقة.
إن ثقافة اللاعنف والسلم المجتمعي، أصبحت عنوانا ملازما لرؤيا المجدد، لجوهر الإسلام وسماحته ورحمته، فهي لدى سماحته، قد أسست لفكر مجدد وحداثي، يلامس الجوانب السلوكية للفرد كوحدة بناء، والمجتمع كمنظمة جامعة، في العلاقات المجتمعية الرأسية والإشرافية، وما دونها من العلاقات البينية بين الأفراد والهيئات، وسائر التنظيمات المتحركة داخل المجتمع، وبينها وبين الدولة ومؤسساتها، ثم وبشكل متقدم، بين المكونات الوطنية والدينية والقومية، في علاقاتها مع بعضها بينيا، وبين الدولة والدول التي تمثلها.
إن "مبدأ اللاعنف" يتجاوز في فكر السيد المجدّد، الجانب الوطني أو القومي، وحتى الديني الإسلامي، ليرتقي بهذا النهج إلى السمو الإنساني الرفيع، فهو مقدمة لتأسيس ثقافة قبول الآخر، وثقافة التنوع والاختلاف، وثقافة الحوار الهادئ، وثقافة التمدن والتحضّر والمعاصرة، وثقافة مقارعة الحجة بالحجة، لتقدم بذلك منظومة سلوكية وجمالية، وبديلاً راقياً وحضارياً، عن ثقافة العنف والتحاور بالسلاح، وإلغاء الآخر ورفض الاختلاف، والأخذ على الشبهات.
إن إشاعة هذه الثقافة لدى الرأي العام، واعتماد الأطر الفكرية والحضارية، المهنية والتقنية، في تشكيل الرأي العام، استنادا الى هذه الثقافة الرصينة، بديلاً عن نهج الفرض والقمع والإملاء، والتهديد ومصادرة الحريات، فضلا عن استخدام أدوات الإعلام الحقيقي، المتشكل بالمصداقية والشفافية والمصارحة، بدلاً عن الخداع والتشويه للحقائق، تمثل الجوانب الإنسانية المشعة، في فكر سماحته وتعاليمه، المعتمدة الى الأخلاقيات والمعايير المهنية الصحفية والاعلامية، وقواعدها القياسية الحرفية، بدلا عن الغاء عقل المتلقي، وتصميم الرأي المسبق.
يسجل المفكر المجدد، مبدأ إن العنف، لا يوصل الإنسان إلى أهدافه التي يتوخاها، مبينا "أنك مهما كنت عنيفاً فإن عدوك أعنف منك"، بمعنى أن الآخر قد تتهيأ له المقدرة من سلاح وتجهيز، لا تتوفر للمسلم، فيكون عليه "إشهار سلاح الروح لمقاومة سلاح البدن"، وفق ثقافة الحوار والكلمة الطيبة، ونبذ العنف في سجال الأفكار والآراء المختلفة، عملاً بالآية الكريمة "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ"[1].
إن ذلك وفق النظرة الثابتة للسيد المجدد إلى مبدأ اللاعنف، كونه يشمل بمنهجه، النفس والقلب واللسان والقلم واليد، وفق المرويات عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ومدرسة أهل البيت (صلوات الله عليهم)، خدمة للسلام وتثبيت الاستقرار في المجتمع، وقبول الآخر وتحكيم لغة الحوار بدلاً من لغة العنف، "وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"[2]، وذلك "يلزم تجنيب الشباب مفاهيم العنف لئلا يصبح منهجاً في حياتهم وملكة من ملكاتهم فالعنف يفسد كل أمر صالح".
فهي رؤية متقدمة وحتى سابقة لزمانها، لحالة الفوضى في المجتمع العراقي المعاصر، كنتيجة لإشاعة العنف، لغة للحوار ورفض الآخر وعدم قبول الاختلاف، فيؤكد سماحته أنه "فيجب أن يصبح اللاعنف ملكة"، وهو يبدأ من النفس إلى الأعضاء والجوارح، وقد أبسط المجدد لمباحث اللاعنف، في الكثير من آثاره الفكرية[3]، باعتبارها من صلب سلوك وأخلاقيات مدرسة آل البيت، وأعمالهم في السلم والحرب.
وفي عنوان "الهجرة ومسيرة التكامل"، يعرض المفكر المجدد لمسألة، تمثل قانونا حاكما في فلسفة التأريخ، وهي أن الهجرة والتغرب، من عوامل تفجر الطاقات، وتحريك الأمم وبزوغ الحضارات، ونمو المواهب، ويرى أن الإسلام لا يعترف بالحدود الجغرافية، كونها تحدد مسيرة التكامل الإنساني.
ويحتج المجدد في ذلك، بأمثلة وشواهد تاريخية، لشخصيات عبرت الحدود، وتحملت المسؤوليات، بمن فيهم الأنبياء، وهو ما يدعو إليه، في انتخاب شورى الفقهاء، دون النظر الى موطن العضو فيها، وذلك ينصرف الى جميع نواحي الحياة، ومجالات المسؤولية فيها، لجهة توليتها على أساس الكفاءة، وليس على أساس العرق، ويستشهد المبحث الى ذلك، بأمثلة وشواهد واسعة، من التاريخ العربي الإسلامي، حتى فترة ما قبل قرن من الزمن.
ومن الرؤية الإنسانية للمجدد، فإن ثقافة اللاعنف، في فكر سماحته وتصوراته، تتجاوز العلاقة البينية بين الفرد والفرد، أو الفرد في مجتمعه، أو بين المجتمعات المتقاربة أو المتشاركة في الأوطان والموارد، بل يعبر المفهوم في فكر سماحته، الى المعادلة الأوسع، وضمن الرؤية العالمية لمنظومة الفكر الإسلامي، وهي العلاقة التي يعرضها سماحته، لتجمع الشعوب ببعضها، ثم بين الحضارات التي قد تتنافس، أو تتباين الرؤى والثقافات والعقائد بينها.
فيطرح سماحته عنواناً رائعاً، ومتفرداً في جرأة طرحه، بين الأدبيات المقاربة، وهو أن "علينا أن نمنع الغرب من السقوط"، في "مسألة" مهمة واعية، وذات نظرة إيجابية واقعية، منفتحة على الآخر، للوصول الى روح الحضارة البشرية، وفلسفة الحياة الإنسانية، من خلال التلاقح والحوار والتواصل، بين المجتمع الإسلامي، بقيمه وروحه، والغربي بنظامه وجماليته وتطوره العلمي، وهي معالم مستمدة من تموجات الحضارة الإسلامية، كمثل مبادئ التعددية والشورى والعدالة الإنسانية، بهدف تجديد إنطلاق الأول، ومنع الثاني من السقوط.
وبذا تدعم هذه الرؤية، الواعية المنفتحة، للمجدد المفكر، مستقبل الحضارة الإنسانية، والمجتمع البشري، في دعوة صادقة، لحوار الحضارات وتلاقحها، ضمن ثقافة عالمية، في مقاربة مبدأ اللاعنف، بدلا من تخرّصات الأكاديمي الأمريكي، "صموئيل هنغتن"، في كتابه المثير للجدل، عن صراع الحضارات، في زعم جدليته وحتميته.
ويدعو سماحته، في استكماله لهذا المبدأ، بأن لا يكون مجلبة للضعف والوهن، الى أن يكون السلاح واستخدام العنف، هو لدفع التهديد الخارجي على بلاد الإسلام، في حرب ونحوها، مبيناً أن الضرورات تقدر بقدرها، "كالعملية الجراحية حيث لا يبضعون من المريض أكثر من القدر الضروري". والسبب الآخر للتسلح، هو لدفع الضرر الاجتماعي، في حالات الاعتداء على أرواح الناس وأعراضهم وممتلكاتهم داخل بلاد المسلمين.
"أما استخدام العنف في التبليغ وغيره فلا ينتج إلا العكس، وبذا فقد حدد المفكر المجدد استخدام القوة وامتلاك السلاح "لطائفتين فقط"، وهما للدفاع عن الوطن إزاء التهديدات الخارجية، وقوى الأمن الداخلي، التي تفرض الأمن المجتمعي وتكافح الجريمة العادية والمنظمة، وهي الدالة المنسجمة تماماً مع مرتكزات "الأمن الوطني" أو "الدفاع الوطني" الذي تتضمن المرتكزات الأساسية في الاستراتيجية الوطنية العليا أو "استراتيجية الأمن الوطني".
اضف تعليق