q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

نتائج فقدان الرشد الفكري

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

كثيرة هي الأضرار التي تنتج عن فقدان الرشد الفكري، وهي تشكل أقوى الأسباب التي أسهمت في تأخّر المسلمين عن سواهم من الأمم، ولابد أن يكون هناك بحث مستمر وجهد مخلص ورصين ودائم، لمعالجة هذه الثغرات التي جعلت المسلمين في ذيل الحضارة الراهنة، وسمحت لأمم كانت جاهلة بالأمس، لكنها اليوم...

(من مقومات الإصلاح القضاء على الجهل ونشر الثقافة والوعي) الإمام الشيرازي

حين نفقد شيئا جيدا في حياتنا ومنظومتنا الفكرية والسلوكية، سوف يحدث فراغ ملموس يعاني منه الناس، الفرد والمجتمع على حدّ سواء، وهذا الفراغ لا يستمر دونما ملء، فكل فراغ يبحث عن شيء يملأه، وحين نفقد الجيد سوف يحل محلّه النقيض، فإن فقدنا العلم لأي سبب كان، سيحدث لدينا فراغ نتيجة لفقداننا العلم، وسوف يسارع الجهل كي يملأ هذا الفراغ، والمشكلة لا تقف عند حدود ملء الجهل لفراغ العلم، وإنما في جهل الإنسان لهذه الحقيقة.

هناك من الناس يعتقد أنه يعرف الأشياء ويعلم الأمور ويعيها، ولا يخطر في باله إنه جاهل بسبب فقدانه للرشد الفكري، فيصرّ على أنه عارف وعالم، وأن الآخر هو الخاطئ، وهذا ما يسمى بالتطرف الذي ينشأ وينمو ويولد من رحم الجهل، وهذا ما يطلق عليه المعنيون بالجهل المركّب، حيث يكون الإنسان جاهلا ولا يعترف أو لا يعلم بأنه جاهل.

لهذا قد نحتاج إلى طرائق معينة وقد تكون صعبة لمعالجة الجهل، ففي كثير من الأحيان يرتكب الإنسان أفعالا أو أقوالا خاطئة، وبعضها لا يرتكز على الأدلة، وقد ينتج عنه عواقب وخيمة، فكرية أو اجتماعية أو ثقافية أو سواها، لذلك يجب أن يتم تثقيف هذا النوع من الناس عبر سن الأحكام والتعليمات التي تنتقل بهم من ضفة الجهل إلى واحة النور.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (الإصلاح):

(يكون الجهل على نوعين هما، الجهل البسيط والمركب، ويحتاج الإنسان الجاهل إلى أمرين، الأول: الرشد الفكري ومعرفة الضار والنافع. والثاني: يجب أخذ النافع المانع من النقيض وترك الضار، ويعبَّر عن ذلك بالواجبات والمحرمات).

من الثغرات التي يخلّفها الجهل، استغلال الحكومات لهذه المشكلة، حيث تسن قوانين تبرّر سنِّها من خلال ربطها بمصلحة الناس أو المجتمع، لكنها في واقع الحال تهدف من خلال تلك القوانين لتحقيق مآربها التي غالبا ما تدور حول حماية السلطة ونظام الحكم، وحين تصدر القوانين، فإنها ملزمة من حيث التطبيق سواء كانت مفيدة للناس أو ضارة لهم، لأنهم لا يفقهون جودة هذه الضوابط، أو يجهلونها، وبالتالي تتحول إلى شيء مجهول وغير مفهوم بالنسبة لهم، ومع ذلك ليس لهم الحق برفض تطبيقها.

الوعي والثقافة من شروط الإصلاح

الخلاص من هذه الحالة المغطاة بالجهل وعدم الفهم، تكمن في توفير الرشد الفكري للجميع، وتوعية الناس بالسنن والقوانين التي تحكمهم، ونشر الثقافة الصالحية فيما بينهم، وضخ الأفكار الإيجابية في أذهانهم، وعدم ترك الفرص متاحة للحكومات كي تستغل جهلهم، فحين يكون المجتمع واعيا مثقفا، فإنه يعرف كيف يعيش بصورة جيدة، ويعرف واجباته وحقوقه، كما أن الحكومات تقف عاجزة أمام الشعوب الواعية المثقفة، وتضطر إلى أن تحكم بطريقة جيدة، تضمن الحريات والحقوق وحماية الرأي.

يقول الإمام الشيرازي حول هذه النقطة:

(إن الحكومات تضع قوانين تجبر الناس عليها بحجة رعاية مصالحهم ومصالح بني نوعهم، كقوانين المرور وما أشبه، فالشخص مكلف بالإجراء حتى وإن لم يعرف وجه الصلاح فيها أو تصور عدم صلاحها، كما ترى ذلك في الحكومات الحقّة والباطلة).

وفيما يخص المجتمعات والدول الإسلامية، فهناك فقدان شبه جماعي للرشد الفكري، ونقص واضح في الوعي، واستغلال سياسي حكومي لجهل الناس، واتخاذ ذريعة الجهل لتحقيق مآرب حكومية مشبوهة، فيطال الظلم الناس، وتُهدر ثرواتهم، وتُنتهَك حقوقهم، وتحدث تجاوزات حكومية لا حدود لها، بذريعة تحقيق مصالح الناس، لكن الهدف ليس كذلك وإنما صيانة السلطة والتنعّم بامتيازاتها، ولذلك فالحكومات تسعى لتجهيل الناس ومنع فرص الرشد الفكري عنهم بألف طريقة وطريقة.

إن فقدان الرشد تسلّل إلى حياة الناس، حتى في المسائل الشرعية التي تحفظ لهم حياتهم وحقوقهم وتنظم تعاملاتهم مع بعضهم، وهناك من لا يفرّق بين الحلال والحرام بسبب الجهل الذي يحل محل المعرفة والعلم كما ذكرنا سابقا، لذا يُنصَح بأهمية ملء فراغ الجهل بالعلم وليس العكس، ومع أن الحكومات تسعى لتقوية الجهل وتبادر دائما بزجه في رؤوس الناس وعقولهم كبديل للعلم والوعي، إلا أن المطلوب هو التشبث بالعلم بدلا من الجهل، أما مسؤولية الإنجاز لهذا الهدف فهي فردية جماعية في نفس الوقت.

لماذا يجب على الناس أن تغادر الجهل؟، الأمر واضح، فمن يجهل الأمور سوف تختلط عليه الأوراق، ويضيّع رأس الخيط كما يُقال، فيتيه بين ما يضرّه وما يسنده، ويصبح عاجزا عن الإتيان بالسلوك السليم، ويختلط عليه الحابل بالنابل، لدرجة أنه لا يعرف الحلال من الحرام، وفي هذه الحالة يكون فريسة سهلة الاصطياد من قبل الحكام المستبدين والفاشلين.

لذا يقول الإمام الشيرازي في كتابه أعلاه:

(المسلمون اليوم ملياران لكن يفقدون ـ على الأغلب ـ الرشد الفكري اللازم في مختلف مجالات الحياة، وحتى في مسائلهم الشرعية، فكثير منهم لا وعي له بالحلال والحرام، والطاهر والنجس، والصحيح والباطل، ولذا لا يميزون بينها ويأخذون بكلها، فاختلط عندهم الحابل بالنابل).

إمكانية التغيير بالعمل والتخطيط

كثيرة هي الأضرار التي تنتج عن فقدان الرشد الفكري، وهي تشكل أقوى الأسباب التي أسهمت في تأخّر المسلمين عن سواهم من الأمم، ولابد أن يكون هناك بحث مستمر وجهد مخلص ورصين ودائم، لمعالجة هذه الثغرات التي جعلت المسلمين في ذيل الحضارة الراهنة، وسمحت لأمم كانت جاهلة بالأمس، لكنها اليوم تتزاحم على الصدارة مع الأمم المتقدمة.

لابد من تنظيم للسبل العملية التي تعالج أزماتنا، وتؤشّر النواقص وتشخصها، وتضع لها الحلول، وقد تصدى الإمام الشيرازي لهذه المهمة منذ أن بدأ مشروعه الفكري الإصلاحي للمسلمين، حيث ركّز على تقوية الوعي وتطويره دائما، حتى لا يبقى مكان للجهل بين المسلمين، فأوجب الوعي للجميع وعدّه ركيزة قوية لمعالجة نواقصنا، ثم إلزام الجميع بالتمسك بما يصلح أحوالهم وحياتهم وأمتهم.

يقول الإمام الشيرازي:

(المسلمون بحاجة إلى أمرين مفقودين عندهما، أولاً: الوعي. وثانياً: نوع من الإلزام فيما هو بصالحهم، وكذا في الترك الملزم، فلا يحق لهم العمل على خلاف مصلحتهم، لذا يجب الاهتمام بالأمرين، ولو بالقدر الممكن عرفاً).

بالنتيجة فإن تغيير واقع المسلمين أمر لا يدخل في باب المحال، بل أمر ممكن إذا توافرت الشروط اللازمة، ومنها أن تتصدى جماعة جادة متخصصة، ذات خبرات وإرادة كبيرة مخلصة، تعمل على إنجاز التغيير دونما ملل ولا كلل، والذي يبدأ بمشروع الرشد الفكري والتخطيط له، بما يناسب ظروف الناس، وما يتلاءم مع قدراتهم، ولكن يجب أن تكون عملية مستمرة للتغيير، مع حتمية التخطيط العلمي للتنفيذ وتحدد العقبات والأولويات، فمن يسعى لتغيير نفسه وحياته سوف يجد العون الإلهي حاضرا معه.

كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله:

(يمكن التغيير والإصلاح بواسطة جماعة جادة مخلصة تعمل ليل نهار وعلى طول الخط، فـ: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم).

الخلاصة أن الأوضاع التي يعيشها المسلمون اليوم، لها أسباب كثيرة وكبيرة، بعضها يحدث آنيا، والآخر هو نتاج التاريخ السياسي والاجتماعي، ولابد من إيجاد الحلول المناسبة بعد أن ثبت أن فقدان الرشد الفكري هو الذي تسبب بواقع الأمة الراهن، وعلينا القيام بما يلزم لإحداث الإصلاح والتغيير، وهو أمر ممكن ولكن بشروط يجب أن نعمل جميعا على توفيرها.

اضف تعليق