الإنسان بفطرته خلاق، وهذه النفس الخلاقة إما أن تخلق الحياة، وإما أن تخلق الدمار، والحياة المخلوقة للنفس إما أن تكون حياة مستقيمة، أو حياة منحرفة. إنما يبتلى الإنسان في الحياة بضنك العيش لأن داخله شيء وخارجه شيء، وهنالك تمزق وانفصام بين الداخل والخارج، هذا من ناحية...
مقدمة حضارية
كثيراً ما صرنا نسمع على لسان الصغير والكبير، والجاهل والمثقف كلمة (حضارة)، حتى غدونا نشعر بأن لهذه الكلمة معنى لكل مَنْ يُطلقها، أو يتحدَّث عنها، وبها، فما هي الحضارة؟
العلماء وأهل الفهم يقولون: أن الحضارة هي الحضور الفاعل لمنظومة القيم في حياة الناس، ذلك الحضور الذي يصبغ حياتها، ويُعطي لها شخصيتها، ويُبلور لها ثقافتها الخاصة، وعليه فالأمة والمجتمع الذي ليس له تلك المنظومة القيمية الضابطة له هو أبعد ما يكون عن الحضارة والرقي والتقدم والإنسانية، مهما كان متقدماً مادياً، ومتطور رقمياً، لأنه يسوده الفوضى، ويُسيطر عليه مجموعة من الأشياء المستبدين.
معنى الحضارة ومبناها
الباحث في التاريخ البشري عامة، وما يُسمونه اليوم بالحضارة الذي كان أشهر مَنْ كتب فيها صاحب موسوعة (قصة الحضارة)، من تأليف الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي "ويل ديورانت"، وزوجته "أريل ديورانت"، وهو عمل موسوعي يتحدث فيه عن قصة جميع الحضارات البشرية منذ بدايتها وحتى القرن التاسع عشر، وأما من علماء المسلمين فإن أول مَنْ كتب عن هذا البحث المتعلق بالتاريخ هو المؤرخ عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته التي كتبها لتاريخه فكانت بحثاً اجتماعياً أعطى المفاهيم بصبغة إسلامية، ثم تبعه الآخرون وبنوا على طريقته ومنهاجه.
وعلى كل الأحوال فالباحث في علم وتاريخ وقصة الحضارة يجدها أنها مركب من أمرين اثنين يُشكلان جوهر الحضارة البشرية عبر العصور والدهور، وهما:
- منظومة أخلاقية وقيمية لضبط حركة الإنسان والمجتمع البشري..
- العمل المتقيِّد بتلك المنظومة وقوانينها، لضمان سلامة وتطور المجتمع الإنساني..
فبهذا المركب السحري؛ العلم والعمل، تتحقق قيم التقدم والتطور، مع القيمة والفضيلة، وذلك لأن المجتمع البشري هو بطبيعته مجتمعاً قيمياً حضارياً منضبطاً، لا حيوانياً بهيمياً منفلتاً، وذلك لأن الأنظمة والقوانين تحكم حركته وتنظمها، بما يُحقق أهدافه بالتقدم، وبناء الحضارة الإنسانية التي لا يمكن أن نُطلق عليها هذا الاسم؛ (إنسانية) إذا تخلَّت عن هذه الصِّفة التي تمثِّل الجوهر للبشر، وإلا فإن الإنسان من جنس الحيوان وقد يكون متوحشاً لا متحضِّراً.
وجميل ما كتب أحد الأخوة في معنى "الحضاري" بقوله: "الحضاري؛ وصف يلحق بالشيء إذا كان ذلك الشيء محتوياً على منظومة قيم"، وذلك بعد أن نقل عن ندوة فكرية تعريفها وقولها: "أجمع المشاركون في الندوة على أن الحضاري وصف يلحق بالأمم ذات المنظومات القيمية الكبرى".
وهذا من سُنن الله في الحياة؛ فـ"كل الأمم إذا أخذت بأسباب العلم، وتمسَّكت بالقيم والمُثُل، وسَعت إلى تطوير حياتها، فإنها قادرة على أن تتقدَّم في الحياة، ومن ثَمَّ فهي قادرة على بناء حضارة متميِّزة متقدِّمة"، يصبغها فكرها وشخصيتها، ويبعها بطابعه الحضاري الخاص.
فالحضارة بالمعنى الصحيح هي ذلك البناء الاجتماعي الكبير الذي يقوم على أساس الفضائل والقيم الإنسانية، لتحقيق الهدف البعيد لوجود الإنسان في هذه الحياة، وتكامله فيها، لأن الإنسان الكامل هو غاية الحياة، فترى البشر الأسوياء يبحثون عن التقدم، والتطور، والتكامل في حياتهم، وهذا نابع من جبلتهم، وطينتهم، وفطرتهم التي فطرهم الخالق عليها.
الفطرة الإنسانية
الحضارة يجب أن تُقاس بمدى تلاؤمها، وتناغمها، مع الفطرة البشرية، فهي مقياس الحضارة التي يجب نقيس عليها كل شيء نريد أن نصفه ونُطلق عليه "حضاري"، وذلك لأن الإنسان هو هدف الحياة، وغايتها، وهدف الإنسان التكامل والسعادة، ولن يسعد الإنسان إذا انفصم عن نفسه بل سيقع في مرض نفسي خطير يجعله يتصرف دون فهم أو وعي كما نرى ساسة اليوم.
والحضارة الرقمية، الافتراضية الآن أوَّل شيء عملته في الإنسان شوَّهت له فطرته السليمة، وغرَّبته عن نفسه، وذلك لأهان لعبت بفكره، وغسلت له عقله، وتدخلت بالقوانين الأساسية المنظِّمة لحركة الإنسان الفرد، والإنسان كمجتمع بشري، تلك المنظومة القيمية والأخلاقية التي أنزلها الباري تعالى على خلقه، لتكون لهم خارطة، و"كتالوك" استثمار وعمل عام يهتدون به.
وأنزلها، وكلَّف بها أشرف البشر من الأنبياء والرسل، ثم الأوصياء والأولياء (سلام الله عليهم جميعاً) بعد أن أيَّدهم بالكُتب السماوية كدساتير مكتوبة، وقانين ناظمة، وعصمهم من الخطأ لضمان سلامة التطبيق على المستوى النظري، وسلامة المطبِّق على المستوى التنفيذي.
فالخالق الصانع سبحانه خلق الخلق وصنعهم وهو أعلم بهم من أنفسهم، وأخبر منهم جميعاً بما يُصلحهم فأمر به (إرشادات)، وما يُفسدهم فنهى عنه (تحذيرات)، فبعث فيهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب من السماء، وسدَّدهم بالوحي، ليسير الإنسان، والمجتمع البشري على المنهج والصراط كما أراد الخالق لا كما أراد المخلوق، وكما شرَّع الله لا كما شرَّع الإنسان، وهذا ما بيَّنه أمير المؤمنين وسيد الوصيين الإمام علي بن أبي طالب (ع) في إحدى خطبه التي يقول فيها: (وَاصْطَفى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدَهِ أَنْبيَاءَ أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ، وَعَلَى تَبْليغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ، لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللهِ إِلَيْهِمْ، فَجَهِلُوا حَقَّهُ، واتَّخَذُوا الأَنْدَادَ مَعَهُ، وَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرفَتِهِ، وَاقتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَبَعَثَ فِيهمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِياءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بَالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، وَيُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ: مِنْ سَقْف فَوْقَهُمْ مَرْفُوع، وَمِهَاد تَحْتَهُمْ مَوْضُوع، وَمَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ، وَآجَال تُفْنِيهمْ، وَأَوْصَاب تُهْرِمُهُمْ، وَأَحْدَاث تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُخْلِ اللهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَل، أَوْ كِتَاب مُنْزَل، أَوْ حُجَّة لاَزِمَة، أَوْ مَحَجَّة قَائِمَة) (نهج البلاغة: خ1)
فالفاطر؛ هو المبدع الذي بدأ الخلق لا عن مثال، وهو المربِّي، والمعلم، والمدير، والمدبِّر لشؤون البشر وليس البشر أنفسهم، لأنهم لو تُركوا على هواهم لرأينا كل يعبد نفسه وهواها، ويبحث عن مصالحه الشخصية ولو أحرق روما كما فعل نيرون، ولتسلط القوي على الضعيف، وأكل الغني الفقير، وطغى بعضهم على بعض كما نرى ذلك جلياً وملياً في مجمعات الحيوانات البرية والبحرية، فلا قيود ولا حدود بل الذي يُسيِّرها الغريزة فقط، والذي يُبقيها ويُكاثرها الشهوة، والبشر ليسوا بدعة من تلك المجموعات الحيوانية إلا بما وهبه الله تعالى ما يُميِّزه عن غيره من المخلوقات حتى الملائكة، ألا وهو العقل، والإرادة، فالعقل جوهرة قدسية، والإرادة هبة ربانية.
فبالعقل يعرف الحق من الباطل، والخير من الشر، والصالح من الطالح، والمصلحة من المفسدة، وبالإرادة يختار بينها، ليكون مسؤولاً عن خياراته، وتصرفاته، ولكن مَنْ يُحدد له الحدود الفاصلة بين كل تلك الأشياء الواقعية، أو الاعتبارية، هي منظومة القيم السماوية، والفضائل الأخلاقية، والشريعة الربانية، وهي ما نُطلق عليه اسم (الدِّين) لأننا سنُحاسب على طبقه، وعلى أساسه ومقاسه، في يوم الدِّين والحساب.
وهذا ما يؤكده ويشرحه في الكثير من كتبه ومؤلفاته سماحة المرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي (قدس سره)، كقوله في كتابه الرائع (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام): "فكما أن لكلّ شيء في الحياة فطرة وخاصية حسب ما قرره الله سبحانه وتعالى، كذلك نرى في الإنسان فطرة خاصة، وهذه الفطرة هي التي تملي على (شخصية) الإنسان ما يلائمها وما ينافرها، وقد قال سبحانه: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) (الإسراء: 84)
فكما أن فطرة الحيوانات تختلف عن فطرة الأشجار.. وكما أن فطرة الأشجار تختلف بعضها عن بعض، فكذلك للإنسان فطرة خاصة، بينما نرى الآن في العالم جماعة من المفكرين والسياسيين وهم يظنون أن الإنسان صفحة بيضاء يمكن أن ينقش فيها أي نقش، ولذا يتهافتون على قضايا غسل المخ وعلى مسائل الدعاية والتبليغ كيفما شاؤوا.
فمثلاً ترى في البلاد الغربية كل الأجهزة منصبّة على توجيه الناس الوجهة (الرأسمالية)، وفي البلاد الشرقية ترى كل الأجهزة منصبّة على توجيه الناس الوجهة (الاشتراكية)، وفي بعض البلدان التوجيه إلى الوجهة (القومية) أو ما أشبه، وذلك يسبب انفصاماً في الشخصية، فمن ناحية للإنسان نداء ضمير، وصياح فطرة، (من داخله)، ومن ناحية يعمل الإعلام (والإعلان الهائل)، على خلاف ذلك، (من خارجه)، فهؤلاء السَّاسة والمفكرون - الذين يرون أن الإنسان صفحة بيضاء يمكن أن ينقش فيها أي نقش أو أرض خالية يمكن أن يزرع فيها أي زرع - من هذا المنطلق يأخذون بزمام الإنسان مرة ذات اليمين، ومـــرة ذات الشمال، مما يسبب الانفصام في الشخصية العالمية، فصار الإنسان أجنبياً عن نفسه، وقد نبَّه على هذا القرآن الحكيم بعبارة دقيقة حيث قال سبحانه: (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف: 28). (الصياغة الجديدة لعالم الرفاه: ص7 بتصرف)
العودة إلى الفطرة
فالحل يكم اليوم لأصعب مشاكل الحضارة الرقمية هي ضرورة العودة إلى الفطرة الإنسانية، لأنها أصل الخلقة التي خُلق البشر عليها، "ولذا من الضروري على الإنسان أن يلاحظ فطرته القويمة الخالية عن الأهواء الداخلية، والمضللات الخارجية، فإذا نمت تلك الفطرة نمواً طبيعياً كان الإنسان سليماً، وكان المجتمع المحتوي على هؤلاء الأفراد مجتمعاً سليماً، وإلا يكون الإنسان مريضاً، ويكون المجتمع الذي يحتوي على هذه اللبنات الإنسانية مجتمعاً مريضاً، كما ابتلى العالم المعاصر بذلك"، فصارت الحضارة مريضة بأمراض نفسية مستعصية، فقد أُصيب الحضارة بانفصام في الشخصية الحضارية بكل معنى ومبنى الكلمة، وهذا من أصعب الأمراض التي يمكن أن تُصاب بها الشخصية الفردية، والاجتماعية، والحضارية، لأنها تغرِّب الجميع عن نفسه، وتجعله يعيش خارج واقعه، مما يؤدي إلى السقوط في الهاوية.
الوئام بين الفطرة والسلوك
فطبيعة الإنسان وفطرته هي التي تُحدد له اتجاهه في الحياة لا الأشكال المفروضة عليه من الداخل، أو الخارج، وعلينا أن نعرف ماذا يلائم هذه الفطرة والطبيعة، وماذا ينافرها ولا يلائمها؟ حتى نعيد الوئام بين الفطرة والنفس البشرية، وبذلك نتخلَّص من هذا المرض الخطير..
فأول صلاح الفرد هو صلاح نفسه، واستقامتها وتلاؤمها مع فطرته التي فطره الخالق عليها، والعلم الحديث، والخبرات المكتسبة تعلمنا؛ "إن الإنسان إذا لم يصرف فطرته الخلاقة في البناء، لا بدّ وأن يصرفها في الهدم، سواء في هدم نفسه، أو هدم مجتمعه، (أو حتى هدم حضارته)، فإن أفراد الإنسان، والحيوان، والنبات، كلها خلاقة؛ فالنبات يخلق الأوراق، والأزهار، والأثمار، والأغصان وما أشبه، والحيوان يُخرج الذرية، والبيض، والريش، والصوف، ونحوها، والإنسان أيضاً له الحالة الخلاّقية الفطرية، لكن الفرق بين خلاقية الإنسان وغيره؛ أن خلَّاقية الإنسان خلَّاقية واعية، بينما خلَّاقية الحيوان والنبات غريزية".
ثم يقول سماحته: "فالإنسان بفطرته خلاق، وهذه النفس الخلاقة إما أن تخلق الحياة، وإما أن تخلق الدمار، والحياة المخلوقة للنفس إما أن تكون حياة مستقيمة، أو حياة منحرفة". (الصياغة الجديدة لعالم الرفاه: ص8)
خطر مرض الانفصام الحضاري
يقول العلماء والأطباء النفسيين أن مرض الانفصام في الشخصية يُسبب العديد من المضاعفات الخطيرة عند المريض، ومن أهمها:
- الانتحار.
- الأرق، والقلق، والاكتئاب.
- الوسواس القهري.
- مشاكل مادية، واجتماعية.
- عدم القدرة على العمل، أو الدراسة، أو الإنتاج.
وهي نفسها يُسببها الانفصام الحضاري بالنسبة للأمم والشعوب والحضارات ولكن بشكل كبير يشملهم جميعاً، فيكون المرض كحالة عامة يظهر في المجتمع، وليس كحالات فردية وذلك لكثرة الحالات الفردية تطغى فتصبح الحالة مشكلة اجتماعية مستعصية كما نرى في أمراض الحضارة الرقمية اليوم، من حيث التضخم، وكثرة تلك الأمراض فيه، لا سيما النفسية فمن أكبر مشاكل الحضارة اليوم هي كثرة الأمراض النفسية التي لم نعهدها من قبل لا سيما تلك التي تؤدي إلى الانتحار للتخلص من الحياة، فمعظم المنتحرين لا يرون للحياة قيمة لما يعيشونه من الفراغ والقلق المؤدي إلى الأرق والاكتئاب ويعمل الوسواس الخناس فينتحر الشخص.
ويُشخِّص الإمام الشيرازي الأخطار فيقول: "الواقع أن المجتمع الذي يحتوي على هذه اللبنات الإنسانية - المنخلعة (المنفصمة) عن نفسها بنفسها - مجتمع منحرف ومريض مما يسبب أن يكون الإنسان في ضيق من الحياة وضنك من العيش كما قال سبحانه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه: 124)
ويُبيِّن فلسفة ذلك بقوله: "إنما يبتلى الإنسان في الحياة بضنك العيش لأن داخله شيء وخارجه شيء، وهنالك تمزق وانفصام بين الداخل والخارج، هذا من ناحية".
ومن ناحية ثانية: وجود القوانين الوضعية التي تُقيِّد الإنسان وتجعل الأثقال على كاهله تسبب له ضيقاً وضنكاً، فهنالك ضيق وضنك نفسي، وضيق وضنك جسدي".
وذلك بكثرة القوانين التي اخترعها الإنسان للضغط على أخيه الإنسان ليُقيِّد حركته وكل شيء في حياته، فحوَّلوا الحياة كلها إلى كانتونات مغلقة على غرار الذين اعتادوا على العيش فيها منعزلين عن المجتمع البشري كله بسبب نظرتهم الخاطئة، ونظريتهم العنصرية بأنهم مميَّزون عن غيرهم لأنهم (شعب الله المختار)، و(أبناء الله وأحباءه)، فعكسوا هذه النظرية على شعوب الأرض كلها واخترعوا كل هذه القوانين والإجراءات التي تقيِّد حركة الإنسان وتحدُّ من نشاطه.
فالسفر ممنوع إلا بالجواز، والإقامة محظورة إلا بإذن، والعمارة متوقفة على الرخصة، وحتى زواجه، وتسجيل أبناءه وزوجته ممنوع عليه إلا بإجراءات تفرضها الدولة والحكومات، ففي كل يوم تجد قانوناً جديداً يحدُّ من الحريات، حتى غدت سائر الحريات مقيَّدة، ومكبوتة، كما نعيش ونشاهد في عالم اليوم، ألا يُسبب ذلك ضنكاً في العيش، وصعوبة في الحياة؟
يقول الإمام الشيرازي: "ولذا كان القادة الإسلاميون في أول الإسلام عندما يواجهون الأمم الأخرى التي يدعونها إلى الدخول في الإسلام يقولون لهم: جئنا لإخراج الناس من عبادة الناس إلى عبادة الله، ومن ضيق الأرض إلى سعتها.
نعم؛ الإنسان الذي يعبد الحجارة يعيش في ضنك نفسي، وأزمة روحية وانفصام، ففطرته تكفر بالحجارة، وبالصنم، وبالآلهة البشرية، بينما مجتمعه - الذي فرض هذا الإنسان على نفسه اتباعه (إما خوفاً وإما رغبةً وإما جهلاً) - يعبد الحجارة.. وهنا يكون الانفصام والخروج من موازين الحق والعدل والفطرة، ثم ضنك العيش وضنك الحياة، كما نشاهد هذين الأمرين في زمننا الحاضر في العالم حيث رجع العالم إلى الجاهلية، لكن: لهذه الجاهلية لون آخر غير اللون الذي كان للجاهلية قبل الإسلام". (الصياغة الجديدة: ص8)
كيف تبدأ الحضارة؟
وتبدأ الحضارة في كل الحضارات من مسألة في غاية الأهمية ويجب إدراكها ووعيها وهي؛ الفكرة الحضارية، والفكرة الصالحة كالبذرة الصالحة إذا تأمَّنت لها كل الشروط نمت وكبرت وأزهرت وأثمرت وأينع ثمارها لجانيها.. ولكن يجب أن يتوفر لها شرطان هما:
1- الفكرة البذرة الصالحة..
2- تعاهد تلك الفكرة البذرة ورعايتها حتى تكبر..
فالفكرة هي المنطلق، وهي الركيزة الأساس التي تُبنى عليها الحضارة، وقد أدرك الإمام الشيرازي هذه النكتة اللطيفة ولذا تراه يُؤكد في كل أطروحاته الفكرية والحضارية على مسألة الثقافة، والفكر، والعلم، في بناء الحضارة، فكل ما اطلعتُ عليه من كتبه وجدتُ أنه يُؤكد على الثقافة الإسلامية، والفكرة الإيمانية الحضارية، لقناعته بأنها هي التي صنعت من ذلك المجتمع الجاهلي أمة راقية فتحت نصف الكرة الأرضية في حينها خلال أقل من نصف قرن، وبنت حضارة قيمية رائعة مستمرة وباقية إلى اليوم رغم كل هذه التحديات والأعداء من حولها، لا بل هي تُشكل ربما ربع سكان العالم، ومؤهلة لغزو الأعداء في قعر بيوتهم، وفي دولهم ومناطقهم، ولذا تراه يؤكد على مسألة التبليغ للدِّين الإسلامي في كل مكان لا سيما الغرب ليتغيَّر إلى الإسلام، وله عدد من الأطروحات حول ذلك.
المدرسة الشيرازية الحضارية
لقد تبلورت في زمن وعصر مرجعية السيد الإمام الشيرازي (رحمه الله) ما أُطلق عليه (المدرسة الشيرازية)، تلك البذرة التي بدأت من الشيخ المجاهد محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين في وجه الإنكليز أرباب الحضارة التي لا تغيب عنها الشمس، وعززها سماحة السيد مهدي الشيرازي الذي جعل كربلاء المقدسة حاضرته، ومنه أخذها الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي فهو الذي بلور وأظهر شخصية تلك الأسرة العلمائية ومراجعها الكبار بخصائصها المميزة لها فظهرت كمدرسة مستقلة في شخصيتها الاعتبارية وكان أهم ما يُميِّزها:
1- العلم الغزير؛ فقد لُقِّب السيد محمد "بسلطان المؤلفين"، لما كتبه من كتب ومؤلفات كثيرة.
2- الأخلاق العالية؛ وهذه الخصيصة هي التي جمعت الأمة حولها رغم كل الظروف.
3- النهج الحسيني الولائي؛ وهذه أيضاً جعلتهم بمعرض الاستهداف من قبل الآخرين.
فبهذه الخصائص الثلاثة تميَّزت المدرسة الشيرازية التي بلورها وأظهرها وشهرها الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي في حياته رغم كل ما تعرَّض له من حرب ومحاولات تسقيط وحتى محاولات قتل وإعدام شخصية، إلا أن الولاء لسيد الشهداء (ع)، والأخلاق الرفيعة، والفضيلة الراقية، وسعة الصدر، والصبر والتحمل أوصله إلى تحقيق بعض أهدافه بتأسيس مدرسة متميِّزة في هذا العصر المتلاطم الأمواج بالفتن والمشاكل الحضارية.
فالمدرسة الشيرازية هي مدرسة إسلامية أصيلة تريد أن تنهض بالأمة بالمنطق، والعقل، والحوار الهادئ بالتي هي أحسن، وليس بالحرب، والقتال، والعنف والإرهاب، وهذا ما اشتهرت به العائلة الشيرازية المعاصرة، والتي تتمتع بالروحانية العالية، والأخلاقية الرفيعة، والتي من مظاهرها التواضع، والهدوء، والسَّكينة، والوقار، والسماحة، والفصاحة، والصباحة، التي قلَّ نظيرها كخصال عند كثير من الناس.
فكر الإسلام الحضاري
والسيد محمد الشيرازي لقد عبَّ من الإسلام العظيم حتى ارتوى، ونهل منه حتى شبع، فكان يتنفس القيم الإسلامية والإيمانية مع الهواء الذي يتنفسه، فترى فيه الإسلام متجسد بكل تفاصيله، ودقائقه، وحقائقه، وفقهه، وقيمه، وأخلاقياته، فكان كل فكره ينصبُّ على الإسلام الذي عشقه وذاب فيه حتى النخاع، فأراد أن يوصل هذا النبع الزلال الصافي لكل البشرية ليُنقذها من ويلات الظلمات والقهر والجاهلية التي تريد قوى الشر العالمي أن تُدخلها فيها من جديد بعد أن أنقذها الله منها برسوله الأكرم (ص) وأهل بيته الأطهار (ع)، فكان كل همَّه أن يوصل هذا الفكر الحضاري للبشرية لعله يُنقذها من شرور هذه الحضارة المادية الشيطانية.
فكم كتب وألَّف، وخطب وحاضر في سبيل بيان عظمة الإسلام، ومنهاجه القويم، ومنظومته القيمية الرائعة، وكم ناضل وجاهد السيد الشيرازي في سبيل إثبات أن الإسلام العظيم هو أعظم شريعة، وأكمل قانون، وأشمل منهج، يمكن أن يبني الحضارة الإنسانية في عصر الحضارة الرقمية وفي كل عصر ومصر بشرط العمل بالإسلام كلاً، والأخذ به من كل النواحي، وتطبيقه في جميع مفاصل الحياة.
فكتب (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام)، فماذا يُريد البشر غير ذلك؟
وكتب الكثير من الكتب في سبيل تطبيق الإسلام وقوانينه، وأحقيته على كل الأطروحات التي يعجُّ بها العالم المتقدم اليوم، فسماحة الإمام الشيرازي، أمضى حياته ولأكثر من نصف قرن من الزمن في بيان وتوضيح الأسس الراقية لنظرة الإسلام للحياة، والأحياء وأنه يبني الحياة على قاعدة السلام والأمن، والحضارة على أساس القيم والفضائل والأخلاق.
كان يؤمن ويعتقد اعتقاداً راسخاً بأن الأديان قامت على مبدأ السلم والأخوة بين البشرية ونبذ العنف حيث يقول: "إن منطق الرسل والأنبياء هو منطق السلم واللا عنف والاحتجاج العقلاني من أجل إنقاذ البشرية، حيث يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم حول استخدام السلم واللين والابتعاد عن العنف والغلظة، واستخدام سياسة العفو والاعتماد على منهج الشورى كأسلوب في الإقناع الحر والحوار السلمي والمشاركة في اتخاذ القرار: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159)
وما ذلك إلا لأن العنف يُخالف المبدأ الذي يؤمن به ويسعى لنشره في العالمين، فهو مثال لرجل الدِّين والمرجع الذي يلتزم بما يقول، ويعتقد، والإسلام كله أمن وسلام، وقسط وعدالة فكيف يُخالفه في حياته وتطبيقه في مجتمعه الذي يُحاول أن يوصل إليه الفكر، والفقه، والثقافة السليمة التي ربَّى عليها رسول الله (ص) أهل بيته الأطهار (ع) وهم ربُّوا الأمة على تلك القيم النابعة من كتاب الله سبحانه وتعالى، الذي كان خُلُق رسول الله (ص)، وهو القائل: (أنا أديبُ الله، وعليٌّ أديبي)، وأمير المؤمنين (عليه السلام) يؤكد هذه الحقيقة ويُضيف عليها فيقول: (إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أدّبَه اللهُ عزّ وجلّ، وهو أدّبَني، وأنا أُؤدِّب المؤمنين، وأورِّث الآدابَ المـُكرَمين). (تحف العقول: ١١٩، بشارة المصطفى: ٢٥ وبحار الأنوار: ج٧٧ ص ٢٦٩)
فهو من أبناء تلك الشجرة المباركة الطيبة لأمير المؤمنين (ع) لأنه من نسل أولئك المكرَّمين الذين ورثوا أدب رسول الله (ص) وتعلموه من أبيهم أمير المؤمنين (ع)، فتراها طبيعية كشعاع الشمس منها، وجريان الماء من النَّبع، وهطول المطر من السماء، فتظهر لك أنها ليست مصطنعة، بل هي سجايا نابعة من الطينة المباركة، بما زيَّنها الأدب الراقي لتلك العائلة الكريمة.
اضف تعليق