يوم بعد آخر تزداد نفوس البشر في الأرض، ومع هذه الزيادة السكانية المضطردة، تتزايد الأمراض وتتنوع وتصبح أكثر فتكا بالإنسان والكائنات الأخرى، ولا شيء أدلّ على ذلك من جائحة كورونا التي شلَّت دول العالم أجمع، وحيّدت الحياة الاقتصادية، وأجبرت العديد من الشركات العريقة على تسريح الآلاف من عمالها...
يوم بعد آخر تزداد نفوس البشر في الأرض، ومع هذه الزيادة السكانية المضطردة، تتزايد الأمراض وتتنوع وتصبح أكثر فتكا بالإنسان والكائنات الأخرى، ولا شيء أدلّ على ذلك من جائحة كورونا التي شلَّت دول العالم أجمع، وحيّدت الحياة الاقتصادية، وأجبرت العديد من الشركات العريقة على تسريح الآلاف من عمالها.
وإذا كان المرض حالة رافقت الإنسان منذ نشأته، وتبقى تلازمه حتى الممات، إلا أن التقليل من مخاطر الأمراض ممكنة، وواجبة أيضا، فالحياة عندما ترافقها الأمراض تصبح خير مجدية ولا طائل منها، كما أنها تُشغل الإنسان وتبعثر طاقاته، وتصيبه باليأس والشلل، وتهدد الحياة الاجتماعية بعد أن تضربها بالأوبئة، وإن لم تكن الأخيرة جديدة على البشر، إلا أن التقدم الطبي الهائل يفترض بالإنسان أن يقضي على أي وباء على شاكلة الطاعون أو الجدري أو الحصبة أو سواها.
لماذا تزداد أمراض البشرية مع تزايد التطور العلمي والطبي على وجه الخصوص؟، سؤال يبدو منطقيا، فحين يكون العلم متأخرا أو متباطئاً، يمكن أن نجد عذرا لانتشار الأمراض، أما أن يحقق الإنسان قفزات علمية هائلة، ويكتسح الفضاء ويطوّر المختبرات والصناعات المختلفة، الطبية وسواها، فإن انتشار الأمراض وفق ما يجري اليوم عالميا، يشكل مصدر تساؤل هام وكبير لا يمكن التنصل من الإجابة عليه، لاسيما من المختصين!
البحث عن أسباب المشكلة، ووضع اليد على هذه الأسباب، هي السبيل الأدق والأسرع لمعالجتها، أيّا كانت درجة تعقيدها وصعوبة حلّها، فإذا عرف المعنيون أسباب تفشي الأمراض بين البشر، من الممكن أن يضعوا الحلول المناسبة، ولابد من القول أن اكتشاف الدواء وحده للأمراض قد لا يقضي عليها، ولا يوقف زحفها على البشرية وتضخّمها، لذلك قيل (إن الوقاية خير من العلاج).
الوقاية من المرض قبل وقوعه، يكمن في الكشف عن أسبابه، ومن ثم الشروع العلمي العملي في معالجة تلك الأمراض ليس بطريقة العلاج بالدواء المناسب وحده، وإنما عن طريق كبح جماح الأمراض بالكشف عن أسبابها ومحاصرتها، وهو ما يؤدي بالنتيجة إلى معاونة العلاجات الطبية (العقار وسواه)، للقضاء على المرض.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، تطرّق لأزمة (كثرة الأمراض)، ورصد الأسباب التي فاقمت منها، حيث قال في كتابه الموسوم بـ (الأزمات وحلولها):
(لقد تعقدت أزمة الأمراض بعد أن كثرت في بلاد الإسلام وغيرها، بما لا مثيل له في السابق، ومن أسباب ذلك تفشّي المحرَّمات التي أدت بدورها إلى تكاثر الأمراض، ومن هذه المحرمات، معاقرة الخمر، والمقامرة، وأكل الميتة وغيرها).
الكف عن المتاجرة بالمحرّمات
إذا نحن نقف وجها لوجه أما الأسباب التي أدت بطريقة أو أخرى، إلى تزايد الأمراض بين البشر، وقد ذكرها الإمام بتسمياتها الدقيقة، وحذّر منها، وطالب بمحاصرتها وتجفيفها في بلاد المسلمين أو في سواها، تُرى هل التزم من يعنيه الأمر بهذه التحذيرات الواضحة، أم أنهم أغلقوا أبصارهم عن الأسباب التي فتكت بالناس، فتركوا الحلول الناجعة، بسبب المنافع المادية والتجارة بهذه المحرمات!
يظهر أن هناك من لا يعنيه كثرة الأمراض بين سكان الأرض، ونعني بذلك أصحاب الشركات الجشعة، فما يهمهم هو كيف يربحون أكثر، أما أن يموت الملايين، وتحاصر الأمراض فقراء الأرض، فهذا أمر لا يعنيهم من قريب أو بعيد، وهو ما يدل على بشاعة الشركات الربحية العالمية التي تروّج للمحرمات القاتلة للإنسان، وما يؤكد ذلك أيضا انتشار صالات القمار على مستوى عالمي.
لا يتوقف انتشار الأمراض على ما ذًكِرَ في أعلاه، وإنما توجد أسباب أخرى تسهم بدورها في جعل الأمراض أكثر سطوة على الإنسان، ومنها الانحرافات الجنسية والشذوذ بمختلف أنواعه، فهناك من يسعى لضرب القيم والضوابط التي تنظم العلاقات الجنسية بين بني البشر، منهم من يروج للمثلية، ويسمح بها بل ويضع لها لوائح حقوقية، متناسيا أن الأضرار الصحية التي تتسبب بها كبيرة وخطيرة.
تحت بند الحقوق والحريات يتم تمرير قيم زائفة وخطيرة، تغطي على القيم الإنسانية الأصيلة التي وضعتها البشرية في الأسس الرصينة لعلاقاتها المتبادَلة، فهناك منظمات ومؤسسات تدعم الانحراف الجنسي حتى وصل الأمر ببعض الحكومات أن توافق على الزيجات بين الجنس الواحد (رجل من رجل، وامرأة تتزوج من امرأة)، غافلين عن النتائج الصحية المرعبة.
وما مرض الإيدز (نقص المناعة)، إلا مرضا واحدا فتاكا ظهر كنتيجة للعلاقات الجنسية المنحرفة التي سُمحَ بها تحت يافطة حماية الحريات والحقوق، في حين أن الأخيرة معروفة وواضحة للعيان، وضعها الفلاسفة والمفكرون وشرحوها وحددوا ماهيتها، بما يحافظ على الجنس البشري ويحميه من التجاوزات المنحرفة.
الإمام الشيرازي أكد على هذه النقطة في قوله:
من أسباب كثرة الأمراض (الانحرافات الجنسية بين الجنسين أو الجنس الواحد، مما يسبب الإيدز والأمراض الأخرى).
القلق مرض العصر كيف نكافحه؟
هنالك أيضا سبب آخر شائع في عصرنا الحالي، إنه القلق، حيث تجد الإنسان، رجلاً كان أو امرأة، يعيش في دوّامة من القلق، وهو ما يؤدي بالنتيجة إلى أمراض نفسية وعضوية جسيمة، فهناك ترابط وتعالق بين الروح والجسد، إذا أُعيب أو أُعطِبَ ينعكس ذلك على الوضع النفسي للإنسان والعكس يصح.
مما نراه أحيانا، إنسانا لا تظهر فيه عيوب جسدية، لكنه قد يكون مصابا بالفصام، وهي حالة تؤدي إلى تعدد السلوك وردود الأفعال والتذكّر، فيعيش الإنسان نفسه في شخصيتين مختلفتين، سببه حالة الذهان أو الفصام التي يعاني منها بسبب المرض النفسي الذي ألمَّ به، وغالبا ما يكون القلق هو المسبّب الأول لتعطيل قدرات الإنسان الروحية والعقلية، فيخسر المجتمع طاقات يحتاجها في كل الأحوال.
يقول الإمام الشيرازي:
ومن أسباب الأمراض (القلق، فإنه يساعد على كثرتها، حيث أن القلق النفسي يؤثر في الجسم، كما أن انحراف الجسم يؤثر في الروح، مما يؤدي بالنتيجة إلى إنسان مصاب بالأمراض النفسية والعضوية).
ومن العاهات الاجتماعية التي تسببت في انتشار الأمراض، تلك الخطوات التي تسعى إلى تدمير القيم الخاصة بالتزام الآداب والسنن السلوكية في المجتمع، فقد كثرت حالات ضرب الآداب من قبل الناس، لاسيما الفئات العمرية التي لا تزال في دائرة مقتبل العمر، كالمراهقين والصِبْية، حيث يدخل هؤلاء في متاهة ضرب الأسس الأخلاقية والسلوكية السليمة، ومنها على سبيل المثال كثرة التدخين.
حيث يؤكد الإمام الشيرازي على أن (عدم الالتزام بالآداب والسنن، مثل كثرة التدخين ـ حتى بين الأطفال ـ يسبب سرطان الشفة واللسان والحنجرة والرئة.. بالإضافة إلى الأمراض الأخرى).
يورد الإمام الشيرازي وصية قالها الإمام علي لولده الحسن (عليهما السلام)، وهي تدخل في إطار تنظيم التعاطي السليم والالتزام بأسس تناول الطعام، وكيفية مواجهة الأمراض الشائعة، فنقرأ ذلك في كتاب (الأزمات وحلولها):
(قال الأصبغ بن نباته: سمعتُ أمير المؤمنين عليه السلام يقول لابنه الحسن عليه السلام: يا بُني، ألا أعلَّمك أربع كلمات تستغني بها عن الطب؟ فقال: بلى، قال: لا تجلس على الطعام إلا وأنت جائع، ولا تقم عن الطعام إلا وأنت تشتهيه، وجوِّد المضغ، وإذا نمت فأعرض نفسك على الخلاء، فإذا استعملت هذا استغنيت عن الطب).
الأسباب التي ذكرها الإمام الشيرازي فيما تقدم أعلاه، معروفة ومؤشَّرة وظاهرة للعيان، وفي حال تم التعامل معها وفق الخطط الصحيحة، كل جهة تقوم بمسؤوليتها، في التوجيه أو الإعلام والمحاضرات، والندوات، وتقديم العون علميا وعمليا، فإننا كمجتمع نكون قد وضعنا أمراض العصر خلف ظهرنا، وهو ما يجعل العالم كله أفضل من ذي قبل.
اضف تعليق