التوجه العلمي للدراسات والبحوث التاريخية، يشكل تلبية لحاجة علمية ملحّة، إهتداءا بتوجيهات الإمام الشيرازي الراحل، لجهة تحصيل الثقافة الموسوعية، والمعرفة العلمية الرصينة، في مادة الدراسات التاريخية للطالب والمتحصل، في جميع مراحل دراسته في المدارس الدينية، من المقدمات إلى السطوح والسطوح العليا.. إلى ما بعد ذلك
أثرى الإمام المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي، المكتبة العربية والإسلامية، بمؤلفات رصينة ومهمة، في علوم شتى، منها موضوع التاريخ العام عموماً، وفي الدراسات والمنهج البحثي التاريخي خصوصاً، إذ يعتبر(قده) من بين الندرة من الفقهاء المجتهدين المراجع، إن لم يكن الفرد فيهم، ممن أولى الدراسات التاريخية أهمية إستثنائية، وأفرد لها الوقت والجهد، في الكثير من البحوث والدراسات، والمؤلفات والتصانيف، حتى عد من الفقهاء المؤرخين، أو المؤرخين الفقهاء، لوفرة نتاجه العلمي في هذا الحقل المعرفي، فقد وضع يده على العلّة السببية للبحث فيها، ودالّة الإهتمام العلمي بمفرداتها.
إن العلّة التي أثبتها(قده)، في توجهه لهذا الجهد العلمي والبحثي (التاريخي)، وسببيته بالإهتمام المتميز فيه، يوعزها إلى أن المرجع الديني معني في تلبية الحاجة الثقافية والمعرفية للمهتمين فيها، لينهلوا ما يلبي حاجتهم من ثقات المصادر وعدولها، وبالتالي فهو يفتح الآفاق لاستكمال المطلب، من خلال التواصل والإستمرار والإشباع، سواء للمؤلفين والباحثين فيه، أو القارئ المتلقي، ولهذا فقد أولى الدراسات التأريخية، والبحث في التراث العلمي، العربي الإسلامي، جهداً كبيراً، تمثّل في البحث والتأليف، فضلاً عن جهوده في التوعية والتثقيف.
كان(قده) متيقناً من أن الإنغلاق عن هذه الدراسات، والسكوت عن البحث فيها، يترك ثلمة في الدراسات الدينية عموماً، وفي البحث والتحقيق الفقهي بشكل خاص، وبذلك يكون (قده) قد أنجز هذا الفرض كفاية، إن لم يكن عيناً، داعياً المفكرين والدارسين والباحثين إلى إستكمال هذه المسيرة العلمية، سواء من قبل المتخصصين منهم في العلوم التاريخية، أو المعنيين في العلوم الفقهية، من بين المشتغلين في البحث والتحقيق، أو الدرس والفتوى، أو التبليغ والخطابة، لحاجة أولئك جميعاً، لأن يمتلكوا ناصية هذه المعرفة، بحدودها المعقولة والمجزية.
ولأجل هذه المهمة الكبيرة، والمشروع العلمي الرائد، الذي شرع به (قده)، فقد كتب في التاريخ وعلومه، وبحث في مفرداته المنهجية، واهتم بدراساته التفصيلية، وقارب تفريعاته العلمية والمعرفية، وكان توثيقياً من الطراز الأول، وتراثه المكتوب يكشف عن قدراته الموسوعية، وتمكنه من مختلف المصادر والمراجع، خاصة من خلال موسوعته الكبرى في الفقه، والتي ناهزت المائة والستين جزءا، والتي يعد البحث التاريخي إحدى حلقاتها المكمّلة.
ولم يتوقف اهتمامه (قده) بالتاريخ ومباحثه، من خلال التأليف والبحث فحسب، بل كان يوجّه ويدعو الآخرين للإهتمام به، في درسه وتدريسه وتحصيله، وهو في ذلك إنما يعبر عن حاجة علمية مباشرة لها علاقة بالتحقيق الفقهي بشكل خاص، حيث يقدّم المنهج التاريخي، حجّية موضوعية فيه، سواء أكان في دليل العقل أو الإجماع، وربما في الأدلّة النقلية كذلك، لجهة بيان الأحكام واستنباطها، لما يمكن أن يستوفي الحكم، بالدليل القطعي من الحجية التاريخية، وهو ما قد يكون العلّة الرئيسة، في اهتمامه في هذا المجال، بصفته الفقيه المجتهد والمحقق.
في مؤلفاته (قده) يؤكد دور العلوم التاريخية في الدراسات الدينية والبحوث الفقهية، لجهة ارتباط علم الفقه بعلاقة وثيقة بعلم التاريخ، الذي يعتبر جزئي من جزئياته، لكنه جزئي معنوي كسائر المعنويات، وليس جزئياً مادياً، أي إن جزئيته منه في المعنى وليس المادة، بأشكالها الحية والجامدة، رغم إن عامل الزمن ينطبق على كليهما، المعنوي والمادي، كما يعبر عنه سماحته.
ويذهب (قده) إلى أن تطور الفقه تكاملي، لجهة أن فقه كل مرحلة زمنية، تكمّل التي سبقتها، وكل فقيه يكمل ما قدم الذي قبله، فيكون بذلك تطور الفقه إلى الأعلى، وليس إلى الانحدار، كما هو أثر الزمن على الأشياء، وهو محور تمايزه عنها، وإن العلاقة الأخرى بين الفقه والتاريخ، تتشكل من خلال تسلسل مراحل وأدوار فرض الأحكام، ليس جهلاً وتداركاً، وإنما رحمة بالناس وتأهيلاً لهم، لاستيعابها والعمل بها.
وعليه يستفاد من رؤيته (قده) في هذا المضمار، أن دراسة آثار علم الفقه، والنتاج العلمي الفقهي، في مرحلة تاريخية معينة، تندرج تفريعاً في إطار حقل علمي بحثي، هو دراسات (التراث العلمي)، فيكون فرعها (دراسات التراث العلمي الفقهي)، التي تنصرف إلى التحقيق في مناهج البحث الفقهي، ضمن نطاق المرحلة الزمنية والمكانية، والآثار العلمية المنجزة فيها، من مؤلفات ومصنفات، أنجزها العلماء والفقهاء في تلك المرحلة، ثم تقييمها بعد تحليل معطياتها، وفق منهج علمي تجريبي واستقرائي، يستدل على استنتاجاتها، من استقراء تام لكافة جوانب المرحلة التاريخية، وفق منهج البحث التاريخي.
ولهذه الأسباب العلمية، تظهر الحاجة الماسة لدراسة تراث الإمام الشيرازي الراحل، في هذا المجال الحيوي، بقصد تيسيره والتعريف به، وإلقاء الضوء على ما تميز به (قده) في حقول علم التاريخ (بحثاً وتأليفاً) - (فكراً وفلسفة)، واقتفاء آثار الأهداف التي نشدها في ولوجه هذا المجال البحثي العلمي، لتحفيز اهتمام طلاب العلوم الدينية، على مستوى مناهجهم التدريسية، والتدريسيين والمشتغلين فيها، لعلاقتها بتخصصاتهم، ودالّاتهم الوظيفية عموماً.
إن الاهتمام العلمي المتميز بالدراسات التاريخية، يخلص إلى تعميم الفائدة من مخرجاتها المعرفية، وقد يكون سِفره (قده) (فلسفة التاريخ)، نموذجاً متميزاً في تراثه ونتاجاته، كونه يعد عصارة المنجز الإبداعي، في هذا الحقل العلمي التخصصي، إلى جانب باقة من الإصدارات القيّمة، في هذا المضمار العلمي. وإن المباني المضمّنة في هذا السِفر الثمين، تقدم نموذجاً لأهمية الدراسة الدقيقة للتاريخ العام، والتاريخ الفقهي بشكل خاص، لجهة جوانب الرصد العلمي لقوانين ونظريات علم فلسفة التاريخ، وارتباطه الوثيق في الجوانب السلوكية الفردية والمجتمعية، وفي أداء الدول ومسار الحضارات، وقد تثبت ذلك بشكل تبصّري وفق ما يمكن أن يعرف بالمنهج البحثي التاريخي في بصائر النص المقدس، وبذلك يكون البحث أيضاً ضمن تفريعات العلوم القرآنية.
وهي تشكل المبررات والحاجات العلمية للبحث التاريخي عموماً، والبحث المقارن خصوصاً، في الفقه والتاريخ، وقد بين (قده) أن موضوع (فلسفة التاريخ) يعد المادة الحيوية الرئيسة للدراسات التاريخية، لعلاقتها الصميمة بالروح العامة للدراسة التاريخية، وضرورتها لكل من المتخصص في الدراسات الدينية والفقهية حصراً، فضلاً عن تحصّل الثقافة الرصينة في هذا المجال العلمي المعرفي، لعموم الباحثين والمتخصصين والمهتمين بالفكر والدراسات الإنسانية.
وعليه فإن التوجه العلمي للدراسات والبحوث التاريخية، يشكل تلبية لحاجة علمية ملحّة، إهتداءا بتوجيهات الإمام الشيرازي الراحل، لجهة تحصيل الثقافة الموسوعية، والمعرفة العلمية الرصينة، في مادة الدراسات التاريخية للطالب والمتحصل، في جميع مراحل دراسته في المدارس الدينية، من المقدمات إلى السطوح والسطوح العليا.. إلى ما بعد ذلك في البحث الخارج، وعلى طريق الاجتهاد، ضمن التواصل في التحصيل العلمي.
وفي ذكرى رحيله، فرصة لتجديد دعوته (قده)، لإعادة النظر في المناهج التدريسية في المدارس الدينية ولمختلف مراحلها، من خلال الاهتمام بمادة التاريخ وفروعه العلمية، لينسحب ذلك إيجاباً إلى المباحث الرجالية وعلوم الحديث، وعلوم الدراية والرواية، وإلى مباحث التراجم والأنساب، وغيرها من البحوث والتحقيقات الفقهية والتراثية.
اضف تعليق