هي أزمة مزدوجة وغالبا ما تكون مترابطة، إنها أزمة البطالة والديون التي تترتب على ذمة الدولة، أو في الحقيقة على (ذمة الشعب)، واقع حال الاقتصاد العالمي يقول أينما تتواجد البطالة تتراكم الديون، ويمكن أن تنعكس الحالة، فحين تكون الدولة أو الجماعة أو حتى الفرد مديناً...
هي أزمة مزدوجة وغالبا ما تكون مترابطة، إنها أزمة البطالة والديون التي تترتب على ذمة الدولة، أو في الحقيقة على (ذمة الشعب)، واقع حال الاقتصاد العالمي يقول أينما تتواجد البطالة تتراكم الديون، ويمكن أن تنعكس الحالة، فحين تكون الدولة أو الجماعة أو حتى الفرد مديناً، فلابد أنه يعاني من انعدام الدخل بسبب البطالة والموارد بأنواعها.
لنأتِ أولا إلى أزمة الديون، فهي تشكل ظاهرة عالمية تعني منها الكثير من الدول، بسبب إجحاف النظام الاقتصادي العالمي القائم على الاحتكار والاستحواذ، وغالبا ما يلاصق أزمة الديون أزمة محايثة لها، ونعني بها أزمة البطالة، والسبب الأكبر والأساس في اختلاق هذه الأزمة المزدوجة هو الاستبداد.
الأنظمة الحكومية الدكتاتورية هي السبب في أزمة الديون والبطالة، فلكي تحمي هذه الأنظمة عروشها تختلق الأزمات، وفي المقدمة منها الحروب، والحروب تحتاج إلى أموال هائلة، والأخيرة تحتاج إلى قروض (الديون بمختلف أنواعها ومصادرها)، إذاً لكي يبقى الحاكم المستبد في الحكم لابد من مشكلة أو حرب، وهذه تحتاج إلى تكاليف كبيرة، والأخيرة تبرر الاستدانة والاقتراض دونما اعتراض، فحجة الحاكم مكفولة لأنها تتعلق بـ (حماية الأرض والشرف!).
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يؤكد في كتابه القيم، الموسوم بـ (الأزمات وحلولها):
(من أهم أسباب الديون كثرة الحروب (المدمرة)، وهذه تؤدي بدورها إلى كثرة القروض وبالتالي زيادة كبيرة في الديون، لذلك على الدول تجنّب الحروب بصورة مطلقة).
لكي تتجنب الدول أزمة الديون، عليها أن تتجنب الحروب بأقصى ما يمكنها، ولكن نحن نتحدث عن حكومات مستبدة فاسدة وفاشلة، وهذا النوع يبحث عن الحروب ويديمها، لكي يديم حكمه ويطيل عمر عرشه بقدر المستطاع، ولهذا السبب يُقال أينما وُجدت الحروب تجد الحكام المستبدين الفاشلين.
أنظمة الاستبداد وصناعة الحروب
صناعة الحروب سبب من أسباب أزمة الديون، وهنالك أسباب أخرى لا تقل ضررا عن الحرب، إنها ترتبط بحاجة الحاكم للتأييد وتجنّب السقوط، لذلك يذهب إلى حل آخر هو كثرة التوظيف للإكثار من الموظفين المؤيدين له ولحكومته، فلكي يبقى الحاكم مستمرا ومؤيَّدا، لابد من وجود أعداد هائلة من الموظفين المطبلين المؤيدين له، بغض النظر عن إثقال كاهل الدولة وإضعاف اقتصادها.
ما يبحث عنه الحكام المستبدون الفاسدون وحكوماتهم النفعية الفاشلة، البقاء في السلطة، وهذا لن يحدث ما لم يتوافر الدعم اللازم للحاكم والحكومة، وهذا يتطلب توظيف الناس بما يفوق الحاجة الفعلية للدولة، وهذا يعني ازدهار (البطالة المقنعة)، فيُضاف إلى عبء البطالة الحقيقي خطر فادح أو نوع آخر من المخاطر يتمثل بالبطالة.
يقول الإمام الشيرازي عن هذه النقطة:
(من أكبر الأزمات هي أزمة الديون التي نشأت لأسباب كثيرة منها (كثرة الموظفين) في الدول، ومن الواضح أن كثرة الموظفين ناشئة من: الاستبداد حيث يحتاج الحاكم ومعاونيه إلى مهلّلين ومصفّقين).
ولو أننا بحثنا طبيعة هؤلاء الموظفين في ظل الحكومات الاستبدادية، فإننا سوف نجد الحالة السائدة بينهم هي (الفساد والانتفاع غير المشروع)، وقد تم تثبيت حالات هدر وفساد وإسراف هائلة لموظفي الحكومات الفاسدة، فبالإضافة إلى أن التوظيف ليس في محلهِ، ولا يأخذ مصلحة الشعب بالحسبان، نجد أن الموظف نفسه مزروع بالنفعية الانتهازية والفساد.
هذه الحقيقة المرّة لا يقتصر وجودها في الحكومات المستبدة، فقد لوحظت أيضا حتى في الدول الديمقراطية السائرة على المنهج الغربي، وإذا كان الأمر يحدث بهذا الشكل في دول تحكمها أنظمة تدّعي الديمقراطية، فما بالنا بالدول الدكتاتورية، وما الذي يحدث فيها؟؟، لذلك تترتب على التوظيف المضاعف في الحكومات الفاسدة أضرار ذات ضرر مزدوج، الأول أن الموظف فائض عن الحاجة أساساً، والثاني أنه موظف منتفع فاسد مسرف في هدر المال العام.
يقول الإمام الشيرازي في كتابه المذكور أعلاه:
(هذا، بالإضافة إلى أن الموظفين في الحكومة الديكتاتورية يتصرفون في المال تصرفاً بإسراف كبير، كما لوحظ ذلك بوضوح في عراق صدام، وفي إيران الشاه وغيرهما.. وهذا جار أيضاً حتى في الدول الديمقراطية التي تسير على الموازين الغربية فكيف بالدولة الديكتاتورية).
جزء مهم من الحل يكمن في إيقاف التوظيف الفائض أو المقنّع، من خلال منع الجهات الحكومية السياسية الحزبية أو سواها، عن ترويج سياسة الوظائف على أساس الانتماء الحزبي أو المناطقي، ومنع المحسوبية والواسطة، وردع الطبقة السياسية عن الانتفاع من الانتفاع و (التحاصص) الوظيفي لغايات بلوغ السلطة ومنافعها.
ظاهرة البذخ عند الحكام المستبدين
من أوجه ومسببات أزمة الديون، لجوء الحكام المستبدين إلى ظاهرة البذخ، وهي غالبا ما تلتصق بحكام مرضى بالسلطة، ويعانون من نقص مرير في الشخصية، يسعون إلى تعويضه في هدر الأموال العامة بقضايا شخصية، مثل إقامة الاحتفالات المبالغ بها، كما كان يحدث ولا يزال مع حكام مستبدين يصرفون المليارات في أعياد ميلادهم أو ذكرى تنصيبهم وما شابه.
فكيف لا تحدث أزمة ديون وهناك حاكم يصرف ثلث ميزانية الدولة في ذكرى تتويجه كحاكم!!، وكيف لا تزداد البطالة في ظل هذا النوع من البذخ وتأليه الذات الحاكمة، لاسيما عندما يتملق المقربون والمعاونون والمؤيدون (ومعظمهم موظفين)، للحاكم ويجمّلون له مثل هذا الإسراف والبذخ وكأنه أمر طبيعي!!
يذكر الإمام الشيرازي في كتابه هذا، أن (أحد حكام إفريقيا الوسطى، صرف لتتويجه ثلث ميزانية الدولة!!، وقد تم عزله لاحقا).
ماذا يحدث في دولة حاكمها يجرؤ على هذا النوع من الإسراف؟، وما الذي ينتج عن هذا السلوك الذي يحدث ويتكرر في جميع الدول المحكومة بأنظمة مستبدة فاسدة؟؟، لاسيما أن المختصين في علم الاقتصاد، ربطوا بين الديون والحروب من جهة، وبين الديون والبطالة من جهة أخرى، وهو واقع حال الدول التي تُدار بحكومات دكتاتورية، أو ديمقراطية مزيفة وفاشلة.
لذلك يتأكد بصورة فعلية قول الإمام الشيرازي: (من أسباب الديون، البطالة التي تعد من أكبر الأزمات). فأينما تجد الديون متراكمة في دولة ما، سوف تجد البطالة تعشش في أركانها وزواياها، وهو ما ينطبق فعليا على الدول ذات الأنظمة السياسية المستبدة، أو ذات النظام الديمقراطي الأعرج.
لكن في الحقيقة هناك مسؤول آخر غير الحكومة، يتحمل مشكلة الديون والبطالة، إنه الشعب، فالأخير يتقاسم مع الحكومة الفاشلة المستبدة مسؤولية الفشل، وتراكم الديون وتزايد نسب البطالة، أما كيف يشترك الشعب في هذا الفشل وهذه المسؤولية، فيتم من خلال الكثير من النواقص والإشكالات الاجتماعية والثقافية والسلوكية، التي تنعكس على الشباب بدرجة أكبر.
منها على سبيل المثال، دفع الشباب وتشجيعهم على التوظيف في الدولة، وتحويلهم من إنسان منتِج إلى آخر مستهلك، مشبع بثقافة الاتّكال واللامبالاة والبحث عن الوظيفة المضمونة حتى لو كانت محدودة، وتحد من تفكير وفرص الشاب وتحد من طاقاته وقدراته.
يقول الإمام الشيرازي:
(يشترك في إنتاج أزمة البطالة الحكومة والشعب، حيث يتم توجيه الشباب إلى الوظائف لا إلى الأعمال الحقيقية، فالموظف مستهلك، والعامل منتج، وصار التوجه من الإنتاج إلى الاستهلاك، وبذلك كثر الموظفون كثرة هائلة هي أضعاف ما تحتاج له الدولة في واقع الأمر).
في الخلاصة نحن في مواجهة سلسلة من الأزمات التي تحتاج إلى حلول، ومنها هذه الأزمة ذات الطابع المزدوج (الديون / البطالة)، أسبابها واضحة، وحلولها أيضا قدّمها الإمام الشيرازي في شروح سهلة واضحة وبسيطة، لكنها تحتاج إلى برامج معالجة تقوم على قاعدة الإرادة القوية والإدارة العلمية الناجحة في التطبيق.
اضف تعليق