هذه الأيام هناك قضية رأي مهمة يتناقلها الناس بمختلف مستوياتهم، تتعلق بقانون تسعى السلطة التشريعية في العراق إلى مناقشته، وهو قانون الجرائم المعلوماتية، وقد أثار هذا القانون مخاوف المنظمات الحقوقية والإعلامية فضلا عن مؤسسات وشخصيات أخرى، ترى في تشريع هذا القانون وفق بنوده الحالية، خطوة لمحاصرة الرأي ومصادرته، والعودة بنا إلى مربع السلطة الفردية...
(للرأي تأثيره الكبير في تقوية الحاكم أو إضعافه)
الإمام الشيرازي
حرية الرأي من أهم المعايير التي تميّز بين الأنظمة السياسية الحاكمة، فالنظام الذي يراعي الرأي ويحميه ينتسب إلى الأنظمة القائمة على التشاور والرافضة للفردية في الحكم، على العكس من ذلك حين يقوم نظام الحكم على مصادرة آراء الناس، ومنعهم من الإدلاء الحر والتصريح بآرائهم دون مضايقات أو تكميم أو تحريم بحجج معظمها يتم تبريره لحماية أنظمة الحكم التي تخشى الرأي فتصادره.
بوجه عام، يعد الرأي اعتقادًا ذاتيًا ويكون نتيجة لـ مشاعر أو تفسير لـ الحقائق. ويمكن تأييد الرأي عن طريق الحجج بين الأطراف المؤيدة والناقضة، على الرغم من أنه يمكن عرض آراء معارضة تدعمها مجموعة الحقائق نفسها. ونادرًا ما تتغير الآراء دون تقديم حُجج جديدة.
وهناك نوع آخر للرأي ونقصد به الرأي العام، وهو تكوين فكرة أو حكم على موضوع أو شخص ما، أو مجموعة من المعتقدات القابلة للنقاش وبذلك تكون صحيحة أو خاطئة، وتخص أعضاء في جماعة أو أمة تشترك في الرأي رغم تباينهم الطبقي أو الثقافي أو الاجتماعي، فيعترض ذلك مع الرأي الخاص الذي يشير إلى أمور ومسائل شخصية تتعلق بفرد واحد.
والرأي العام هو ذلك التعبير العلني والصريح الذي يعكس وجهة نظر أغلبية الجماعة تجاه قضية معينة في وقت معين. والرأي هو التعبير عن آراء جماعة من الأشخاص إزاء قضايا، ومسائل أو مقترحات معينة تهمهم، سواء أكانوا مؤيدين أو معارضين لها، بحيث يؤدي موقفهم بالضرورة إلى التأثير السلبي أو الإيجابي على الأحداث بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في لحظة معينة من التأريخ.
درجة الاهتمام بالرأي وتنظيمه وحمايته، تعود إلى نوع النظام السياسي، فالأنظمة التي تسعى للارتقاء بشعوبها وتزيد من قوتها وصلابتها، هي الأنظمة الاستشارية البعيدة عن الاستئثار بالسلطة ومغرياتها وامتيازاتها، لذلك حين أهملت الحكومات الرأي، ولم تعطهِ الاستحقاق الكافي، ضعف الأمة، وتكالب عليها الاستعمار، وتخلخل نسيجها الاجتماعي وضاعت عليها فرصة البقاء في الصدارة.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يقول حول هذه القضية في كتابه القيّم، الموسوم بـ (الرأي العام):
(إن عدم الاهتمام بالرأي ينعكس على سائر مقومات التقدم والرقي، وكان مما أدى إليه إهمال الرأي إضعافها الأمة، ووقوعها بين مخالب الاستعمار إعلامياً وثقافياً واقتصادياً وعسكرياً وغيرها).
لا للعودة إلى مربع الاستبداد
هذه الأيام هناك قضية رأي مهمة يتناقلها الناس بمختلف مستوياتهم، تتعلق بقانون تسعى السلطة التشريعية (البرلمان) في العراق إلى مناقشته، وهو (قانون الجرائم المعلوماتية)، وقد أثار هذا القانون مخاوف المنظمات الحقوقية والإعلامية فضلا عن مؤسسات وشخصيات أخرى، ترى في تشريع هذا القانون وفق بنوده الحالية، خطوة لمحاصرة الرأي ومصادرته، والعودة بنا إلى مربع السلطة الفردية الذي غادره العراقيون منذ أكثر من عقد ونصف.
وهذا يتناقض مع مبدأ تكريس النظام السياسي الداعم لحرية الرأي، لاسيما أن الجماهير تحتاج إلى من يضع أقدامها على الجادة الصواب، في مجال الحريات، وحق الرأي، والقيام بالرقابة على الأداء الحكومي، وإعلان الرأي نهارا جهارا دون خوف أو ملاحقات قانونية، لكنّ مصادرة الرأي أو مضايقة الناس من قول آرائهم بحرية يتناقض مع ما هو معلن حول استشارية النظام.
على العكس من ذلك يجب على الحكومة والسلطات الأخرى حماية الرأي، ودعم حق التصريح بالضد من الحكومة ومؤسساتها أو معها، المهم في هذا الحق هو تصحيح المسارات الخاطئة، وتشجيع الناس على فهم حقوقها وحمايتها من خلال حملات إعلامية رصينة تعرف كيف تساعد الناس على حماية الحقوق والتشبث بها، لاسيما أننا نعيش اليوم في عصر الغزو الثقافي والإعلام المضلّل.
الإمام الشيرازي يؤكد حول هذه النقطة قائلا:
(لابد من الحصانة الفكرية والإعلامية في هذا الخضم المتلاطم من التحوير والغزو الفكري والإعلام المزيف والصحافة المنحرفة، ولابد للرأي من توجيه وإرشاد عبر العلماء والمثقفين، وتعريف الجماهير المطالبة بحقوقها المشروعة، وقضاياها العادلة في الحرية والاستقلال وعدم التبعية).
إذاً الخطوة الصحيحة التي يجب أن تنهض بها حكوماتنا ومؤسسات النظام السياسي الأخرى، ليس مصادرة الرأي أو محاصرته، بل تشجيع الناس على قول آرائهم بحرية، ودونما خوف من عواقب محتمَلة، وإلا ما هو الفرق بين الأنظمة الاستشارية التعددية وبين الأنظمة الدكتاتورية الأحادية؟
مهمة تثقيف الجماهير على معرفة حقوقها، وأساليب حمايتها، يجب أن تقع ضمن أولويات النظام السياسي التعددي، لاسيما أن النسبة الغالبة من الناس تكاد تجهل هذه الحقوق، أو تخشى المطالبة بها بسبب التهديدات التي قد تتعرض لها، لذلك من الأخطاء الجسيمة أن يرتكب النظام السياسي الاستشاري، كارثة مصادرة الرأي أو منع الأشخاص والمنظمات المدنية بمختلف تخصصاتها من قول رأيها بحرية.
الإمام علي (ع) نموذجا لاحترام الرأي
وهذا ما يشير إليه الإمام الشيرازي بوضوح في قوله: (يجب تثقيف المجتمع بالثقافة الصحيحة حتى يعرفوا الحق من الباطل، مع وجوب حماية الرأي والحريات وعدم انتهاكها).
ويدخل في إطار حماية الرأي قضية حرية الصحافة، فهذا الأمر يعد من واجبات النظام الذي يدّعي الاستشارية، وأية مضايقة أو تحديد لحرية الصحافة، لا ينسجم مع توجهات الأنظمة التعددية، لذلك أية محاولة تسعى لتقويض دور الإعلام في التوعية والتوجيه، تعد معادية للجماهير، وتضعف الدولة، وتضع الحكومة أمام الكثير من علامات الاستفهام؟؟!
أما لماذا على النظام التعددي حماية وسائل الإعلام وتسهيل مهماتها، فهذا يدخل في مسار مصلحة الشعب والدولة، لأن معاداة الإعلام ومحاصرة وسائله هو نوع من أساليب القمع الدكتاتوري، ولا علاقة لمثل هذا السلوك بالأنظمة التعددية، وطالما أن النظام الاستشاري هدفه مصلحة الشعب أولا وأخيرا كما هو معلَن، فإن حماية حرية الصحافة والإعلام، يجب أن يقع في مركز دائرة اهتمامه.
الإمام الشيرازي يؤكد على هذه النقطة بقوله:
(لابد من تقوية وسائل الإعلام وإعطائها الحرية الكافية في نشر الرأي، وممارسة مهامها ضمن أطر مشروعة تصب في خدمة المصلحة العامة).
ولنا في الحكومات التاريخية الناجحة شاهدا ونموذجا، ولنا في القادة العظماء الخالدين تجارب يمكن أن يستمد منها قادتنا السياسيون الدروس والخبرات، في التعامل مع حرية الرأي حتى المعارض منه، فقد كان الإمام علي عليه السلام في طليعة المهتمين بالرأي العام والخاص على حد سواء.
وكان عليه السلام يوصي الولاة والعاملين في الأمصار المختلفة بالاهتمام الشديد بالرأي العام، ويعدّه مصدر قوة للأمة وللدولة وللدين ولوحدة الصف، وداعما لمتانة النسيج المجتمعي، وقد طالب الإمام علي عليه السلام ولاتهُ بالإصغاء التام إلى الناس واحترام آرائهم من دون تمييز أو إهمال، بل طالبهم بالميل إلى جانب الناس وآرائهم وما يرونه حول شؤونهم المختلفة.
الإمام الشيرازي يقول حول ذلك: (كان أسلوب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام احترام الرأي العام، حتى ورد أنه كان إذا بعث والياً قال له: وإنما عماد الدين، وجماع المسلمين، والعدة للأعداء، العامة من الأمة، فليكن صِغوكَ لهم وميلك معهم، وقال (ع): من استبد برأيه هلك، وقال: صواب الرأي بالدول (التداول)، يُقبل بإقبالها ويذهب بذهابها).
إنه درس واضح وبليغ لساسة الدول الإسلامية، ومنها العراق ونظامه السياسي الذي يوصف بالتعددية الاستشارية، ولكي يبقى هذا الوصف السياسي مستداما، ليس أمام هذا النظام السياسي إلا حماية الرأي، وحرية الإعلام، بمختلف الصنوف العاملة في هذا المجال، وعدم مصادرة الرأي كي لا نعود إلى حقبة أنظمة الاستبداد والقمع.
اضف تعليق