اخذ رجال عظماء ومفكرون ومصلحون وقادة عبر التاريخ على عاتقهم مسؤولية ضمان عدم اللجوء الى خيار العنف المسبب الرئيسي لدمار البشرية التي تتخذ اشكال الحروب المسلحة والنظريات المنحرفة التي تسببت بخسائر بشرية ومادية هائلة لا يمكن تعويضها. ومن بين هؤلاء الرجال يبرز المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي...
مقدمة
هل تتفق مع من يقول "اننا نعيش في زمن العنف الشامل!" وان أصوات الدعاة الى اللاعنف تكاد تكون معدومة وسط ضجيج العنف الذي يعتبر بوضوح من "المصاديق الظاهرية لتغلب القوى الشريرة في الإنسان على القوة الخيرة"، القوة الخيرة التي خفت ضياؤها برحيل قادتها عن منابر الإصلاح والدعوة بالأفعال والاقوال الى نبذ كل اشكال العنف، صغيرها وكبيرها، لأنها لا تؤدي الا لدمار الافراد والمجتمعات وتحكم الاستبداد والدكتاتورية وغياب الحريات والحقوق واختلال ميزان العدالة الاجتماعية وضياع فرص الرفاه الاقتصادي والتعايش الإنساني بسلام وهدوء وطمأنينة...
سيذكرني قومي إذ جد جدهم … وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
لقد اخذ رجال عظماء ومفكرون ومصلحون وقادة عبر التاريخ على عاتقهم مسؤولية ضمان عدم اللجوء الى خيار العنف المسبب الرئيسي لدمار البشرية بمختلف صوره التي تتخذ اشكال الحروب المسلحة والاقتصاد والسياسة والامراض والاستعمار وحتى الأفكار والايديولوجيات والنظريات المنحرفة التي تسببت بخسائر بشرية ومادية هائلة لا يمكن تعويضها.
نموذج فذ
ومن بين هؤلاء الرجال يبرز المرجع الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) الذي كانت له بصمة مميزة وأسلوب مختلف في دعوة الناس الى ترك العنف والتمسك باللاعنف لان: "الرفق وعدم العنف أحسن وسيلة لقلع جذور المشاكل الاجتماعية أو التخفيف منها، وأيضاً، تعويق الحركات المضادة أو المعادية"، وقد دعا جميع البشر الى اتباع سبيل اللاعنف في حياتهم الخاصة والعامة مع التأكيد على خصوصية: "إن المسلمين بأمس الحاجة إلى أن يعتمدوا اللاعنف منهجاً وسلوكاً في جميع أعمالهم" اقتداءً بقادتهم لان: "منهج اللاعنف والرفق هو المنهج والسلوك الذي سارع إليه آل البيت (عليهم السلام) فكل إمام من أئمة الهدى له سفر خالد في مجال اللين والرفق والهداية".
من جانب اخر فان المرجع الراحل السيد الشيرازي كان يؤمن بان الأديان السماوية جاءت بدعوة السلم واللاعنف وهي السياسة التي سار عليها الأنبياء والمرسلين وينبغي ان يسير عليها جميع المؤمنين والمسلمين بل وجميع بني البشر: "إن منطق الرسل والأنبياء هو منطق السلم واللاعنف والاحتجاج العقلاني من أجل إنقاذ البشرية، حيث يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم حول استخدام السلم واللين والابتعاد عن العنف والغلظة، واستخدام سياسة العفو والاعتماد على منهج الشورى كأسلوب في الإقناع الحر والحوار السلمي والمشاركة في اتخاذ القرار: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فأعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين) آل عمران: 159.
لقد اعتبر الامام الشيرازي: "إن الجانحين إلى السلام بقوا أعلاماً في بلادهم، وفي غير بلادهم بينما الجانحون إلى العنف والخشونة والشدة والغلظة ذهبوا ولم يبق لهم أثر إلا آثار النفرة والابتعاد"، هم بقوا اعلاما، لأنهم حققوا الكثير من المنافع والفوائد لمجتمعاتهم خاصة وللبشرية بوجهها الاعم.
ومن الثمار الإيجابية التي يراها المرجع الراحل لإسلوب اللاعنف في الحياة هو:
1. انتشار الأمان والطمأنينة والمحبة والتعاون بين الناس.
2. الثمار الإيجابية التي يجنيها الإنسان من سياسة اللاعنف في حياته هي محبة الآخرين والتفاف الناس حوله.
عالمية اللاعنف
ان عالمية وإنسانية الدعوة لنبذ العنف واعتناق السلم هو ما ميز الامام الشيرازي عن الاخرين من دعاة اللاعنف، ويرى الدكتور اسعد الامارة ان: "الشيرازي في دعوته إلى مبدأ اللاعنف لكل البشرية دون استثناء، اعتمد على صياغة مفاهيم الحياة صياغة جديدة وممارسة شؤونها ممارسة فعلية، لذا نلاحظ من الواضح أن الغاية الأولى لديه عكست ما انطبع في نفسه من تعاليم ومنهج القرآن الكريم بكل شموليته العظيمة، وهو أعظم تعبير عن طموحه الذاتي والموضوعي المعرفي في مبدأ اللاعنف".
ويضيف الامارة: "نادى الإمام الشيرازي بمبدأ التغيير في كل مجالات الحياة ومواكبة حركة التطور الطبيعي للتاريخ وحركة التغيير الاجتماعي، ومن هذا المنطلق الفكري كان ينادي حتى وفاته باستخدام مبدأ اللاعنف في كل مجالات الحياة، فالإمام الشيرازي يرفض العنف والعدوان كأسلوب لحل المشكلات باعتبارها من الأساليب التي تؤثر في حياة الفرد والمجتمع، ويستند سماحته في ذلك إلى ما ورد في القرآن الكريم من آيات صريحة لا تقبل اللغط وما ورد في سنة رسول الله (صل الله عليه واله وسلم) وروايات آل بيت الرسول (عليهم السلام)، فيقول السيد الشيرازي: إن السلام يصل بصاحبه إلى النتيجة الأحسن، والمسالمون يبقون سالمين مهما كان لهم من أعداء، ويطرح أفكاره ونظريته التي تساير وتواكب التمدن والتغيير الاجتماعي كمبادئ تحولت إلى ميدان التطبيق الواقعي، وهو بنفس الوقت يرفض جميع أنواع التسلط والتعسف والعنف على الأفراد أو على الشعوب في سياق التعاملات الفردية والجماعية، ويستمد هذه الرؤية من قول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: (ادخلوا في السلم كافة) البقرة: 208 ويستطرد السيد الشيرازي مؤكداً على مبدأ اللاعنف كحقيقة لا يرقى إليها الشك إطلاقا في الدين الإسلامي بقوله: إن الأصل في الإسلام: السلم واللاعنف".
الخلاصة
ان الحاجة الى إعادة احياء نظرية اللاعنف وتراث الامام الشيرازي في مجال السلم والدعوة الى وقف العنف ضرورة ملحة نتيجة للعنف الشامل الذي تعيشه البشرية في الوقت الراهن، العنف الذي شمل الافراد والاسرة والمجتمع والدول وتنوعت اساليبه بين الحروب العسكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية والعنصرية والدينية، بالإضافة الى الحروب التي تدار عن طريق الاعلام وبث الاشاعة وسياسية التجهيل والتخلف والتي أدت الى دمار مجتمعات كاملة وحولتها الى ساحة للحروب التي لا تنتهي.
هذه الضرورة لخصها أستاذ علم النفس والباحث السيكولوجي الدكتور اسعد الامارة بقوله: "لقد جمع الإمام الشيرازي في طرحه لمبدأ اللاعنف أرقى الآراء والأفكار والاتجاهات الحديثة، بل ربما تنوعت بأبعادها أكثر مما طرحه سابقه داعية اللاعنف المهاتما غاندي، أحد أبرز رواد هذا الاتجاه في النصف الأول من القرن العشرين، وربما تجاوز معاصريه في التقسيمات التخصصية النوعية لمبدأ اللاعنف... فهو أبدع بطرحه كنظرية معرفية تارة، وأبدع باعتباره شكّل مدرسة اجتماعية إنسانية ذات أبعاد سيكولوجية لمبدأ اللاعنف تارة أخرى، فضلا عن العنصر الفعال في العمل والسلوك أو التنظير العقلي تارة ثالثة، فقد نسج نظرية واتجاهات حديثة متجانسة عن اللاعنف، تناول خلالها رؤيته وأفكاره وأسلوبه العملي وخلفيته كإطار نظري مرجعي للرؤية الإسلامية، ونجح في ذلك أعظم نجاح، رحم الله المفكر والمبدع الخلاق السيد الشيرازي في فطنته النادرة إلى الكشف عن طبيعة احتياج النفس الإنسانية قاطبة إلى مبادئ اللاعنف التي وضعها".
لقد دعا المرجع الشيرازي الى المجتمع القائم على "الاستشارية" من اجل التخلص من العنف وتبعاته لان: "المجتمع الاستشاري هو الذي تربط أفراده علاقات روحية متبادلة، سواء العلاقات بين أعضاء الحكومة، أو بين الحكومة والشعب، أو بين الشعب والحكومة، في إطار الواقعية والعقلانية، وبذلك سيكون الحكام على مستوى راق من الشعور بالمسؤولية، وبالمقابل سيدعم الشعب الحكام باستمرار دون الالتجاء إلى العنف".
كما دعا (رحمه الله) الى جعل كل تحركاتنا سلمية حتى في المطالبة بالحقوق المسلوبة، لعدم منح أي فرصة للاستبداد او العنف باستخدام السلاح او القوة في مواجهة هذه المطالب: "من المهم جداً تحييد السلاح أولاً، حتى لا يدخل الميدان لصالح الدكتاتور، وغالباً يمكن تحييد السلاح، وذلك بعدم لجوء الشعب الى السلاح في إضراباته ومظاهراته، وأن تكون حركته سلمية، تتجنب العنف والشدة"، اذ ان "الحرب من أبرز مظاهر العنف خصوصاً الحروب الحديثة، فاللازم الحيلولة بكل صلابة وقوة دون وقوعها، ودون وقوع مقدماتها".
اضف تعليق