q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

درس كورونا ولطف الكلام

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

نحن اليوم نمر بأزمة عالمية قد تكون غير مسبوقة على الأقل في تاريخنا المنظور، وهذه الأزمة وإن كانت صحية في ظاهرها، إلا أن المنبع المسبّب لها أخلاقي، فغياب قواعد الحوار الصحيحة، ولطف الكلام، وحسن السلوك، والأخلاق السامية بين الأمم والدول والجماعات والأفراد، هو من قاد العالم إلى الكارثة...

ليس اعتباطا أن يركّز علماء النفس والمختصون على أهمية اختيار الإنسان بدقة لثلاثة عناصر مترابطة هي (الأخلاق، السلوك، اللفظ) كي يكتمل الهدف من خَلْقهِ ووجودهِ!، هذه الثلاثية نجدها موجودة في جميع الشخصيات العظيمة التي خلَدتْ في التاريخ البشري، وهي أيضا أدوات يمكن من خلالها للإنسان أن يتبوّأ المكانة المتميزة روحيا ومعنويا وواقعيّاً، ويحقق بوساطتها قبولا وتفاعلا جمعيّا.

يحدث هذا في الظروف الواقعية الطبيعية للإنسان، فما بالك حين يكون الإنسان لطيفا ودودا في ظروف عصيبة يمر بها العالم كما نعيش اليوم تحت ضغوط كورونا وتهديداتهِ، حتما ستكون الحاجة للطف الكلام وصحة السلوك ورقيّ الأخلاق مفعولا سحريا في تعميق العلاقات الإنسانية والارتفاع بها إلى مستوى القدرة على الخلاص من الأزمات والمصاعب الخطيرة كما نعيشهُ اليوم.

ومما يميّز الإنسان المعطَّر كلامه باللطف واللين أن الناس تتقرب وتتودّد إليه، كما يزدحم الناس على أي شيء حَسِن المظهر والجوهر، ففي كل الحالات نحن نحتاج إلى هذه العناصر الثلاثة وهي متلازمة مع بعضها، بدءاً من الكلام الطيّب الموزون (الكلمة الطيبة صدقة)، مرورا بحسن السلوك الذي تقوّمهُ الأخلاق الرفيعة (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وما تجدر الإشارة إليه أن الإنسان بمقدوره أن يدرِّب ويعوِّد نفسه على ألطف الكلام وأحسنهِ.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (لين الكلام):

(مهم أن يعوّد الإنسان نفسه على الكلام اللطيف حتى مع أعدائه ولا يستعمل السباب والشتم وما أشبه، والمثل يقول: (المنهل العذب كثير الزحام) والقول اللطيف هكذا أيضاً حيث يلتف الناس ويجتمعون حول الإنسان صاحب الخلق الحسن والكلام الجميل...)

شخصية الإنسان بالصورة التي رسمناه فيما تقدَّم من كلمات مطلوبة على الدوام، فهي ليست حكرا على زمن معيّن أو أشخاص معدودين، إننا كمسلمين وبشر نحتاج إلى الإنسان الذي تكتمل شخصيته بثلاثية (الأخلاق، السلوك الحسن، ولطف الكلام)، ولكن عندما تمر الأمة أو المجتمع أو العالم أجمع بأمور خطيرة ومعقدة تهدد الوجود البشري، من الحريّ بالجميع سواءً كانوا قادة ومسؤولين أو من عامة الناس، أن يحرصوا على هذه الصفات، فهي من شأنها تخفيف الآلام وتقليل الخسائر وتقوية القلوب والأرواح على مواجهة الأزمات المعقدة والخطيرة كما يحصل لعالمنا المُصاب اليوم بكورونا.

 

أحْسِنْ إلى جميع الناس

نحن كمسلمين مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى في ظل هذه الأزمة أن نصحو من غفلتنا، وعلينا أن نعود إلى التجارب والسيَر العظيمة في تاريخنا، كي نفهم كيف نتعامل مع الظروف المعقدة، ونفهم جيدا ما هي أهمية التعامل الحسن مع الآخر، وما الذي نقطفه من ثمار نتيجة لتعاملنا المتكافئ والرحيم مع بعضنا، وكيف يمكن للتعامل الجيد والصحيح بين الجميع أن يرتقي بنا إلى مراتب عالية من العلم والتنظيم والإنسانية التي تحمينا من المخاطر التي تهدَّد حياتنا.

وفي كل الأحوال لا يعمّر الإنسان إلى الأبد في هذه المعمورة، إنه معرّضٌ للفناء، ولا يبقى منه سوى ما يتركه للآخرين من مواقف وسلوكيات وأخلاق تميّزه وتجعله أقرب من غيره إلى الناس، وتسِم سيرته بالذكر الطيّب، ويبقى اسمهُ مضيئا بلطف كلامه وحسن سلوكه وعظمة أخلاقه التي يحب من خلالها ما يحبّهُ للآخرين، ويستقبح لهم ما يستقبحه لنفسه.

يتساءل الإمام الشيرازي:

(متى يتنبّه المسلمون من غفلتهم هذه؟ ولنتعظ بوصايا أئمتنا الأطهار عليهم السلام، فمن وصايا أمير المؤمنين لابنه محمد بن الحنفية يقول له: أحسِنْ إلى جميع الناس كما تحب أن يحسن إليك وارض لهم ما ترضاه لنفسك واستقبح لهم ما تستقبحه من غيرك، وحسّن مع الناس خلقك حتى إذا غبت عنهم حنّوا إليك وإذا متّ بكوا عليك).

ولعل ما يدعو إلى التركيز على موضوع هذا المقال، لطف الكلام والسلوك وحسن الأخلاق، هو ما نعيشهُ اليوم من واقع مؤسف متأزم خالٍ (في كثير من النواحي) من هذه الثلاثية المتلازمة، حتى بين المسلمين أنفسهم، فالعالم كُشف على حقيقته في ظل هيمنة جائحة كورونا، وبانت هشاشة الدول والقوى المتنمرة، وافتضح أمر الحكومات المتجبرة والطاغية شرقا وغربا.

المسلمون اليوم تفتك بهم الخلافات، وتخلو حواراتهم وتصريحاتهم وحتى علاقاتهم من لطف الكلام ولينه، وقد يرتفع هذا المانع إلى سوء السلوك فيسودهم العداء المتبادَل، في وقت هم أحوج فيه إلى لطف الحوار وحسن السلوك والتعامل بأخلاق رفيعة زرعها فينا نبينا وأئمتنا عليهم السلام، لكن ما يحدث في واقع المسلمين لا يشي ولا يدل على اعتماد هذه الثلاثية العظيمة التي تجعل الجميع أقرب من بعضهم البعض، وتحثّهم إلى التعاون والتكاتف في مواجهة الأزمات من أي نوع كان.

اللفظ العنيف لا صديق له!

لا يجب أن تسود خشونة التصريحات والكلمات بين المسلمين مع بعضهم أو بينهم وبين غيرهم من الأمم، ولا خلاص لنا كمسلمين ولعالمنا اليوم إلا بمحو العنف وغلظة الكلام والقلوب، لأن الخشونة إذا تفشّت بين الناس ستكون أكثر فتكا من كورونا أو غيرها، فإذا كان هذا المرض يحصد الأرواح ويشل الحياة برمّتها، فإن غلظة الكلام وسوء الأخلاق والسلوك تدمّر القلوب وتلوّث النفوس ويُصبح العالم كله ملوّثا مدمَّرا وآيلا للفناء.

هذا وسواه يدعونا إلى لطف الكلام، ويفرض علينا التعامل الطيب مع بعضنا، ويشدّد علينا كي نحمي بعضنا البعض، ونكفل من يحتاج إلى كفالتنا من ملبس ومأكل ومرض وجهل وسكن وسوى ذلك مما يحتاجه الإنسان، لأن مهمة الناس جميعا ليس الاحتراب ولا العدوان ولا الخشونة، بل مهمتهم العكس تماما، وهذا لا يمكن إنجازه إلا بلطف الكلام الذي يقود بدوره إلى حسن السلوك والأخلاق.

يقول الإمام الشيرازي:

(في حياتنا المعاصرة نشاهد العكس من ذلك حيث المسلمون متفرقون هنا وهناك، بسبب الغلظة والعنف وسوء المعاملة المتفشية بينهم، الأمر الذي يساعد على وقوع الخلافات بينهم والهزيمة بهم).

ومما لم نتنبّه إليه، هو الفارق الكبير بين ما ينتج عن المادة وبين ما ينتج عن الروح أو جمال الكلام، فالمال يمكنك أن تشتري به احتياجاتك المادية وتكمل به نواقصك التي تُرى بالعين وتُلمس باليد، ولكن هل يمكنك شراء مشاعر الناس الصادقة بالمال؟؟، وهل يمكنك أن تشتري حبّهم الصادق بالفلوس؟؟

نعم هم يتملقونك إذا وجدوا مصلحتهم المادية عندك، فمتى كنتَ تمنحهم النقود يمكنك أن تكسب ألسنتهم وتأييدهم الظاهري فقط، أما القلوب فلا يشتريها إلا الكلام اللين اللطيف، فمتى كنت لطيف الكلام أحبوك ومتى كنت غليظ الكلام هجروك، وحب الناس لك لا يتحقق بالبذخ عليهم مطلقا، وإنما بأخلاقك السامية تجاههم وسلوكك الراقي، هذا هو وحده رأس المال الحقيقي الذي يبقى رصيدا محفوظا للإنسان في حياته وبعد مماته.

الإمام الشيرازي يؤكد على:

(إن اللطف والرفق يفعلان ما لا يفعله الدينار والدرهم، وإن اللفظ العنيف لا صديق له، وإنْ أُنفق صاحبهُ حتى أسرف، وذو اللطف والرفق يجتمع حوله الأخلاء وإن كان فقيراً، كيف لا والدينار حظ الجسم، واللينُ من حظ الروح؟).

نحن اليوم نمر بأزمة عالمية قد تكون غير مسبوقة على الأقل في تاريخنا المنظور، وهذه الأزمة وإن كانت صحية في ظاهرها، إلا أن المنبع المسبّب لها أخلاقي، فغياب قواعد الحوار الصحيحة، ولطف الكلام، وحسن السلوك، والأخلاق السامية بين الأمم والدول والجماعات والأفراد، هو من قاد العالم إلى الكارثة التي يعيشها اليوم، وحتما أن الخلاص من هذه الأزمة الخطيرة والأزمات المخبوءة الأخرى، يكمن في إعادة النظر بكلامنا وسلوكنا وأخلاقنا، ولا يُستثنى أحد في العالم من هذا الحلّ الذي سوف يتحقق فيما لو أحسن العالَم التصرّف مع الدرس الذي يتلقّاه اليوم.

اضف تعليق