مطلوب من الحكومات أن تبتعد عن أساليب العنف كافة في تعاملها مع شعوبها، فاللين والعفو واللاعنف يضمن عدم الانفضاض عنها، أما في حال اعتماد العكس، ولجوء الحكومات إلى وسائل العنف المعروفة، فإن النتائج معروفة مسبقا، لأن الأذى والظلم والاستبداد والاستمرار في انتهاك الحقوق، سيصل بها إلى الهاوية وليس حافّتها....
لم يتّخذ إلا القلّة من السياسيين مبدأ اللاعنف كطريق أو سبيل لإدارة السلطة والدولة، بل نلاحظ الغالبية من الحكام والحكومات، تلجأ إلى وسائل الردع والعنف في مواجهة ما يطالب به الناس من حقوق أساسية وحريات مكفولة، أقرّتها الأديان وكفلتها اللوائح الحقوقية التي أصدرتها منظمات حقوق الإنسان العالمية (المعترَف بها) على مدى قرون مضتْ.
وعلى الرغم من النجاح المشهود تاريخيا لمبدأ اللاعنف في معالجة الأزمات الخطيرة، أو الأوضاع الطبيعية لحياة المجتمعات، إلا أن الهوس بالسلطة والاستحواذ وشراهة النفوس، دفع بالنسبة الأغلب من الحكومات والحكام، إلى اتخاذ أساليب العنف سبيلا لحماية مصالحها وعروشها، وهو ما يشير إليها التاريخ السياسي العالمي على مر الأزمان.
هناك تجارب مشهودة اتخذ فيها زعماء وعلماء ومفكرون مبدأ اللاعنف طويقا لتحقيق أهداف أممهم وشعوبهم، وقد حصلوا على نتائج باهرة في هذا المجال، ولعلّ أقربهم تاريخيا، القائد الراحل نلسن مانديلا، وقبله غاندي الذي حارب الاستعمار الانكليزي بمبدأ اللاعنف وتغلب عليه، وجعل من هذا المبدأ منهج حياة آمن به ملايين الهنود حتى هذه اللحظة.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، أحد أبرز هؤلاء المفكرين والعلماء الذي نادوا بمبدأ اللاعنف، حتى ذهب إلى وضع نظرية خاصة عُرفَت بنظرية اللاعنف التي نادى من خلالها الجميع، (حكومات وأفراد)، إلى الإيمان بهذا المبدأ واعتماده في إدارة شؤونهم وأزماتهم ومصالحهم المختلفة، إيمانا منه بأن هذا هو الأسلوب يضمن التغيير والتحوّل من النمطية والرتابة التي تدمّر طاقات الإنسان، إلى انتهاج أسلوب حياة وتفكير متطوّر.
لقد نادى الإمام الشيرازي بمبدأ التغيير في كل مجالات الحياة ومواكبة حركة التطور الطبيعي للتاريخ وحركة التغيير الاجتماعي، ومن هذا المنطلق الفكري كان ينادي حتى وفاته باستخدام مبدأ اللاعنف في كل مجالات الحياة.
لهذا دعا سماحته القادة والساسة وكل أفراد الأمة بل البشرية جمعاء، إلى إعطاء مًلكة اللاعنف ما تستحقه من اهتمام، بل جعلها القوّة المحركة التي بمقتضاها تتغير حياة الفرد والمجتمعات، وتتحول من خلالها رؤية الحاكم للسلطة من حالة الاستبداد إلى حالة العفو الضامنة لحقوق وحريات الناس المعروفة والمكفولة، نظرا لما يمتلكه مبدأ اللاعنف من قوة تأثير على سلوك الحاكم.
الإمام الشيرازي يقول في نظريته المعروفة: (إن قوة الروح غالبة على قوة الجسد ومَلَكة (قدرة Ability) اللاعنف من صفات الروح التي تؤثّر في سلوك الإنسان وتصرفاته).
فوائد التحلّي بمبدأ السلام
وطالما أننا ننتمي للإسلام، وهنا نعني أولا الحكام والدول العربية والإسلامية، فإن الإيمان بمبدأ اللاعنف ينبغي أن يكون ركيزة أساسية ُدار وتُنظّم بها أو عبرها حياتنا، وهنا لابد من التذكير بأنّ الساسة الذين يؤمنون بالإسلام، ويريدون تطبيقه فإنهم ملزمون بشكل قاطع بمبدأ اللاعنف، كونه يشكل الجوهر الأساس للإسلام، نظرية، أو تطبيقا، أو منهجا وسلوكا في تنظيم الحياة.
لذلك ينبّه الإمام الشيرازي على هذه النقطة بوضوح حين يقول: (على الذين يريدون تطبيق الإسلام أن يتحلوا بملكة السلام واللاعنف).
ليس فقط من أجل ضمان سلامة الأمة وضمان حقوقها وحرياتها، بل لأن السلطة نفسها تأمن على نفسها من ردود الأفعال التي لا يحمد عقباها، فالعنف كما عُرف عنه يؤدي إلى عنف مقابل، وهكذا يمكن الدخول في دوّامة العنف لا تُعرف نهايتها أو نتائجها كما يجري في العراق اليوم، وما يدور بين السلطات والجماهير المحتّجة التي تعتمد العنف في المظاهرات كرد فعل على القوة العنيفة التي تتصدى لها.
لذلك ندعو جميع الأطراف إلى الابتعاد التام عن العنف، لأنه لن يؤدي إلى النتائج المطلوبة مطلقا، بل يعقّد الأمور ويزيدها احتقانا، أما مبدأ اللاعنف الذي دعا إليه الإمام الشيرازي حتى أخر لحظة من حياته، فإنه يبعد الأذى عن الجميع، لأن السلام الذي هو نتيجة راسخة لمبدأ اللاعنف، يُسهم دائما في ضمان الحقوق المتعارف عليها للأطراف المتصارعة أو المطالب المتناقضة.
يقول الإمام الشيرازي: (إن السلام يصل بصاحبه إلى النتيجة الأحسن، والمسالمون يبقون سالمين مهما كان لهم من أعداء).
وقد يقول قائل لابد من أن ندافع عن أنفسنا، بمعنى إننا إذا تعرضنا للعنف كيف نحمي أنفسنا دون أن نواجه ذلك بعنف مقابل، وهنا لابد من التنبيه والتوضيح إلى أن اللاعنف نفسه يقي الإنسان من العنف، وهذا مجرَّب ومعروف، فالشخصيات المسالمة التي تسعى لتحقيق أهدافها بعيدا عن الخشونة وإلحاق الأذى بالآخرين، تجدها في أمن دائم ولا تتعرض إلى العنف، لأن اللاعنف هو وقاية من العنف.
الإمام الشيرازي يقول في هذا الجانب: (نعم.. ليس من معنى اللاعنف أن لا يقي الإنسان جسمه من الصدمة الموجهة إليه، فهو وقاية العنف).
الاحتجاج العقلاني أسلوب المتحضّرين
لذا حين ندرس سِيَر الأنبياء عليهم السلام، سوف نلاحظ أن منطقهم الدائم هو السلم، وإن كان هناك ما يعترضون عليه من أقوال أو أفعال صادرة بحقّهم، فإن الاحتجاج العقلي ينبغي أن يكون هو السبيل الوحيد لإيصال صوتهم إلى من يتجاوز على حقوقهم، أو يسعى لإلحاق الأذى بهم.
بمعنى أنّ من يؤمن بالأنبياء، ومنهم نبينا محمد صلى الله عليه وآله، فإنه مطالَب بتطبيق مبدأ اللاعنف في حياته، ولغرض بلوغ أهدافه واسترجاع ما ضيِّع منه ظلما، يجب أن يتم ذلك بأسلوب الاحتجاج العقلاني الذي كان يلجأ إليه الأنبياء، بعيدا عن أساليب وصور العنف بمختلف أنواعها ودرجاتها
يقول الإمام الشيرازي: (إن منطق الرسل والأنبياء هو منطق السلم واللاعنف والاحتجاج العقلاني من أجل إنقاذ البشرية).
في المقابل على الحكومات والسلطات بأنواعها، استخدام وسائل السلم واللين والعفو، وتحاشي الوقوع في دوامة العنف والعنف المقابل، والانتباه إلى حالة الاستدراج التي قد تقع فيها، فمن يلجأ من الحكومات إلى العنف سوف تبتعد عنها الناس ولا تؤيدها بل ستكون المقاومة ورد الفعل العنيف حاضرا وربما مستمرا.
نقرأ ما كتبه الإمام الشيرازي في هذا الإطار: (يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم حول استخدام السلم واللين والابتعاد عن العنف والغلظة، واستخدام سياسة العفو والاعتماد على منهج الشورى كأسلوب في الإقناع الحر والحوار السلمي والمشاركة في اتخاذ القرار: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك، فأعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين} (آل عمران: 159)
وتبقى النفوس القوية هي وحدها القادرة على التمسك بمبدأ اللاعنف كمنهج لها في إدارة شؤونها المختلفة، لا يخص ذلك السلطة وحدها، بل الجميع حتى الأفراد معنيون بذلك، وعليهم أن يعوا تماما بأن عليهم تربية نفوسهم على التعاطي الخالص والصادق مع مبدأ اللاعنف، والابتعاد التام عن أساليب التصادم مع الآخرين، حتى القوة لا ينبغي مواجهتها بالعنف، والدليل أن غاندي لم يرفع السلاح على الاستعمار الانكليزي ولم يطلب من مؤيديه فعل ذلك.
لهذا يجب أن نتحلى كمسلمين أولا وكبشر ننتمي للإنسانية، سواءً كنا حاكمين أو محكومين، نتحلى بنفوس قوية جدا، نتلقى الأذى بصدور رحبة، ونحاول بأقصى ما يمكن أن لا نردّها، فهذا من شيم وأخلاق المسلمين الصادقين، وهو يجعل الحكومات في مأمن من عنف الناس ورفضهم لها والاحتجاج عليها.
يقول الإمام الشيرازي: (إن مبدأ اللاعنف يحتاج إلى نفس قوية جدا تتلقى الصدمة بكل رحابة، ولا تردها وإن سنحت الفرصة).
بالنتيجة مطلوب من الحكومات أن تبتعد عن أساليب العنف كافة في تعاملها مع شعوبها، فاللين والعفو واللاعنف يضمن عدم الانفضاض عنها، أما في حال اعتماد العكس، ولجوء الحكومات إلى وسائل العنف المعروفة، فإن النتائج معروفة مسبقا، لأن الأذى والظلم والاستبداد والاستمرار في انتهاك الحقوق، سيصل بها إلى الهاوية وليس حافّتها.
اضف تعليق