عمل السيد محمد الشيرازي إلى صناعة الوعي الإسلامي الطارد لجذور التخلف، وإحياء قيم الإسلام في عقول المسلمين ونفوسهم، والعمل على بناء نخبة واعية تصنع الوعي والحقائق المضادة للانحراف، والمساهمة في بناء وقائع وحقائق مجتمعية تتبنى مشروع الإسلام، وتعمل من أجل تمكينه في الأرض. وقد طرح...
على مدى قرون طويلة، عاشت معظم بلاد المسلمين وقائع قاسية من التقتيل والتشريد والخوف والخراب والقمع والقهر والحرمان، فقد سعى خلفاء البغي وحكام الجور إلى سلب الشعوب قدراتها، وكبت حرياتها، وتصفية (معنوية أو جسدية) كفاءاتها، بموازاة ذلك، كرّست "الفتاوى والآداب السلطانية" في أوساط المجتمع واقعاً إستسلامياً عبر "تأصيل ديني" للاستبداد، وعبر ذلك، تسربت إلى النفوس قابلية الخضوع للواقع المريض، حتى تحول ذلك الخضوع –تدريجياً- إلى واقعية يعيشها الناس أو يتعايش معها، وكأنها أمراً مقضياً. وقد ترك كل ذلك، آثاراً مأساوية أسست لانحدار في شتى مجالات الحياة.
هذا الواقع المريض، طبع أكثرية المجتمع بثقافة برّرت الانحرافات وكبّلت الإرادات، الأمر الذي انعكس على فهم كثير من الناس للإسلام، فلم يعد الإسلام ديناً ينظم العلاقة بين الإنسان وخالقه، ويرشده إلى حيث سعادته في الدنيا ونجاته في الآخرة، بل الإسلام إنما جاء لدعم السلطان وليُخضع الإنسان، فاختارت تلك الشريحة من الناس أن تكون "تابعاً". بينما شريحة أخرى، اعتبرت الإسلام دين عبادات عاجز عن بناء دولة، فاتجهت إلى "العلمنة".
فيما لازمت ثلة من المؤمنين هدي أهل البيت (عليهم السلام)، فسعت إلى تنوير الأمة من أجل استرداد وعيها وحريتها، وصولاً لاستعادة إيمانها ومجدها.
بعض من الثلة المؤمنة توقف عند محطة فكرية وفقهية لا تملك مقومات كافية لاستيعاب تطور الفكر الإنساني وتنامي وسائل العيش ومتطلبات الحياة، لاسيما في القرنين الفائت والجاري، فقد شهد العالم وما زال تطورات أثّرت سلباً وإيجاباً في العالم الإسلامي، تبعتها تغييرات في الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والقانونية، فقضايا (حجم الدولة)، (حقوق الإنسان)، (اللجوء الإنساني والسياسي والهجرة)، (الأمن الغذائي)، (توسع وسائل الإعلام والاتصال) وغيرها، هذه القضايا أنتجت واقعاً جديداً حمل معه متطلبات واستفهامات.
ثم إن هذا الواقع الجديد، المتسارع في تغييراته ومتغيراته، استوجب صناعة أنظمة قانونية محلية ودولية، واستلزم حقوقاً ومسؤوليات جديدة لـ وعلى الإنسان المعاصر. وفي عالم الاقتصاد، الذي يلعب دوراً كبيراً في تأمين مصالح الشعوب، حدثت تطورات جديدة، مثل توسع التجارة الدولية، وشبكة البنوك والبورصات العالمية، ومشكلة الديون، والسوق الحرة، كل ذلك وضع المسلمين أمام تحد كبير هو: هل يمكن للأحکام والقوانين الاقتصادية الإسلامية أن تواكب هذا التطور السريع.
فلقد سيطرت نظم المصارف والبنوك والضرائب الحديثة على الأسواق والمجتمعات الإسلامية، ولا يمكن للمسلم اليوم أن يعيش داخل إطار ذاته وقوانينه التي وضعت لبيئة تختلف اختلافاً أساسياً مع البيئة التي نعيشها اليوم.
ومن ذلك، كانت الحاجة ماسة إلى حراك فكري وتحديث فقهي لمواكبة تطور الحياة من خلال "التوفيق" بين أحكام الإسلام والمتغيرات المعاصرة. فكانت الحاجة ذاتية وموضوعية، فردية ومجتمعية، إلى الإصلاح الثقافي والفكري، وإلى التجديد الديني.
وذلك من خلال تجديد الفهم والمعرفة للنصوص الشرعية والواقع، وإنهاء المفارقة التاريخية بين الإسلام والمسلمين، بين الشريعة وفهم الشريعة، بين الدين والتدين، وتأمين القدرة على استيعاب التفاصيل والجزيئات والمتغيرات في إطار الثوابت والكليات وذلك عبر عملية الاجتهاد، وتقديم تفسير جديد (أصيل أو متجدد) لمفاهيم الإسلام وقيمه، حيث إن التجديد يساهم بتقديم رؤية جديدة لقيم الإسلام التي صنعت أمجاد الحضارة الإسلامية.
ففي عهد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وخليفته علي بن أبي طالب (عليه السلام)، حرر الإسلام الإنسان من أغلال الجاهلية، وأعاد له إيمانه بإنسانيته وقدرته على الإصلاح والإبداع والتقدم، ولذلك فإن بداية إعادة الصرح الحضاري لهذه الأمة، يكمن في وضع منهج متكامل، يستمد طاقته من مصادر التشريع الإسلامي، ويرسي كلياته وجزئياته قادة الأمة وروادها من مراجع ومفكرين.
لهذا فإن إحياء قيم الإسلام وإزالة الركام التاريخي عنها، وبيان أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، ولخلق الفاعلية الحضارية للمسلمين لابد أن يكون عن طريق تفسير نهضوي لقيم الإسلام ومبادئه، لا سيما إن الإسلام يشكل بأنظمته وتشريعاته، ثروة هائلة وغنية بالمضامين التي تساهم في رقي الإنسان مادة وروحا، ولكن هذه الثروة المتميزة، تحتاج باستمرار لمواكبة العصر ومستجداته، والإجابة عن أسئلة الراهن وتطوراته، إلى إعمال العقل واستفراغ الجهد الفكري والمعرفي، لتظهير هذه الكنوز المعرفية والروحية والأخلاقية، ودون عملية الاجتهاد الفكري والمعرفي والفقهي، ستبقى هذه الكنوز في كليات القيم والخطوط التشريعية الكبرى في الإسلام، ودون إمكانية إنسانية على الاستفادة منها حق الاستفادة. لهذا فإن الاجتهاد الفكري -كان ومازال- ضرورة إسلامية، وحاجة مجتمعية ماسة.
ويعد الإمام المجدد، السيد محمد الحسيني الشيرازي أبرز المجددين والتحديثيين، حيث استوعبت أفكاره وإنجازاته جل مفردات الدين والحياة، من خلال موسوعيته الثقافية، وإحاطته الفقهية الممتزجة بقدرة الانفتاح، وشجاعة الطرح، وتحمّله نتائج المواقف التي تحفظ المبدأ، وإنْ أغضبت سلطة وأزعجت أدعياء وأنعقت رعاعاً.
فقد امتلك عقلية مبدعة ومبتكرة، مكنته من الإبداع والتجديد والتطوير في حقول المعرفة الدينية، وبالخصوص في علم الفقه وأصوله، ففي المجال الفقهي لم يتوقف عند الأبواب المعتادة التي تبدأ بالاجتهاد وتنتهي بالديات فحسب، بل استحدث أبواباً جديدة وتفريعات فريدة، فيوم كان الفقه يدور حول أبواب محدودة، حيث قسمه الفقهاء العظام إلى العبادات والمعاملات، وقسمت العبادات إلى الطهارة ثم الصلاة والصوم...الخ، وقسمت المعاملات إلى العقود والإيقاعات، استحدث(قده) أبواباً جديدة، فكتب فقه المجتمع، والسياسة، والإدارة، والاقتصاد، والقانون، والحقوق، وفلسفة التاريخ، والعولمة، والمستقبل، والإعلام، والبيئة..
على مستوى المجتمع، عمل السيد محمد الشيرازي إلى صناعة الوعي الإسلامي الطارد لجذور التخلف، وإحياء قيم الإسلام في عقول المسلمين ونفوسهم، والعمل على بناء نخبة واعية تصنع الوعي والحقائق المضادة للانحراف، والمساهمة في بناء وقائع وحقائق مجتمعية تتبنى مشروع الإسلام، وتعمل من أجل تمكينه في الأرض.
وقد طرح أفكاره النهضوية والتوعوية (التجديدية) من خلال العديد من الكتب، منها: (ممارسة التغيير)، (الصياغة الجديدة)، (السبيل إلى إنهاض المسلمين)، وغيرها.
ودعا من خلال العديد من مؤلفاته الإصلاحية - التجديدية إلى التعددية والتسامح وإرساء قيم الاختلاف وقبول الآخر، وإشاعة ثقافة التعايش والحوار بين الأديان والثقافات، وترسيخ العقلية النقدية الحوارية، وحرية الفرد وامتلاكه لمصيره، وكذلك حقوق المرأة، والعمل على إنشاء دولة المؤسسات، وتحقيق التنمية والتقدم وغيرها من الأفكار والآراء المعاصرة، وهي قيم من جوهر الإسلام، لكنها عزلت وجمدت بفعل سطوة السلطان والفكر المتوقف.
ما وصل إليه واقع بلادنا الإسلامية -اليوم أكثر من أي زمن مضى- يؤكد أن الإصلاح ينبغي أن يبدأ بالتجديد الديني والإصلاح الثقافي، فلا يمكن أن تقوم نهضة إسلامية حقيقية في ظل سيادة ثقافة التبرير والتخلف، وأنظمة اجتماعية وثقافية تلغي إنسانية الإنسان وتمتهن كرامته.
فحجر الزاوية لمشروع الإصلاح والتجديد هو بناء ثقافة المسلمين ووعيهم بأن الإسلام منهج لتحقيق إنسانية الإنسان، وطريق سعادته في الدنيا وفوزه في الآخرة، يقول الإمام الشيرازي الراحل: (الإسلام هو منهج حياة متكامل، أنزله الله للناس كافة، يشمل عباداتهم ومعاملاتهم، ويراعي مصالحهم مع تطور الحياة، وإن علة تمكن الإسلام من حل مشكلات البشرية، هو كونه يؤمن بالعقل والنفس، ويرى الإنسانَ مركباً من الجسم والروح، ويعتقد بضرورات الدنيا وضرورات الآخرة).
اضف تعليق