من الغرابة بمكان، أن يمد لك أحدهم يده للمساعدة وترفضها، والأغرب من ذلك عندما تبدأ بمعاداة ومحاربة من يريد أن يحسن إليك ويعاونك في أمر ما، هذا الكلام ينطبق بصورة تامة على ما تقوم به بعض الحكومات مع العلماء، فالمعروف عن العلماء أنهم اصحاب طاقات ايجابية مفيدة، بالإمكان في حالة استثمارها بالصورة الصحيحة، ان تبني مجتمعا رصينا، وبالتالي تكون الدولة نفسها مستقرة ورصينة ايضا، يحدث هذا عندما يُسمَح للعلماء أن يأخذوا دورهم الصحيح في المجتمع، أما في حالة حدوث العكس، وفي حالة شن الحرب على العلماء من الحكومة وأجهزتها الامنية وسواها، فإن النتيجة لن تكون في صالح الحكومة بلا ريب.
هذا الامر أكدته التجارب الكثيرة التي حفل بها تاريخنا، حيث الحكومات والحكام التابعين لقوى اجنبية، لا يتورعون او يترددون عن ملاحقة العلماء وتضييق الخناق عليهم، ومحاصرة افكارهم وانشطتهم، مع انها تصب في صالح الحكومة والحاكم، لأن الافضل للحكومة ان تقود شعبا منضبطا منتجا لا أن تواجه شعبا جاهلا فوضويا، ودور العلماء في الغالب لاسيما الثقاة منهم، هو دور تربوي اخلاقي ديني، يحاول أن يصنع شخصية متوازنة ملتزمة ومنتِجة في آن واحد، وهذا العمل يصب في صالح الحكومة بطبيعة الحال، ولكن ما يحدث هو العكس تماما، حيث التعامل العدائي الواضح الذي يقوم به الحكام مع العلماء عن عمد وعن علم مسبق، بدلا من الاستفادة من جهودهم.
في هذا المجال تحديدا، يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (تحطم الحكومات الإسلامية بمحاربة العلماء): (إن ما صدر من أولئك الحكام الطغاة بحق العلماء من محاربة لم يكن عن جهل). وهذا يؤكد بصورة قاطعة، أن هناك أيدي ظاهرة وخفية هي التي تحرك هؤلاء الحكام وحكوماتهم، لتثير العداوات والصراع بين المسلمين أنفسهم، رؤساء ومرؤوسين، والنتيجة ستكون لصالح الأسياد حتما.
إذ يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب: إن (النزاعات بين الحكام في بلادنا تقع بأمر الأسياد، لأن السادة يريدون إيقاع النزاع بين العبيد). وطالما كان الحاكم تابعا، فإنه سوف ينفذ اوامر اسياده بمحاربة العلماء والشعب على حد سواء، حتى يضمن بقاءه في السلطة حتى لو كان فاشلا، وجاهلا في ادارة البلاد، فالمهم هنا تنفيذ خطط الاسياد ومآربهم، وليس أقدر على تنفيذ هذه المهمة من السياسيين الفاشلين التابعين.
وعي الشعوب وعلاقتهم بالعلماء
في هذه الحالة، أي عندما يوغل الحكام بتنفيذ مخططات الأسياد، فالبديل هنا هو وعي الشعب، وكلما كان هذا الوعي بمستوى عال، كلما كانت علاقة الشعب بالعلماء قوية، بل مصيرية، وهذا ما كان يحدث عبر التاريخ، كما اثبتت لنا التجارب، ففي جميع الحالات التي كان يتنمّر بها الطغاة على شعوبهم، بأوامر من أسيادهم، فإن حالة القطيعة بين الشعب والحاكم تكون واضحة، بالمقابل تزداد علاقة الجماهير قوة وصلابة مع العلماء، لهذا تخشى الحكومات المستبدة منهم، كونهم ملاذ الشعوب، ودرعهم وحصانتهم ضد الظلم والطغيان، وهكذا تشكلت علاقة مصيرية بين الشعوب والعلماء، لدرجة أن الشعوب تشكك بنزاهة وصدقية أية حكومة تحارب العلماء.
لذا نقرأ هذا المعني في كتاب الامام الشيرازي إذ يقول سماحته: (بمجرد أن ينفصل الحاكم عن العالم أو يأخذ بمحاربة العلماء، فإن الناس ينظرون لهذا الحاكم كعميل وغاصب). هكذا ينظر الشعب للحاكم الذي لا يحترم العلماء، والخاسر في هذه الحالة هو الحاكم وحكومته المتجبرة، لأن الطغيان مهما اشتد والبطش مهما استأسد واستشرى، سيكون مآله الضمور والهزيمة، كما أثبتت لنا ذلك سيرة الحكام الطغاة على مر التاريخ.
ومن العوامل التي تساعد على زوال الطغاة، وسقوط الحكومات المستبدة، تلك الحروب التي يشنها بعضهم على بعض، فتراهم في حالة احتراب دائم فيما بينهم، الامر الذي يعجّل من سقوطهم، وهذا امر بديهي، فالطغاة لا يتفقون على شيء بسبب حالة الغرور والمغالاة والمرض النفسي الذي يعتور نفسياتهم، لذلك هو في صراع دائم مع بعضهم، بل يصل الامر بالحاكم المتسلط الى العراك من ذاته، فهو لا يكون متصالحا معها قط، لهذا تصب هذه الامور مجتمعة، في أمر التعجيل بسقوط الحكام المتجبرين.
وهذا ما يؤيده الامام الشيرازي ويؤكده في كتابه نفسه عندما يقول: (من الأضرار التي تلحق بالحكام ـ الذين لا يعملون بالإسلام ويأخذون بمحاربة العلماء ـ تراهم يحارب بعضهم بعضاً على طول الخط، فبينهم نزاع شديد، كما في نص الآية الكريمة: لا تبقي ولا تذر). وهكذا يتقاتل الحكام الفاشلون فيما بينهم، وقد يكون هذا القتال والصراع فيما بينهم بأوامر من أسيادهم، بل في الغالب يتعامل الاسياد مع عبيدهم الحكام وفق مبدأ (فرّق تسد)، لأنه يهدف دائما الى زرع التفرقة بين عبيده من الحكام، مثلما يستخدم هذا الاسلوب مع الشعوب التي تنخدع سريعا ولا يمكنها التفريق بين ظواهر الامور وبواطنها.
اذا أطاع الحكام علماءَهم
هناك فرصة سانحة للحكام دائما، شرط أن يتم استثمارها في الوقت الصحيح والمناسب، ونقصد بها إقامة علاقة عميقة وحقيقية بينهم وبين العلماء، على اساس أولوية مصلحة الشعب، فمن المعروف ان العلماء لا يمكن أن يهادنوا الحكام المتجبرين على ظلمهم وأخطائهم بحق شعوبهم، ولكن عندما تكون العلاقة بين الطرفين متوازنة وقائمة على الثقة، فإن باب النصح هنا سوف يكون مفتوحا، وان العلماء عندما يلاحظون الحاكم وحكومته قد شطّت خارج الطريق السليم في التعامل مع الشعب، وإدارة السلطة، هنا سوف يبدأ النصح والتحذير والدعوة الى التغيير السياسي نحو الأفضل، أما اذا حدث العكس وساءت العلاقة بين الطرفين، الحكومة والعلماء، بسبب سوء الادارة الحكومية، فإن الخاسر هنا الحكومة بطبيعة الحال، كونها سوف تخسر دعم العلماء لها، وهذا سوف يقود الى معاداة الشعب للحكومة وعدم تأييدها أو دعمها، لأن ثقة الجماهير بالعلماء اكبر بكثير من ثقتها بالحكومة التي غالبا ما تسومها العذاب والجوع والحرمان، علما ان احترام الحكومة للشعب سوف يقود الى تفجير طاقاته، وابداعه في شتى الميادين، وهنا سوف تتحقق فائدة للطرفين الحكومة والشعب، الاولى ستكون على رأس شعب مبدع حيوي، والشعب ستقوده حكومة ناجحة، وهكذا يمكن أن تُصنع الحضارات الانسانية المتطورة.
كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي، عندما يقول في كتابه (تحطم الحكومات الإسلامية بمحاربة العلماء) موضحا هذا الجانب بما يلي: (إن التقدم والحضارة تولد من الشعوب، ولا يتمكن الشعب من صنع الحضارة او تحقيق التقدم، إلاّ إذا أطاع الحكام العلماءَ وأعطوا للشعب كامل الحرية التي منحها لهم الإسلام).
هكذا يشترط الامام الشيرازي على الحكومة وجوب سماع رأي العلماء واستشارتهم وتقديم الطاعة لهم، كونهم على اطلاع تام بدقائق الامور الاجتماعية والاخلاقية والسياسية، كذلك لديهم قدرة على توجيه مسارات الرأي بما يخدم الاستقرار والسلم الأهلي، ولديهم امكانية تقديم النصح المطلوب لمعالجة الاخطاء، حتى تتاح الفرص الصحيحة لبناء الامة والمجتمع، ومن ثم القدرة على تقديم منجز فكري حضاري يمكنه الارتقاء بالإنسانية الى مراتب أعلى، كما فعل أئمتنا وعلماؤنا واجدادنا من قبل، عندما نقلوا العالم من ضفة الظلام الى ضفة النور بوسيط مقتدر يتمثل بالحضارة الاسلامية الخالدة.
اضف تعليق