"هنالك سؤال مثير؛ لماذا الحركات الاسلامية قليلة، وعلى قلتها، لا تنجح؟، إن الذي سبب فشل هذه الحركات وايضاً الثورات، هو تراجع الوعي في الامة، فتكون حالة عدم النضوج في الساحة مما يسبب الفشل المحتوم.
وهذا من القوانين الواضحة في الحياة، فأي شيء يشوبه النقص، لن يتمكن من أداء عمله بشكل صحيح، وربما يكون المردود عكسياً وكارثياً، كما في الطائرة المختلّة في جزء بسيط منها، او حتى جسم الانسان عندما يعجز وريد صغير من تمرير الدم في الدماغ، فيجعل الانسان في "حالة طوارئ" وهكذا سائر الحالات.
إن الاسلام على ثلاث شعب:
الاولى: الشعبة الدينية، وتتضمن؛ الوعظ والارشاد والمكتبات والرسائل العملية، والدعاء، وأمثالها، وهي شعبة يزاولها جميع المتدينين، ولها مدخلية في حياة الناس جميعاً، مثال ذلك؛ خطيب بارع ومفوّه، وموضوع ثقافي واجتماعي جيد، ومستعمين بالآلاف، وباذل لإقامة هذا المجلس، فالجميع كسبوا الأجر والثواب والفائدة العظيمة، بيد ان كل هذا ليس كل الحياة، وإنما جزء منها.
الثانية: الشعبة التجديد في الاسلام، وهي الشعبة التي لم يصل اليها المتدينون، من علماء وخطباء وكتاب وتنظيمات، وذلك في وسائل نشر القيم والمبادئ الاسلامية، مثل وسائل الإعلام، ومدارس أهلية، ومستشفيات، وبنوك، وأندية، ودور عرض سينمائية اسلامية، وما أشبه ذلك.
الشريحة المتدينة في بلادنا، تطورت في هذا الجانب قليلاً، بأن أوصلوا الصوت بمكبرات الصوت الى جموع الناس، وأسسوا بعض المدارس، فقط، وحتى هذا لا يمثل كل الحياة، لنفترض انني تمكنت، وبفضل المتبرعين بشراء مئة محطة تلفزيونية، وهي تصدح بالحديث عن الامام علي والأئمة المعصومين، وعن الاحكام الدينية والاخلاق والقيم والمبادئ، وكل ذلك حسن، بل ونبذل الجهود لتحقيق ذلك، فهو الشعبة الثانية من الاسلام المتطور.
وعند هذه الشعبة نلاحظ الإعجاب من البعض لما تقوم به التنظيمات والمؤسسات وعلماء الدين والخطباء من خطوة نحو الامام من الشعبة الاولى الى الشعبة الثانية حيث التطور في الوسائل، حتى يشعر بعض القائمين على مشاريع كهذه بنوع من الزهو والفخر بأن أسس مدرسة أهلية أو افتتح مطبعة او حتى حوّل مخمّر الى مكتبة، كما قام بذلك أحد الخطباء في احدى البلاد الاسلامية، وقد وجه اليّ البعض منذ كنت في كربلاء، المديح والاطراء لما قمت به ببعض الاعمال في الشعبة الثانية (التطويرية)، بيد ان شعوري إزاءهم هو ان مشكلتهم عدم فهم الحياة، ولو كانوا يفهمون متطلبات الحياة الحقيقية لما كان لمدحهم موضع.
أما المرتبة الثالثة التي لها الارتباط الوثيق بالحياة؛ الوعي والتفكير.
بمعنى أن نعرف ما هو الحكم في الاسلام.
لو سألنا جميع المنادين بإقامة الحكم في الاسلام، منذ خمسينات القرن الماضي، وفيما بعد في المرحلة الراهنة حيث يجري الحديث عن ذلك في ايران وفي بلاد اخرى، ما هو الحكم في الاسلام؟ وما هي صورته؟ وهذا يعبر عن حالة الوعي بالهدف المراد الوصول اليه.
والخطوة الاخرى بعد الوعي؛ العمل الموصل الى تحقيق هذا الهدف، كما فعل رسول الله ، صلى الله عليه وآله، عندما جمع جماعة و زودهم بالوعي بما يتعلق بالحكم الاسلامي، ثم دفعهم نحو تسلّم الحكم، فكان صحيحهم صحيح، مثل أمير المؤمنين، عليه ا لسلام، وباطلهم باطلاً، ولكن؛ بالمحصلة، كانوا جميعاً في خط النبي الأكرم، ولم يكونوا في خط أبو لهب، او خط كسرى، او في خط النجاشي.
وإذن؛ فاننا بحاجة الى وعي سياسي للوصول الى الحكم الاسلامي الصحيح.
ربما تطلع ألف كتاب في السياسة، بيد أنك لا تجد فيها عشرة كتب تعطيك وعياً سياسياً، وايضاً وعياً اقتصادياً، كون العالم اليوم يعتمد في كثير من جوانبه على الاقتصاد، وان له مدخلية في تحريك العالم، لذا نجد أن شخصاً مثل ماركس يقول: "ان العالم يحركه الاقتصاد فقط"، وهو كلام غير صحيح، نعم؛ للاقتصاد دور في العالم، ولكن ليس العامل الوحيد.
ان الوعي الاقتصادي يمكننا من معالجة ظواهر اقتصادية واجتماعية مثل الفقر والبطالة، ونحن نقرأ الاحاديث الشريفة المحذرة من الفقر: "الفقر سواد الوجه في الدارين"، و"من لا معاش له لا معاد له"، وفي المرحلة اللاحقة بعد الوعي الاقتصادي، دفع الناس نحو تطبيق القوانين الاقتصادية، وهذا يفسر علة الحروب الاستعمارية في بلادنا، فهي جميعاً ذات طابع اقتصادي، فقد تبدل الاستعمار من سياسي الى اقتصادي، بمعنى أن البريطانيين، كانوا يحاربون من أجل فرض سيادتهم المباشرة على العراق –مثلاً-، وهذا في سالف الزمان، أما الآن فهم يفكرون في كيفية استثمار الاموال والقدرات والخيرات الموجودة في العراق وسائر البلاد الغنية.
وما ألاحظه من تأليفات بعض المتدينين، ابتعادهم عن الاقتصاد؛ لا وعياً ولا طريقاً، فالوعي وحده لا يكفي، إنما يحتاج الامر الى طريق وسبيل للتطبيق على ارض الواقع، لذا فان المطالبة بحكومة اسلامية ذات سياسية واقتصاد اسلاميين، بحاجة الى وعي ثم تطبيق عملي.
إن حالة الوعي والقدرة على التطبيق العملي، يصونان البلاد والعباد من الازمات والمحن، كما فعل غاندي، فهو لم يقود انتفاضة جماهيرية لطرد الاستعمار البريطاني من الهند فقط، وإنما اختار نخبة من المجتمع ودربهم وعلّمهم وزودهم بالوعي ثم دفعهم لتسلّم الحكم من البريطانيين، ولذا منذ استقلال الهند وحتى اليوم لا تسمع بوقوع انقلاب عسكري، بينما الدولة المجاورة للهند، والتي اقتطعت منها،وهي باكتسان، نلاحظ تعاقب الانقلابات العسكرية الواحد بعد الآخر، رغم ان باكستان تحمل اسم "جمهورية باكستان الاسلامية"، بيد ان هذه "الجمهورية الاسلامية"، لم تذق طعم الامان والاستقرار منذ انفصالها عن الهند وحصولها على الاستقلال من البريطانيين.
ومن عناصر نجاح الهنود، التزامهم نظام المؤسسات واحترام القانون، حتى أن رئيسة الوزراء السابقة انديرا غاندي تم استجوابها ذات مرة لاستخدامها سيارات الشرطة لاغراض انتخابية، بينما في بلادنا جماعات ارهابية تحصد الآلاف بالاسلحة وتقتل في الشوارع وفي اقبية السجون دون اعتراض من أحد. وهذا يعني أن غاندي فهم كيفية الوصول الى الحكم الناجح، أما نحن فبقينا من دون ذلك؛ فهم إن الحكم ليس مفهوماً مجرداً، إنما هو مشروع تربوي وتوعوي لشريحة من الناس، ربما يكونوا الف او اكثر مهمتهم خوض التجربة السياسية بنجاح فيحفظوا الديمقراطية والحرية والشورى.
والركيزة الثالثة بعد الوعي السياسي والوعي الاقتصادي، نحن بحاجة الى وعي زراعي وصناعي مع التطبيق العملي ايضاً، فالوعي الزراعي يضمن الامن الغذائي، فيما الوعي الصناعي يضمن التقدم التقني في المجالات كافة، وعدم وجود هذه الركائز هو الذي سبب فشل وهزيمة جميع الحركات والثورات التي شهدتها البلاد الاسلامية في القرن الماضي.
التطلّع الى السلطة لا الى الحكم
وهذا هو المنزلق الخطير الذي سقطت فيه تنظيمات وتيارات و رموز تحمل اسم الاسلام، طيلة القرن الماضي، وجميع هؤلاء حملوا شعارات تحكيم الاسلام وتطبيق نظامه في الحياة، بل وقدموا في هذا الطريق التضحيات الجسام، من شباب وشابات في السجون وغرف التعذيب وفي ساحات الاعدام، الى جانب ضغوط شديدة تحملتها الشعوب في أمنها واستقرارها ومستقبلها، أما المحصلة من كل ذلك، فكانت تتمثل في شيء واحد لا غير، وهو؛ السلطة ومنصب رئيس الجمهورية او رئيس الوزراء والشخصية التي يذعن لها الجميع بالطاعة والولاء المطلق دون غيره، فالتنظيم السياسي حقق مراده، وماذا عن جماهير الشعب؟
في المقطع الصوتي لمحاضرة مطولة لسماحة الامام السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه- يوجه حديثه – وهو في الكويت في سبعينات القرن الماضي- الى العقلية الثقافية لدى بعض التنظيمات الاسلامية التي تتقن التثقيف السياسي في طريق السلطة، ولا تهتم للتثقيف في الجوانب الاخرى التي يتحدث عنها سماحته وتشمل جوانب مختلفة من الحياة، ابرزها الجانب الاقتصادي والاجتماعي فضلاً عن الديني والاخلاقي، بما يشبه إلقاء الحجة وتحميل المسؤولية كاملة.
بيد ان معظم هذه التنظيمات ذات المسميات الاسلامية تحمل معها اسباب الفشل كونها لم تولد من رحم المجتمع ولم تحمل الهوية الثقافية والحضارية للبلد والامة التي تدّعي الدفاع عن قضاياها وتعد بتحقيق طموحاتها، وهذا ما حذر منه الشهيد السيد حسن الشيرازي في كتابه القيّم والرائع: "كلمة الاسلام" الذي وضع في أسس ومعايير الحزب في ظل الاسلام، وما هي مواصفاته؟ فالمشكلة في حركات من هذا الطراز أنها "تبدأ بفرد مفكر، او افراد مفكرون، آمنوا -إجمالاً- بان الاسلام في الصيغة التي تصوروه فيها، هو النظام الأصلح ا لذي يوفر السعادة للانسان، فقرروا: تنظيم حركة قاعدية هرمية، لتنفيذه في واقع الحياة، ثم نصبوا أحدهم قائداً للحركة، او نحتوا من مجموعهم قيادة جماعية مشتركة للحركة، وساروا في الطريقة الحزبية، السرية أو العلنية، ليسيطروا على الحكم عن الطريق الثورة العسكرية المسلحة او أكثرية الاصوات في البرلمان".
إن عوامل الفشل والداء الكامن في جسد هذه الاحزاب الاسلامية، لم تنشأ من كونها اسلامية او ان افرادها درسوا في الحوزات العلمية وجالسوا العلماء والفقهاء وحتى مراجع الدين، وحضروا دروس الفقه والاخلاق، او حملوا بعض الافكار الاسلامية، و انما في تبعيضهم للافكار والاحكام الاسلامية، فالاسلام بالنسبة اليهم ليس نظاماً متكاملاً يضم كل شيء بما فيه العمل السياسي والحزبي، بقدر ما هو يمثل طقوساً عبادية وممارسات اخلاقية ومظاهر دينية، وهذا ما أشار اليه الشهيد الشيرازي في كتابه، ضمن جملة دلالات على قرب الاحزاب الاسلامية من المنهج الديمقراطي الغربي اكثر من قربها الى الاسلام، ففي النقطة الرابعة يبين الشهيد الشيرازي بأن "الاحزاب الاسلامية تكون متطرفة، تلحف على الجانب السياسي من الاسلام، وتهمل بقية الجوانب الحيوية منه، التي لا يتكامل الاسلام إلا بها، تبعاً للتكتيك الحزبي الهادف الى تكريس الجهود للتضافر على تسلق الحكم، وتتفلسف الاحزاب الاسلامية لهذا التطرف المفرط، بوجوب توارد النشاطات لانتزاع الحكم الاسلامي كله من الأيدي العميلة والمنحازة ريثما يكون الامر كله لله، فاذا تخلص الحكم الاسلامي من قبضاتهم، وأئتمن عليه رجال مؤمنون، لايريدون علواً في الارض ولا فساداً، تحيى كافة معالم الاسلام ومشاريعه العبادية بصورة تلقائية..."!
مسؤولية المثقف
بالرغم من أن الامام الشيرازي كان يتحدث في وقت لم يكن للتنظيمات والجماعات الاسلامية بشكل عام، والشيعية بشكل خاص، وسائل اعلامية عالمية، مثل الاذاعات ومحطات التلفزة، ومواقع الانترنت، او مؤسسات ثقافية مثل المطابع ودور النشر والمكتبات الضخمة، سوى بعض المجلات والصحف المحلية، أما اليوم فان الفضائيات ومواقع الانترنت ذات التوجه الاسلامي تحتل نسبة مميزة بين التوجهات الاخرى في عالم النشر والاعلام في العالم، بيد ان كل هذه الجهود الجبارة المبذولة حالياً تقدم مصداقية لما توقعه الامام الشيرازي قبل حوالي اربعين عاماً، لما تضخه من سيول الكلام والاثارات والتعبئة لخدمة اهداف طائفية او سياسية او فئوية، بعيداً عن المشروع الاعلامي – الحضاري المعني ببناء الانسان والمجتمع، فكرياً وعقائدياً واخلاقياً.
وهذا يعزز المسؤولية التاريخية والحضارية على الشريحة المثقفة في الامة لأن تأخذ على عاتقها مهمة التوعية والتربية والتثقيف لكل جوانب الحياة، وهنالك بعض النشاطات والجهود المبذولة في هذا الاتجاه بيد انها في بقعة صغيرة من الساحة ويحتاج الامر لمزيد من الجهد المخلص من لدن كتاب وأدباء وخطباء الى جانب الفقهاء وعلماء الدين لأن يرفدوا وسائل الاعلام والاتصال السريع، من قنوات فضائية ومواقع انترنت، وايضاً نفض التراب عن المكتبات بإصدارات ذات طرح عصري ومحتوى غني بالافكار البناءة تخاطب الطفل والمرأة والطالب والعامل والمزارع وكافة شرائح المجتمع، وتزرع الأمل في نفوسهم وتجعلهم يثقون بقدراتهم الذاتية على التغيير الحقيقي.
إن الاستمرار في تحميل الاحزاب والتنظيمات الاسلامية مسؤولية نشر الثقافة الاسلامية، او انها السبب في تشويه صورة الاسلام في اذهان الناس، يعد تقييماً غير دقيقاً لواقع هذه التنظيمات والاحزاب وإعطائها اكثر من حجمها، بل والإيحاء بشكل غير مباشر على انها الوحيدة التي تمثل الاسلام، بقيمه و احكامه وتشريعاته، بمعنى نلغي دور الآخرين من أهل الثقافة والعلم في الامة، ومن ثمّ؛ لا نجني سوى خسارة الوقت ومزيد من التأزم والتخلف.
وبما ان دعوات الإصلاح والتجديد والتغيير يكتسب اليوم صبغة وطنية، فان مشروع بناء الوعي والثقافة في السياسة والاقتصاد والزراعة والصناعة والتجارة وغيرها من المجالات الحيوية، تكون لها الأولوية على مشاريع الاستثمار وبناء المصانع والمنشآت الانتاجية، لان الوعي ثم العزيمة على خوض التجربة العملية، هو الذي يضمن الدرجات العليا من النجاح في المشاريع الاقتصادية وايضاً ما يسمى بـ "العملية السياسية" التي تكاد اليوم تفقد كامل محتواها ومصداقيتها في العراق بسبب غياب الفهم والوعي وفقدان ثقة الجماهير العراقية بها، وتسليط الاهتمام على التسويق السياسي والبحث المحموم عن المصالح والامتيازات.
اضف تعليق