السلم يعد من الركائز الأساسية التي يقوم عليها الوجود، كوناً ومخلوقات، بمعنى أن الأصل في الحياة هو السلم والسلام، أما الحرب والاحتراب فهي من شواذ الاحداث التي تقف وراؤها ارادات لا تحترم الحياة، وقد اثبت منهج السلم نجاحه في بناء الامم وفي نجاح المجتمعات، وتطور المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والادارية وغيرها، فعندما يكون فريق العمل في مؤسسة معينة منسجما متحاباً معتمدا اسلوب التنافس الايجابي سبيلا للتطور، هذا المنهج سوف يكون سببا كافيا لنجاح المؤسسة، وهو ما يعود في النتيجة على الجميع، وكلما اعتمد أعضاء المؤسسة او الحركة السياسية اسلوب التقارب والتفاهم والانسجام، كلما كانت النتائج التي ترشح عن نشاطاتهم ايجابية، والعكس يصح بطبيعة الحال، علما أن طبيعة العلاقات الانسانية بين فريق العمل، لها دور كبير في تحييد الصراعات ونبذ أساليب المخاتلة والتسقيط وما شابه، ولابد أن يكون الاسلوب المعتمَد اسلوبا سلميا بين الجميع.
وقد جاء في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (تهادوا تحابوا)/ الكافي: ج5 ص144 ح14). وعندما يُسهم الانسان في اطار الحركة السياسية او سواها، في ترسيخ العلاقات السلمية بينه وبين الاخرين، إنما يقترب في ذلك من معنى الحديث النبوي الشريف أعلاه، لاسيما أن الانسجام والسلم والسلام تشكل أصولا للحياة، وما عداها من اساليب الصراعات والنزاعات الفردية والجمعية، فهي لا تنسجم مع منهج الحياة الصحيح.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي، (رحمه الله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (السبيل الى إنهاض المسلمين)، في هذا المجال: (ليست المقاطعة وأساليب العنف إلا وسائل اضطرارية شاذة، على خلاف الأصول الأولية الإسلامية، حالها حال الاضطرار لأكل الميتة وما أشبه، فالأصل هو السلام).
من هنا على الحركة السياسية او سواها، أن تجعل من السلم في العلاقات المتبادلة بين اعضائها، منهجا لا مناص من الالتزام به، مهما كانت الاسباب التي تحث على انتهاج السبل المعاكسة، او المخالفة لمنهج السلم، وهذا ينطبق على المؤسسات والحركات والمنظمات ذات العمل الجمعي، لاسيما أن التجارب والوقائع ايضا، أثبتت نجاح السلم الداخلي في تطوير عمل الحركة وازدياد شعبيتها، وحصولها على ثقة الناس من جميع المشارب والمستويات.
لذلك يؤكد الامام الشيرازي، على جانب مهم في هذا الشأن، يتعلق بالشعار والاسلوب والبرنامج العملي للحركة أو المؤسسة او حتى الحزب السياسي، إذ يؤكد الامام في هذا الجانب قائلا في كتابه المذكور نفسه: (من الضروري على الحركة الإسلامية أن تتخذ من السلم شعاراً وبرنامجاً وأسلوباً لجذب أوسع الجماهير).
عاقبة السلم
أما تركيز الامام الشيرازي على أهمية السلم الداخلي للحركة، فضلا عن علاقاتها مع الاطراف الاخرى من الاصدقاء، بل حتى في طبيعة علاقتها مع الاعداء، فهو يتأتى من امكانية مساعدة الحركة على كسب تأييد الجميع لها، اذا اعتمدت منهج السلم في علاقاتها مع الآخرين ومع اعضائها داخليا، بالاضافة الى ذلك ان عواقب هذا المنهج المسالم سوف تصب في صالح الاطراف كافة، حيث تتعمق ركائز السلم بين الجميع وتقل او تضعف وتندحر حالات العنف.
كما نقرأ ذلك في قول الامام الشيرازي بهذا الخصوص إذ يقول سماحته: (يجب أن يتصف القائمون بالحركة بالسلام تفكيراً وقولاً وعملاً مع الأعداء والأصدقاء. فإن السلام أحمد عاقبة وأسرع للوصول إلى الهدف، السلم والسلام والمسالمة أصول توجب تقدم المسالم، بينما غير المسالم والعنيف يظل متأخراً دائماً).
وعندما تتوثق عرى التفاهم والانسجام والسلام بين اعضاء الحركة الواحدة او المؤسسة (أية مؤسسة كانت ومهما كان نوع المنتَج لها)، فإن قدرة افرادها (قادة أو أدنى) على امكانية البناء ستكون افضل بكثير مما لو انشغل اعضاء الحركة، او المؤسسة بالصراعات الداخلية فيما بينهم، لذلك كلما كانت الحركة اكثر تقاربا وانسجاما تحت تأثير المنهج المسالم كلما كانت نتائج أعمالها جيدة، علما أن منهج السلام وضبط عرى السلم الداخلي واعتماد اللّين واللطف والوئام، بين الاعضاء أنفسهم، سوف يتيح لهم الانشغال ببناء الدولة والمجتمع أكثر مما ينشغلون بالمشاكل الجانبية، التي غالبا ما تدور حول مكاسب ومنافع ومناصب تقودهم الى التصادم بدلا من التآلف والمحبة، فاذا ما انشغلوا في الصراعات والتسقيط المتبادل، فإن الفشل سوف يشملهم جميعا، لذا لابد ان يكون منهج السلم واللين طريقهم في التعامل الداخلي فيما بينهم، وفي التعامل الخارجي، أي مع الجماهير لكسب ثقتهم وتأييدهم، ومع الاطراف الاخرى.
من هنا يقول الامام الشيرازي بكتابه نفسه: (إن الحركة التي تريد جمع الناس وهدايتهم إلى الصراط المستقيم، مثل هذه الحركة جدير بها أن تلتزم باللين، فالناس إنما يلتفون حول من كان هيناً، ليناً، هشاً، بشاً، كما ورد في حديث في صفات المؤمن: المؤمن هين، لين، هش، بش، بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أنظر الوسائل: ج2 ص511 باب106 من أبواب أحكام العشرة).
السلام وثقة الجماهير
إن الحركة السياسية كما هو معروف، لديها برنامج سياسي معلن، ولديها علاقات متشعبة، منها ما يتعلق بأعضائها وقياداتها فيما بينهم، ومنها ما يتعلق بعلاقة الحركة مع الآخرين، مؤسسات أو جماهير، لذلك ليس اما مثل هذه الحركات سوى اعلان شعار السلم، والالتزام به في التطبيق العملي، والتركيز على السلم الداخلي للحركة او المؤسسة، لأنها المنطلق الى طبيعة العلاقات الخارجية، فمن يكون مسالما مع نفسه وفي علاقاته الداخلية، سوف يكون مسالما مع الآخرين حتما، لأن السلم والسلام سيشكل جزءا مهما أو أساسيا من أفكاره ومن ثم أفعاله.
لهذا يؤكد الامام الشيرازي قائلا بكتابه المذكور، حول هذا الجانب: (يجب أن تتصف الحركة بالسلام وأن تجعل شعارها السلام حتى يثق الناس بها)، فالسلم صفة ومنهجا، يساعد على كسب ثقة الآخرين، وطالما أن عمل الحركة، والمؤسسة يرتبط بصورة وثيقة بالمنهج المتبّع في ادارة الانشطة المتنوعة للحركة وعلاقاتها، فإن السلم هنا كمنهج يشكل حجر الزاوية لنجاح تلك الحركة، بسبب قدرة السلم على تسريع كسب ثقة الناس بصورة اكبر بالحركة وافكارها واهدافها وبرامجها، التي تنطوي على التوعية والتثقيف كشرط مهم ومساعد على النجاح، ولكن يبقى اللطف واللين وتحقيق السلم الداخلي شرطا لا مجال لإهماله او الاستغناء عنه في حالة اذا صممت الحركة على كسب الناس وتأييدهم لها، وهو الهدف الاساس للحركات الجيدة.
من هنا يوجّه الامام الشيرازي من يعنيهم الامر في هذا الشأن قائلا سماحته: (يجب أن تكون الحركة - إلى جانب الشرائط الاخرى من التوعية والتنظيم ومراعاة الأصول العامة- قائمة على أساس السلام، السلم، المسالمة، اللين، العطف، واللطف).
لا يتوقف هذا المنهج من العلاقات على الاصدقاء فقط، أو في تحقيق السلم الداخلي للحركة فحسب، إنما ينسحب الامر على الجهات المعادية ايضا، بمعنى اذا ارادت الحركات والمؤسسات وما شابه، أن تحقق نتائج جيدة ومتميزة لمساعيها، لابد أن تطبق منهج السلم والسلام حتى مع أعدائها، فهذا المنهج يساعدها على قطف ثمار السلم مع العدو والصديق والذات في وقت واحد، على الرغم من الصعوبات التي قد تقف بوجه الحركة في حالة تعاملها السلمي مع اعدائها، ولكن مع الصبر والاصرار على منهج اللين والسلم، سوف يكون النجاح هو النتيجة الطبيعة لمثل هذه المساعي الايجابية.
لذا يقول الامام الشيرازي في هذا المجال: (إن المعاملة السلمية تجاه الصديق والعدو، هي من الأسس الحيوية التي يلزم أن يقوم عليها النضال للحركة الإسلامية العالمية، والسلم في أول أمره مر وصعب، ويحتاج إلى ضبط الأعصاب وإلى عفو وإغماض).
اضف تعليق