الانسان معدنٌ كبير، بيد أن الظاهر منه شيء صغير، ورد عن النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: "أن الناس معادن"، بمعنى أن كل انسان يحمل معه نوعاً من القدرات والكفاءات، يكفي أن نعرف قدر أنفسنا، ونعرف حجم الطاقة المغيّرة والمكنونة في داخلنا.
كان النفط مدفون في باطن الارض منذ ملايين السنوات، ولم يعرف به أحد، فبقي الناس في الظلام، ثم جاء من بعدهم أناس آخرون واستخرجوا النفط وأضاؤوا البلاد. علماً أن الانسان يحتوي على قدرات بما هو اكثر من مليارات الآبار من النفط، بيد أن مشكلته عدم معرفته بقدر نفسه.
وهناك من عرف قدر نفسه؛ سواءً من المؤمنين او الملحدين لا فرق، فالملحدون يذهبون الى النار، والمؤمنون يذهبون الى الجنة، بيد أن العبرة في اكتشاف الطاقات التغييرية الكامنة في النفوس.
من الملحدين الذين اكتشفوا قدر انفسهم؛ لينين، وهو رجل ملحد، ربما لا يتجاوز وزنه ستون او سبعون كيلوغراماً، بيد أنه عرف أيّ طاقة تغييرية يحمل! فغير روسيا من دولة مؤمنة الى دولة ملحدة ومنكرة لله الخالق.
ومن المؤمنين؛ الشيخ محمد تقي الشيرازي – قدس سره- هذا الرجل كان وزنه حوالي 45 كيلوغراماً، بيد أنه عرف قدر نفسه، وأيّ تغيير كبير بامكانه تحقيقه، فقاد ثورة جماهيرية عارمة ضد اكبر دولة في العالم آنذاك، لقد حارب البريطانيين بعباءته وليس بقوته العسكرية ولا القوة المالية، وإنما بقوة الحديث الشريف عن الامام الحسن، عليه السلام: "من اراد عزّاً بلا عشيرة وهيبة بلا سلطان فليخرج من ذلّ معصية الله الى عزّ طاعة الله".
كانت بريطانيا تمتلك قوة بشرية في بدايات القرن العشرين قدرها مليار ونصف انسان، من الهنود والصينيين والاتراك وغيرهم في العالم، كما كانت تمتلك أحدث الاسلحة في تلك الفترة، فيما هذا الشيخ والعالم الضئيل الجسم، الذي لم يمسك قطعة السلاح في حياته، تمكن من إنهاء الاحتلال البريطاني للعراق بقيادته ثورة العشرين.
وهنالك مثالٌ آخر من النقطة المحايدة بين الالحاد والايمان؛ من الهند، حيث نلاحظ ان رجلاً ضئيل الجسم مثل غاندي ومعه محمد علي جناح تمكنا من انقاذ بلادهم من الاستعمار البريطاني بعد ان تحكم بمصير الشعب الهندي طيلة 300 عام.
أما نحن المسلمون فلا نعرف قدر انفسنا، يقول الامام الصادق، عليه السلام: "رحم الله عرف قدره".
واذا نسمع بالانجازات التي حققتها الحضارة الاسلامية في باكورة بزوغها، فان الفضل يعود الى أمثال سلمان المحمدي وأبو ذر الغفاري وأمثالهما من اصحاب رسول الله، صلى الله عليه وآله. هؤلاء وغيرهم، فرضوا انفسهم على الحياة منذ تلك الايام والى اليوم والى يوم القيامة.
ومن تاريخنا ايضاً؛ الشيخ الطوسي، الذي جاء من خراسان ليدرس العلوم في بغداد، وكان في خراسان آنذاك ربما مليون انسان، ولكن هذا الانسان تحديداً تميّز بمعرفته قدر نفسه، ففرض نفسه على الحياة منذ حوالي ألف سنة، بكتبه وقلمه، بل وكان مطارداً، بعد إحراق مكتبته في بغداد وطرده منها فجاء الى النجف الأشرف وأسس الحوزة العلمية فيها.
إن معرفة الانسان قدر نفسه، لا يدخل ضمن الغرور والكبر والاعتداد بالنفس، بل اذا سقط الانسان في الغرور والكبر والاستعلاء فهذا يعني انه يجهل نفس، انما المتواضع وطيب اللسان والتعاون واحترام الآخرين واستشارتهم، هي التي ترشد الانسان الى حقيقة قدراته وامكاناته، فاذا كنت زاهداً في الحياة، ذاك اليوم تكون قد عرفت نفسك".
بامكان الجميع اختبار قدراته
أودع الله –تعالى- في داخل كل انسان جملة من القدرات يتمكن من خلالها العيش الكريم وتطوير نفسه ثم التأثير على الواقع الخارجي وتغييره نحو الافضل، وليس أمامه سوى تفعيل الارادة، التي -هي الاخرى- من المواهب الإلهية للانسان واستثمار هذه القدرات لما يحقق له اهدافه وطموحاته في الحياة.
وقد بحث علماء النفس الاسباب الكامنة وراء اختفاء هذه القدرات في كوامن الانسان او الاسباب في عدم ظهورها، وذلك من زاوية علاجية معتقدين أن وراء هذه الظاهرة أزمة نفسية، فجاء "علم النفس الايجابي" ليزيل التراكمات السلبية من تصورات وأحكام وخلفيات سلبية على أمل تمكين الانسان وتحفيزه على تفجير طاقاته وقدراته، على أنها تمثل الجانب الآخر من علاج الاضطراب النفسي والسلوكي الذي يتعرض له البعض، فبدلاً من التوجه الى الآثار السلبية لهذه الاضطرابات، يكون التوجه الى "أوجه القوة وطاقات النماء والانطلاق" الكامنة في هذا الانسان، وحدد مصطفى حجازي في "إطلاق طاقات الحياة" بأن علم النفس الايجابي يهدف "الى إطلاق الطاقات وتعزيز الاقتدار الشخصي والنظم الاجتماعية الايجابية ودورها في إنماء حالات حسن الحال".
هذا الرأي يحدد لهذه الحالة إطاراً مرضياً، فهو يعد إطلاق الطاقات والقدرات الايجابية، أحد انواع العلاج للاضطرابات النفسية، وهي فكرة استحدثها علماء النفس منذ عقدين من الزمن، فيما يشير سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- الى أن مسألة تفجير الطاقات الكامنة، مهمة كل انسان في الحياة، بغض النظر عن الظروف النفسية او الاجتماعية المحيطة به، فهي مسألة ذاتية بامتياز، وفي هذا المقطع الصوتي يؤكد سماحته ليس فقط على قدرة الانسان على توظيف طاقاته ايجابياً، وتوفير "حسن الحال" او الحياة السعيدة له ولأفراد اسرته، وإنما توجيه هذه الطاقات نحو تغيير بأبعاد واسعة في المجتمع والامة.
واذا راجعنا تاريخ الشعوب والأمم التي انتفضت على واقعها الفاسد وحققت التغيير الكبير، نجد أنها نجحت أولاً؛ في ازالة الصورة السلبية عن ذات الانسان بانه لا يساوي شيئاً أمام قوى مؤثرة وقاهرة، مثل الاستعمار والمال والسلطة والسلاح، فانطلق كل فرد من ذاته نحو المجموع ونحو الواقع الذي يعيشه، صحيح أن اشخاص يستشهد بهم سماحة الامام الشيرازي الراحل في حديثه، مثل غاندي في الهند أو الشيخ محمد تقي الشيرازي في العراق، عندما فجروا قدراتهم القيادية وغيروا مجرى التاريخ، بيد أن الصحيح ايضاً، أن الناس الذين واكبوا هؤلاء في ثوراتهم، قاموا باختبار قدراتهم الذاتية على تغيير واقعهم ومواجهة أعتى القوى آنذاك، وكانت النتيجة ايجابية فحققوا الانتصار.
واستذكر فكرة طرقها سماحة الامام الشيرازي، وأوردناها في مقال سابق ضمن هذه السلسلة، أكد فيها على ضرورة أخذ جميع افراد المجتمع بنظر الاعتبار، كون أي انسان يحمل قدراً من الكفاءة والامكانية تؤهله لدور معين في عملية التغيير او الجهاد ضد الظلم والطغيان، "فلا تقل: أن هذا لا قيمة له، أو ذاك لا ينفع، فهذا الذي تتصور انه لا ينفعك ربما ينقذك في لحظة، أو ربما يُرديك"! وكان الحديث في سياق الدور الجماهيري في الجهاد ودورهم في دعم المجاهدين.
إن نمو الشعور الداخلي في نفس الانسان بأنه قادر على فعل الكثير، هو بحد ذاته يمثل خطوة انطلاقية نحو تشكيل جبهة عريضة من قدرات وامكانيات اخرى تظهر على الواقع الخارجي من هذا وذاك، بامكانها الإسهام في توفير الدعم اللوجستي للقوات المسلحة المقاتلة للقوى التكفيرية كما يحصل في عديد جامعاتنا وعلى يد الطلبة والطالبات، وهم يواظبون على إقامة معارض الرسم والاعمال اليدوية والمأكولات المصنّعة محلياً ويكون ريع كل هذا الى قوات الحشد الشعبي والجيش في مناطق القتال.
هل ننتظر من الآخرين
يتحدث البعض عن عوامل خارجية لها تأثير على ظهور الطاقات والكفاءات وصقلها وتأهيلها ثم استثمارها، ولابد من وجود ايجابي لهذه العوامل، أما اذا كان الوجود سلبياً وقامعاً فهي المصيبة العظمى...! فهل نحن بصدد الحديث عن معادن تخرج من الصخور او من أعماق الأرض؟!
في مقابل سيول الاحاديث عن الاسقاطات السلبية على الواقع الاجتماعي العراقي، وربما غيره من البلاد المأزومة الاخرى، نسمع هنا وهناك احاديث تخترق الجدار الاسود الكبير عن تجارب ناجحة لاستثمار قدرات من اشخاص لا يُعتد بهم اطلاقاً في المجتمع، مثل فتى صغير فقد أباه وهو في العاشرة من العمر، وأصبح امام مسؤولية أبوية في بواكبير عمره الغضّ، والآن أسمع عنه وقد حاجز شهادة الماجستير في اللغة العربية، ومن أكفأ المدرسين، ليس هذا وحسب، وإنما ثبت اسمه بين الشعراء اللامعين بقصائد رائعة وصورة شعرية باهرة، وهكذا؛ من كان يفتقد للمسكن اللائق او المال او الجاه وغيره، ثم انطلق بعيداً ليحقق نجاحات كبيرة.
طبعاً؛ لا ينكر الدور الاجتماعي في هذا المضمار، فان التربية الأسرية والمحفزات في البيت والمدرسة وغيرها، لها كبير الأثر في اكتشاف طاقات الانسان والاستفادة منها، ولكن، هذه لن تكون كل شيء، إنما يبقى الانسان هو صاحب الرأي والإرادة في اتخاذ القرار المصيري فيما يتعلق بحاله ومستقبله.
واذا ما اردنا اعتماد العوامل الخارجية وإعطائها الأولوية، علينا القبول بالعواقب، فالعوامل الخارجية المساعدة على اكتشاف الطاقات الايجابية، ربما لا تحمل نوايا ايجابية، كما حصل مع الانظمة الديكتاتورية الطامحة لتكريس سلطتها داخلياً وخارجياً، فهي تجد في هذه الطاقات الكامنة في افراد المجتمع، منجماً رخيصاً توظفه لانتاج أسلحة الدمار الشامل، وتكون عملية الانتقاء من هذه القدرات حسب الحاجة والطلب، لا كما يريد الانسان وكما يفكر هو، فهو عالم ومبدع وذو امكانات كبيرة ولكن في قفص كبير.
وإذن؛ فان الذي معرفة الانسان لقدراته وقيمته في الحياة، يعني معرفته بدوره ومسؤوليته عن كل شيء، وهذا ما تخشاه القوى الغاشمة في كل زمان ومكان، سواء في أزمنة الاستعمار أو في ازمنة الاستكبار (الديكتاتورية)، وهذه حقيقة تواكب الاجيال والزمن، فكلما نجحنا في اكتشاف ذواتنا وما تحمله من قدرات موهوبة من الله –تعالى- كلما كنا أقرب الى حلّ أزماتنا ومشاكلنا، بل والتقدم نحو البناء وتحقيق الأفضل.
اضف تعليق