"هنالك ثلاث مقدمات لإقامة حكم الله في الأرض: المقدمة الأولى: ان اسلوب الحياة، هو التضحية لتحقيق الأفضل، المقدمة الثانية: ان في داخل كل انسان تتحكم قوى ثلاث؛ هو، وأنا، وأنا الافضل، المقدمة الثالثة: أن الانسان؛ خاسر وأخسر، ورابح وأربح.
اذا تحققت هذه المقدمات الثلاث، نكون قد نجحنا في أفضل ما نقوم به في الحياة، وهو إقامة حكم الله في الأرض، وهذا ما يشير اليه الله –تعالى-في الآية الكريمة: (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، (سورة النحل، 96) لماذا اختار –تعالى-صفة الصبر من سائر الصفات وسمّاها بـ "أحسن"، لان الذي يروم تطبيق حكم الله في الارض، يحتاج الى عمودين اساسيين ومهمان؛ وكلاهما صعبان ايضاً:
العمود الاول: التواضع والصبر
فالحق بحاجة الى تواضع، بمعنى أن ترى الحق وتتواضع له، وفي القرآن نهي صريح: {وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} (سورة الدخان، 19)، ومن يعلو على الله هو الذي يتكبر على الحق.
واذا اردنا مصاديق التكبر على الحق، ليس بالضرورة ان تكون في مظاهر ترك الصلاة – مثلاً- وارتكاب الفواحش والموبقات، إنما تتجلى ايضاً فيمن لا يطبق القيم والمفاهيم على نفسه، ومن يحاول دائماً تنزيه نفسه، وأن النواهي والمواعظ إنما للفسقة والفجرة والمنحرفين فقط! في حين ان تطبيق منهج الحق، بحد ذاته يُعد اعتلاءً واستكباراً عليه وعلى الله –تعالى- ايضاً، إذن فان الصبر على الحق ليس بالأمر الهيّن، فهو يحتاج الى تضحية والى تفاني.
العمود الثاني: الاستفادة من التجارب التاريخية
جاء في كلام لأمير المؤمنين، الى ابنه الحسن، عليهما السلام، وفي ذلك تنبيه لنا: "...فسِر في ديارهم وانظر في آثارهم"، لان التاريخ يساعدك على ما تريد، فاذا قرأت التجارب التجارية عبر التاريخ، تتعلم كيف تنجح في التجارة –مثلاً- وهكذا؛ تاريخ العلماء والأدباء والثورات والحكومات، بما يعني الإلمام بالظروف المحيطة الصانعة للاحداث التاريخية.
فمن الملاحظ أننا نجد الصحف والمجلات والكتب تتحدث عن التاريخ المعاصر، وعن مجريات الاحداث، من صعود حكام الى قمة السلطة او اندلاع الحروب وتفاقم الازمات وغيرها، بيد أن الأهم معرفة خلفية هذه الاحداث وما هي عوامل نشوئها، بمعنى؛ الوقوف عند استفهامات: من، وماذا، وكيف، ولماذا؟.
وطالما يتم الترويج لعلل ظاهرية لبعض الحوادث المهمة؛ كما حصل في الانقلابات العسكرية في بلادنا، بان التحول الجديد ناتج عن تحرك قطعات عسكرية نحو القصر الجمهوري ثم مقر الاذاعة والتلفزيون، وانتهى كل شيء، وهذا هو الخطأ الفضيع...".
التأسيس المطمئن لنجاح التجربة
الصفات الاخلاقية الحسنة تكتسب حيويتها ومصداقيتها من تفاعلها مع الواقع العملي في حياة الانسان، وإلا تبقى مفاهيم وصور جميلة في بطون الكتب تثير المشاعر، وربما تتحول الى فرس أحلام للبعض علّها تنتشلهم من الفساد والكذب والخيانة والعصبية والكراهية وغيرها من مفردات الاخلاق السيئة.
وهذه الدعوة تتأكد اكثر اذا كان هذا الواقع يشمل برعايته اكبر عدد من بني البشر على رقعة جغرافية ربما تكون بحجم العالم بأسره، ويكون مصداقاً لنظام متكامل يبشر بالخير والسعادة، وهو ما يشير اليه سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي في هذا المقطع الصوتي من إحدى محاضراته، ويحمّل مسؤولية تجسيد القيم الاخلاقية في الحياة، على طليعة الأمة وحملة لواء هذا النظام الجديد، وبخلاف ذلك، تبقى عبارات جميلة ومصفوفة في الكتب او على الجدران، وتكون حالها من حال الشعارات التي تسوّقها الاحزاب السياسية في بداية مشوارها مع الجماهير ثم تحولها الى مرقاة للوصول الى قمة السلطة.
ومن أبرز تلك الصفات والقيم؛ التواضع لقيم الحق مع الصبر عليها، وهذه القيمة تحديداً تمثل أحد أهم مقومات العلاقة النموذجية بين القيادة والقاعدة، او بين الطليعة المؤمنة وبين الجماهير، وإلا فان عديد الزعماء حاولوا إخفاء ديكتاتوريتهم وانحرافهم، بجماهير الشعب والمواطنين العاديين، بالظهور في الشوارع والاسواق وبين النساء والاطفال والمزارعين والعمال، وتوزيع الهبات والعطايا، لرسم هذه الصورة تحديداً في الاذهان (التواضع)، بينما التواضع الحقيقي الذي ينعكس على حاضر الامة ومستقبلها هو ذاك الذي يكون للقيم والمبادئ، وليس لشاشة التلفزيون وعدسة الكاميرا.
وعليه؛ فان من يتحدث عن تطبيق حكم الله، في إطار التشريع أو التثقيف، عليه أن يبدأ من نفسه، فهو الذي يجب ان يتجسد فيه هذا الحكم، ليكون النموذج الحيّ امام الآخرين، ولذا نجد أن الرسول الأكرم والائمة المصعومين من بعده، عليهم السلام، كانوا لا يتحدثون بفضيلة او خصلة اخلاقية او سلوك حسن، إلا ويطبقونه على انفسهم أولاً، ومن ضمنها المفاهيم الاخلاقية والانسانية التي طالما ضحوا من اجل تكريسها في الواقع الاجتماعي، وما نزال اليوم ننعمّ بشيء من ظلالها في الوقت الحاضر، فالامام علي، عليه السلام، يمتنع عن أكل اللحم، رغم تمكنه منه ، إلا في يوم واحد وهو؛ يوم عيد الاضحى لانه وقتذاك – يقول عليه السلام- سيأكل معظم المسلمين اللحم بفضل تطبيق السنّة الحسنة بذبح الاضاحي في ذلك اليوم السعيد.
ان عدم تجسيد قيم الحق والفضيلة لن يحمي صاحبه من الميل عن هذه القيم والاستعلاء عليها، لسبب بسيط واحد؛ أن لا وجود لمنطقة وسطى بين الحق والباطل، فمن لا يجد في نفسه الأهلية والقابلية على التحلّي بالصفات الحسنة، فان الصفات المناقضة ستنقضّ على قلبه وسلوكه، شاء أم أبى، ولعل هذا ما يفسّر التلازم الذي يبينه سماحة الامام الشيرازي بين التواضع لقيم الحق وبين الصبر عليها، وتأشيره على صعوبة الصبر على الحق مع التواضع له، لما لهذا التلازم من مدخلية لإنجاح أي عملية تغييرية او إصلاحية في المجتمع، وهذا القرآن الكريم يدعونا صراحة بأن {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}، كما جاءت في موارد اخرى في الكتاب الكريم.
وإذن؛ الصبر او "الاصطبار" بما هو أرفع من الصبر الى حيث التضحية والتفاني قبل ظهور النتائج، هو الذي يعطي لقيم الحق والفضيلة مكانتها الحقيقية في الحياة، فكلما كثرت التضحيات واسترخصت الأرواح والاموال والامتيازات، في سبيل قيم الحق، كلما قصر الطريق نحو تطبيق النظام الاسلامي على يد ابناء الأمة نفسها.
البدء من حيث انتهى الآخرون
الى جانب الميدان العملي، ينبغي النظر ايضاً على ميدان التنظير والتخطيط لما يجب فعله، وتأتي في المقدمة؛ التجارب التاريخية الغنية بالعبر والافكار لما يفيدنا في المجالات كافة؛ لاسيما في العلاقة بين القيادة والجماهير وما يتعلق بنظام الحكم، فظهور وسقوط الانظمة السياسية والحكام، يحمل معه الكثير من العبر والدروس في كيفية النجاح، وايضاً في عوامل الفشل والانهيار.
واذا ما لاحظنا الفشل المتواصل في انظمة الحكم في بلادنا، نجد أن المشكلة كامنة في كتابة كل حاكم جديد لتاريخ جديد، كما لو أنه أول من يجرب الحكم في بلاده، ولم يكن أحدٌ قبله وسقط لاسباب ربما تودي بحكمه هو ايضاً، لذا يؤكد الحكماء على أن البداية من حيث انتهى الآخرون، من صفات الناجحين.
وربما يسقط في هذا المطب، من يدّعون الحق لأنفسهم او أنهم من يمثل القيم والمبادئ دون غيرهم بين العباد والبلاد، فيكون هذا الادعاء بحد ذاته عامل نسف لهذا الحق عندما لا يرى الناس سوى التعالي والتكبّر واختزال القيم والمبادئ في شخص او فئة معينة، فهم لا يتخلّون فقط من هؤلاء وإنما ايضاً مما يتسترون به ويتخذونه وسيلة للوصول الى غاياتهم ومصالحهم.
اضف تعليق