عبد الحسين الصالحي
في مثل هذه الأيام ـ وبالضبط في يوم العشرين من شهر ربيع الثاني عام (1337) للهجرة النبويّة أصدر الإمام الشيخ محمّد تّقي الشيرازي قدّس سرّه فتواه (الصاعقة) التي زلزلت أركان الاستعمار البريطاني الظالم، الذي كان يحاول ـ وبمراوغة مقيتة ـ التدليس على الشعب العراقي الواعي والصامد، تحت (غطاء) الانتخابات وتزويرها، حتى يتسنّم ـ وباسم الحرية زوراً ـ عرش العراق. فنشر الاستعمار (البريطاني) في أرجاء العراق انه يريد إعمار العراق ومساعدة الشعب العراقي في النهوض به إلى المصالح الشاملة والأفق السعيد.
شبكة النبأ بهذه الذكرى التاريخية المجيدة تعيد نشر مقالا نشرته مجلة النبأ في اعدادها السابقة:
مقدمة
تشرفت ارض الطف بضم جثمان أبي الاحرار وسيد الشهداء أبي عبد الله الحسين(ع) واصحابه الغر الميامين فأصبح قبره المطهر أحد مراكز انطلاق الثورات الشيعية، فكان اولها ثورة التوابين الذين اجتمعوا حول القبر الشريف في ربيع الأول سنة 65 هجرية وعلى عهد عبد الملك بن مروان وهم اكثر من اربعة آلاف مقاتل بقيادة سلمان بن صرد الخزاعي يطالبون بثارات الحسين(ع) فازدحموا حول القبر المطهر ومكثوا في كربلاء المقدسة يوماً وليلة بالبكاء والعويل ثم توجهوا منها إلى عين الورد لقتال الامويين(1).
ثم بدأت الثورات الشيعية تنطلق من ارض الطف الواحدة تلو الأخرى حتى ثورة العشرين المعروفة بالثورة العراقية الكبرى بقيادة المرجع الديني الأعلى للطائفة الامامية ورئيس الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي المتوفى سنة 1338 هجرية ضد الاحتلال الانكليزي، تلك الثورة التي سجلت علامة فارقة في تاريخ العراق الحديث وكانت إرهاصاً للثورات المتتالية على مر العقود التي تلتها.. وخلقت حالة من المشاعر الدينية الوطنية الواعية والمتقدمة في رؤيتها للأمور ولسياسة المستعمر الذي يهدف إلى تكبيل العراق بمعاهدات تجعله تابعاً ذليلاً للتاج البريطاني وتقتل فيه كل روح للتطور والتقدم والازدهار.. كشفت تلك الثورة عن أن المستعمر مهما أوتي من قوة تتيح له احتلال الأرض وقتل الأبرياء فإنه لا يستطيع أن ينتزع منه الإحساس بالظلم والقابلية على الانتفاض لو توفرت له القيادة الحكيمة والواعية لدورها ولمسؤولياتها.. تلك القيادة التي تجسدت في هذه الثورة بقائدها الميرزا محمد تقي الشيرازي.
وآل الشيرازي من الأسر العلمية المعروفة والسلاسل الذهبية التي ظهر فيها غير واحد من اساطين الدين وشيوخ الاجتهاد والزعامة الدينية ولا تزال لهم المرجعية في أسباطهم حتى اليوم منهم سيد الطائفة آية الله العظمى السيد محمد الشيرازي أحد مراجع الفتوى والتقليد في قم، وقد شع ضوء هذا البيت الجليل في شيراز وكربلاء المقدسة في اوائل القرن الثالث عشر الهجري منذ عهد جدهم الشيخ أبي الحسن الميرزا محمد علي الشيرازي المتوفى سنة 1229هجرية وهو اول من هاجر من شيراز إلى كربلاء المقدسة وسكن في محلة المخيم ولا يزال داره موجوداً حتى اليوم.
وقد انجب هذا البيت الجليل عدداً من العلماء الاعلام ترجم لهم شيخنا الأستاذ الشيخ اغا بزرك الطهراني في الذريعة والطبقات والسيد محسن الأمين في موسوعته الخالدة اعيان الشيعة المجلد الرابع صفحة 561 والمجلد التاسع صفحة 192 وقال في ترجمة زعيم الثورة العراقية الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي (... كان والده من أهل الورع والدين جاور في الحائر واخوه الميرزا محمد علي سكن شيراز وكان من مراجعها وهم بيت حكمة وعلم وادب ينظمون الشعر الرائق بالفارسية وقد كان عم المترجم من مشاهير الشعراء...)(2)، ومنهم الشيخ محب علي بن الشيخ أبو الحسن الميرزا محمد علي الشيرازي المتوفى سنة 1290 هجرية وكان من اكابر علماء الحائر الشريف وهو والد زعيم الثورة العراقية الكبرى، ومنهم الميرزا حبيب الله المعروف بآغا آني بن الشيخ الميرزا محمد علي الشيرازي المتوفى سنة 1272 هجرية وكان من اشهر شعراء عصره وهو عم زعيم الثورة العراقية، وغيرهم من الأعلام والأفذاذ.
الشيرازي زعيم الثورة العراقية
ذكره شيخنا الأستاذ في موسوعته الخالدة طبقات اعلام الشيعة ووصفه قائلاً:
(...الحائري الشيرازي زعيم الثورة العراقية ومورى شرارتها الأولى من اكابر العلماء وأعاظم المجتهدين ومن أشهر مشاهير عصره في العلم والتقوى والغيرة الدينية... ثم ينقل عن السيد حسن الصدر الكاظمي قوله... عاشرته عشرين عاماً فما رأيت منه زلة ولا انكرت عليه خلة وباحثته اثنتي عشرة سنة فما سمعت منه إلا الأنظار الدقيقة والأفكار العميقة والتنبيهات الرشيقة. ثم اضاف شيخنا الأستاذ تعليقه على قول السيد الصدر قائلاً... وقد تتلمذت عليه وحضرت بحثه ثماني سنين في سامراء فتأكدت لدي صحة كلام سيدنا الصدر وبانت لي حقيقته وصدق الخبر وتحققنا ذلك من طريقي السمع والبصر ولم تشغله مرجعيته العظمى واشغاله الكثيرة عن النظر في أمور الناس خاصهم وعامهم فقد كان ينتهز من وقته المستغرق بأشغاله فرصة يخلو فيها للتفكر في مصالح الناس وامور العامة وحسبك من اعماله الجبارة موقفه الجليل في الثورة العراقية ومطالبته بالحقوق المهدورة والأمر بالدفاع واصداره تلك الفتوى الخطيرة التي اقامت العراق واقعدته لما كان لها من الوقع العظيم في النفوس وحقاً انه بذل كل ما بوسعه من حول وطول وضحى بكل غال ونفيس حتى أولاده وماله وقضية إلقاء القبض على ولده الميرزا محمد رضا معروفة فقد فدى استقلال العراق بنفسه وأولاده وكان افتى قبلها بحرمة انتخاب غير المسلم وذلك لما حمل الانكليز الشعب العراقي على انتخاب معتمد الحكومة البريطانية السير برسي كوكس رئيساً للحكومة العراقية فانه (أعلى الله مقامه) شعر بالحيلة المدبرة من المستعمر وعرف المغزى وانكشف له المخبأ فعند ذلك اصدر فتواه وابدى رأيه الصائب فلم يكن من العراقيين إلا امتثال امره فقد كانوا طوع إرادته لا يصدرون إلا عن رأيه وقد عقدت اجتماعاتهم في داره بكربلاء عدة مرات كان احدها -ولعله آخرها- اجتماعهم ليلة نصف شعبان عام وفاته (1338هجرية) فقد عرضوا عليه بتلك الجلسة نواياهم وتعهدوا له بان فيهم القوة الكاملة فلم يزد في أول مرة على قوله (إذا كانت هذه نواياكم وهذه تعهداتكم فالله في عونكم) ولما بدت أعمال الحكومة الشنيعة استنكرها استنكاراً عظيماً واجتمع إليه العلماء والزعماء والرؤساء يستفتونه في القيام ضد السلطة راغبين بأن تكون فتواه بداية الشروع في الثورة فعند ذلك اصدر فتواه الآنفة الذكر(3).
وقال الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري في مدحه:
ومحيى لليل التم يحمى بطرفه *** ثغوراً اضاعتها العيون الهواجـع
تكاد إذا ما طالع الشهب هيبـة *** تخـر لمـــرآهُ النجـــوم الطوالـــع
مدبر رأي كلف الدهـــر همــه *** فناء بمـا اعيابـــه وهـــو ظالــــع
مهيب إذا رام البــلاد بلفـظـــة *** تدانت لـه اطرافهـــن الشواســـع
ينام باحدى مقلتيــه ويتـقــــى *** باخرى المنايا فهو يقضان هاجع
كربلاء مركز قيادة الثورة
كانت بريطانيا قد استكملت اجراءاتها في غزوها لمنطقة الخليج من خلال عقد عدة اتفاقيات مع الشيخ خزعل والشيخ مبارك وعبد العزيز آل سعود وكانت بريطانيا تدرك موقف علماء الشيعة من احتلال العراق حيث لا يمكن أن يتقبلوا أي احتلال أجنبي استعماري للأقاليم الإسلامية وقبل أن تعلن بريطانيا الحرب على إيران والدولة العثمانية صدرت الأوامر إلى القوات البريطانية في بومبي بالتحرك نحو الخليج في 14 تشرين الثاني 1914م 25ذي الحجة 1332هجرية فاحتلت الفاو، ولما رأى الإمام الشيرازي الخطر محدقاً شكل مجلساً استشارياً من علماء كربلاء المقدسة ووجه الدعوة إلى رؤساء العشائر الشيعية في الجنوب وبدأ نشاطه لمنع الانكليز من تحقيق مآربهم وبدأت حركة الجهاد في العراق لصد الجيوش البريطانية من جهة البصرة وانطلقت من كربلاء وباقي المدن العراقية فكانت اول مجموعة من المجاهدين بقيادة محمد سعيد الحبوبي توجهت نحو الجنوب وكانت تلتحق بهم في الطريق العشائر والمجاهدون ولما علم الانكليز أن قلب الثورة هي كربلاء المقدسة توجه الميجر بولي إلى كربلاء مع قوة مجهزة بالسيارات المصفحة والمدافع فطوقت مدينة كربلاء في يوم الاحد الخامس من شوال سنة 1338هجرية ووجه الكتاب التالي إلى زعيم الثورة الإمام الشيرازي:
حضرة العلامة المجتهد الاكبر آية الله الميرزا محمد تقي الدين الشيرازي دام علاه
بعد تقديم مراسيم التحية والسلام
نعرض لحضرتكم أن قسماً من قواتنا قد وردت إلى هذه الأنحاء لأجل حفظ الأمن والقاء القبض على عدد من الأشرار الذين يقصدون الإفساد ونهب الأموال والقاء الرعب في قلوب الاهلين وان قواتنا هذه لم تتعرض للصلحاء الابرار فنرجوا أن تطلعوا على هذه المسألة لكي يرتفع الرعب والاضطراب عنكم وفي الختام نقدم لحضرتكم فائق الاحترام.
حاكم الحلة - الميجر بولي - 22 حزيران 1920م
فأرسل الإمام الشيرازي إلى الميجر بولي أن يحضر عنده للتفاوض والتفاهم قبل أن يرتكب أي خطأ ربما يستحيل تلافيه فلم يقبل الحاكم الانكليزي بالتفاوض فكتب إليه الإمام الشيرازي الكتاب التالي:
إلى الحاكم السياسي للحلة الميجر بولي هداه الله
قرأنا كتابكم وتعجبنا غاية العجب من مضمونه حيث أن جلب العساكر لمقابلة الأشخاص المطالبين بحقوقهم المشروعة الضرورية لحياتهم من الأمور غير المعقولة ولا تطابق أصول العدل والمنطق بوجه من الوجوه ويحتمل أن الأشخاص الذين يقصدون الاستفادة من إيجاد الخلاف بين اهالي العراق والإنكليز هم الذين غشوكم لينالوا بواسطة ذلك مقاصدهم وفي الليلة الماضية اردت مقابلتكم لرفع الشك في نفسكم كي لا تغفلوا عن هذه النكتة ولكنكم امتنعتم عن ذلك وان نظريتنا في أمور المملكة اصلح وانفع من سوق الجيوش واستعمال القوة الجبرية وادعوكم عجالة لابلغكم أن توسلكم بالقوة في قبال مطالب البلاد واستدعاءاتها مخالف للعدل ولإدارة البلاد وإذا امتنعتم عن المجيء في هذه المرة أيضا فستصبح وصيتي للأمة بخصوص مراعاة السلم ملغاة في ذاتها واترك الأمة وشأنها وبهذه الصورة تقع مسؤولية نتائج السوء عليك وعلى اصحابك وفي الختام لي الأمل أن تؤثر فيك هذه النصيحة كي لا يقع ما يفسد النظام والامن ولكي لا تكونوا سبباً لإراقة دماء الابرياء.
محمد تقي الشيرازي - كربلاء 5 شوال 1338
فقدم الميجر بولي قائمة أسماء إلى الإمام الشيرازي لتسليمهم إليه مقابل رفع الحصار عن كربلاء وتضمنت أسماء كل من الشيخ محمد رضا نجل زعيم الثورة الإمام الشيرازي والشيخ عبد الكريم العواد ومحمد شاه الملقب بالهندي واحمد القنبر والشيخ هادي كمونة والشيخ كاظم أبوذان والسيد محمد علي الطباطبائي والشيخ عمر والحاج علوان وابراهيم أبي والده وعبد المهدي القنبر والسيد احمد البير وعثمان العلوان والسيد محمد علي هبة الدين الشهرستاني وابو المحاسن ثم تردد هؤلاء عن الذهاب إلى الحاكم الميجر بولي خوفاً من انه سينفيهم من كربلاء عند وصولهم إليه غير أن الإمام الشيرازي امرهم بالذهاب إليه ولو أدى ذلك إلى شنقهم فأجابوا امره وساروا إلى الحاكم الانكليزي الميجر بولي يوم 5 شوال سنة 1338 هجرية وقد اعتقلوا حين وصولهم ونقلوا إلى الحلة ومنها إلى البصرة ومن هناك إلى جزيرة هنجام.
اجتماع العلماء والحاكم العسكري في النجف
طلب الحاكم العسكري في النجف الاشرف إلى العلماء يرجوهم الحضور إلى دار الحكومة للقائه ولما تم الاجتماع بحضور سماحة الشيخ عبد الكريم الجزائري والشيخ الجواهري والشيخ عبد الرضا ومعهم الحاج محسن شلاش قال لهم نور بري طلبتكم لأرجوكم أن تكتبوا لآية الله الإمام الشيرازي رسالة مواساة لنفي نجله الشيخ محمد رضا الشيرازي.
فقاطعه الشيخ عبد الكريم الجزائري وقال أي ولد يعنيه حضرة الحاكم من اولاد الميرزا الإمام الشيرازي (أهو حاج مخيف أم اولاده احرار الحلة أم اولاده رجال كربلاء إذ أنه لم يبلغ هذه المنزلة التي هو عليها إلا لأنه ينظر إلى جميع العراقيين بصفتهم أولاده.
فغضب الحاكم من هذه الكلمات الحقة غضباً شديداً وانفض الاجتماع دون أن يثمر عن نتائج.
وعندما لاحظ الإمام الشيرازي اطماع الانكليز ونواياهم السيئة أصدر فتواه الشهيرة التي انتفض لأجلها العراق بأجمعه لما كان لها من الوقع العظيم في النفوس واجتمع رؤساء العشائر وجماعة من العلماء في داره في النصف من شعبان وبعد مشاورات اصدر فتواه نصا:
مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم رعاية السلم والامن ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية إذا امتنع الانكليز عن قبول مطالبهم.
الاحقر
محمد تقي الحائري الشيرازي
فتوى الإمام الشيرازي أعطت إلى الزعماء ورؤساء العشائر قوة معنوية عظيمة وبعد الحصول على هذه الفتوى وطبعها بعشرات الألوف من النسخ حيث وزعت في كل مكان من المدن والقرى العراقية استعد زعماء ورؤساء العشائر للثورة واستعمال القوة بعد أن رفضت السلطات البريطانية مطالب الشعب العراقي التي وقعوها في دار عبد الواحد الحاج سكر بأمر من سماحة الإمام الشيرازي والقيادة في كربلاء وان يلقوا بآخر حجة على السلطة المحتلة حقناً للدماء وكانت المطالب العراقية كالتالي:
أولاً: أن يمنح العراق استقلالا تاماً لا تشوبه أية شائبة.
ثانياً: أن يتوقف القتال في الرميثة واطرافها حالاً.
ثالثاً: أن يتخلى الحكام السياسيون مع جميع القوات البريطانية عن مراكز الفرات وبلداته إلى بغداد لتدور المفاوضات بين زعماء الأمة العراقية والسلطة البريطانية المحتلة بشأن تقرير مصير العراق بجو هادئ.
رابعاً: أن يطلق سراح الميرزا محمد رضا نجل آية الله الإمام الشيرازي ويفرج عن احرار العراق المسجونين والمنفيين إلى جزيرة هنجام وغيرها كافة بلا استثناء دون قيد أو شرط.
وقدموا هذه المطالب إلى الحاكم البريطاني الميجر نور بري وعندما رفضها تأهبوا للوثوب والقيام بالثورة وفي يوم الأحد 24 شوال 1338 هجرية الموافق 11 تموز 1920م تقدمت جيوش العشائر وهم آل فتلة واعقبتهم جيوش عشيرة آل إبراهيم تحت قيادة السيد علوان الياسري وشعلان الجبر وجيوش الغزالات تحت قيادة السيد هادي زوين وعلي المزعل ثم انقسمت قبائل آل فتلة إلى قسمين قسم توجه إلى حصار مدينة أبي صخير التي كان فيها ما يزيد على الثلاثمائة جندي بريطاني مع كامل عدتهم تحت قيادة الكابتن هوبكنس والضابط مايقوس.
هجم آل فتلة على أبي صخير بقيادة عبد الكاظم الحاج سكر وحاصروا المدينة بعد أن استشهد من آل فتلة ثمانية عشر مقاتلاً وجرح ستة وعشرون مجاهداً وكانت هذه المواجهة اول معركة قام بها الثوار ضد الانكليز.
ثم توجه القسم الثاني من مقاتلي عشيرة آل فتلة نحو الجانب الشرقي من ضفة الفرات يقصدون الكوفة فالحلة ثم بغداد تحت قيادة عبد الواحد الحاج سكر وعندما وصلوا إلى أبي صخير التحق بهم السيد علوان الياسري وحقق المجاهدون اول انتصار في الشامية حيث هجموا على الباخرة الحربية فاير فلاين فاضطرت للانسحاب إلى الكوفة ثم حرقها الثوار.
واقعة الرارنجية
في يوم 7 ذي القعدة سنة 1338هجرية وقعت معارك دامية في نواحي الرستمية التي تبعد عن الحلة اثني عشر ميلاً في جنوبها بين الجيش البريطاني والمجاهدين، ادت إلى القضاء على اكثر من ثلثي القوة البريطانية ومعداتها واشتهرت هذه الواقعة بالرارنجية وترك الجيش البريطاني ما يزيد على الألف قتيل واكثرهم من الانكليز وغنم الثوار اثنين وسبعين رشاشاً من نوعي (فيكرس ولويس) ومدفع عيار 17 بوند وأرزاقاً واسرى بلغ عددهم 160 اسيراً منهم 79 بريطانياً والباقون من الجنود الهنود وبعد انتهاء معركة الرارنجية قرر الثوار أن يرسلوا المدفع المذكور إلى الكوفة لتحطيم باخرة فايرفلاي التي كانت في الشط مقابل الثوار الذين حاصروا القوة البريطانية في الكوفة فضربوا الباخرة بقذيفتين الأولى اصابتها والثانية اشعلت فيها النيران فاحرقتها ثم غرقت وعندما وصل اسرى الجيش البريطاني إلى النجف الاشرف كتب شيخ الشريعة إلى المسؤول عن الاسرى الكتاب التالي:
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليك وثناء على اخلاصك وبعد فغير خفي على نباهتك أن للاسرى في الشريعة الإسلامية مكانة عالية فالعناية بهم فرض والتوجه إلى اكرامهم حتم واني اوصيك اطال الله حياتك بتعهدهم على الاتصال وتفقد أحوال صحتهم ومعاشرتهم ما داموا وديعة مقدسة وأمانة محترمة فيلزمك البذل لهم والتوفير عليهم ويجب تصديك لتحقيق راحتهم اكثر من الأيام الماضية واني قوي الامل بانك تنشط إلى هذا التكليف لأنه شرعي مدني انساني فواظب على الانفاق عليهم حتى يتعين لنفقاتهم مورد خاص فقد اعتمدت وأوكلت ذلك إلى عهدتك والزمتك به ولا عذر لك ودم مؤيداً.
شيخ الشريعة الاصبهاني
أما خسائر المجاهدين في واقعة الرارنجية فقد بلغت 158 جريحاً و84 شهيداً.
وفي يوم 18 ذي الحجة يوم عيد الغدير وهو من اكبر اعياد الشيعة الإمامية اجتمع مجلس قيادة الثورة الذي كان مقره في كربلاء المقدسة وقد أشرنا سابقاً بنفي بعض أعضاء هذا المجلس إلى جزيرة هنجام وقرر تشكيل حكومة مستقلة وكان اول قراراته تعيين مدينة كربلاء المقدسة مركز لواء والنجف الأشرف قضاءاً تابعاً إلى كربلاء كما قرر تنصيب السيد محسن أبي طبيخ متصرفاً للواء كربلاء وتعيين السيد نور السيد عزيز الياسري قائم مقام لقضاء النجف وتلحق به الكوفة حتى أبي صخير ويكون راتبه الشهري ألف روبية وقد تبرع السيد أبو طبيخ متصرف كربلاء برواتبه إلى الثوار لسد نفقات عوائل المجاهدين ولم يبق من تلك المخصصات شيئ فكان هذا أول منصب رسمي وتشكيل حكومة عراقية مستقلة في كربلاء المقدسة ونصب عليهم حاكماً منهم وعمّها الفرح ولمس العراقيون أول ثمرة من ثمرات الثورة العراقية الكبرى تحققت باستقلال وخروج كربلاء عن طاعة الانكليز وهذا نص البيان الرسمي لمجلس قيادة الثورة:
اجتمع المجلس الحربي بتاريخ 18 ذي الحجة سنة 1338هـ بمدينة كربلاء وتذاكر فيما يخص تنظيم شؤون المدن والمراكز التي حررها الثوار فقرر جعلها مناطق وجعل لكل منطقة متصرفاً يعين من قبل هذا المجلس وهو يعين موظفين لمنطقته يبقون مؤقتين حتى تسن القوانين من قبل مجلس الأمة التشريعي وذلك بعد تطهير البلاد من الحكومة المحتلة ويقوم المتصرف باعمال الإدارة ويراجع المجلس الحربي بكل ما يهمه ويحتاج للمراجعة به وتكون وظائفه حسبما ينص به النظام الذي سيكون معمولاً به حتى يجتمع المجلس التأسيسي في بغداد إن شاء الله والذي سيشترك فيه عموم اهالي العراق وبطريقة الانتخاب وقد قسم المجلس الحربي المناطق فجعل مدينة كربلاء منطقة وألحق بها طويريج والنجف وأبا صخير والشامية مع نواحيها وعين المجلس السيد محسن أبي طبيخ متصرفاً لهذا اللواء على أن يكون راتبه الشهري ألف روبية وبذلك يبلغ ليستلم وظيفته.
التواقيع - أعضاء المجلس الحربي
وبعد أن بلغ السيد أبو طبيخ وأذيع قرار المجلس في صحن الحسين الشريف واطلع عليه أهالي كربلاء خرج أبو طبيخ من داره متوجهاً إلى مقر الحكومة الذي كان يسكنه العثمانيون سابقاً وقد استقبلته جماهير كربلاء من الرجال والنساء بجميع طبقاتهم يهتفون بحياة زعيم الثورة والحرية والاستقلال وكانت المظاهرات تسير على طول الطريق والناس تهتف والشعراء ينشدون اشعارهم معبرين عن فرحتهم وحماسهم واحتفائهم بهذا اليوم المبارك ولما وصل السيد أبو طبيخ إلى مقر المتصرفية كان العلماء والاعيان وشخصيات كربلاء وعلى رأسهم أعضاء مجلس قيادة الثورة في استقباله وفي هذه الاثناء رفع العلم العراقي ذو الألوان الأربعة والذي وصفه الشاعر بقوله:
بيض صنائعنا سود وقائعنــــا *** خضر مرابعنا حمر مواضينا
وقام الحاضرون بأداء التحية وبعد المراسيم الرسمية استقر السيد المتصرف على منصته واقبلت عليه الجموع لتقديم التهاني والتبريكات ثم قام سكرتير المجلس الإداري الأستاذ خليل عزمي فألقى قصيدته الرائعة التي جاء فيها:
بشراك يا كربلا قومي انظري العلما *** عـــلى ربوعـــك خفاقـــاً ومبتسمـا
وكفكفي دمعـك الهطـــال وابتهجـــي *** فان بند بنـي قحطـــان قـــد حكمـــا
هذا هو العلـم المحبـــوب فاحتفـــلي *** عليه يا كربلاء واستنهضي الهمما
وشاهدي كيف امسى القلب مبتهجـاً *** من الحماس ويهفو أن يريق دمـــا
شعب تفانى وراء الحق مبتغيــا *** نيل الكرامة جار الغــرب أو ظلمــا
ظلم وجور ابت ارواحنا شممـــا *** أن تستكين لمن لم يــرعها ذممـــا
واستوثقي أن دين الحق شيــده *** وان بيت الصليب انــدك وانهدمـــا
لله در بني قومي الضياغـم مــا *** اشدهم بوطيس الحرب حيـن حمى
ما من زعيم بهم إلا لــه صفـــة *** ترى به المجد والانجـاد والكرمـــا
تراه في الحرب ضحاكاً مبتسما *** والسيف ما زال يبكي من يديه دما
قد حاز بالذب عن اوطانه قدمـا *** لا أخر الله فــي حـــرب لـــه قدمــا
وقد استقبلت هذه الابيات الرائعة بتصفيق حار وترحيب منقطع النظير من قبل الحاضرين وفي هذه الاثناء قام السيد علي البازركان وهو أحد التجار الشيعة الايرانيين في بغداد وقد بذل كل ما بوسعه من مال لتوطيد أركان الثورة في بغداد حين أرادت السلطة المحتلة القبض عليه هرب منها لاجئاً لموطن الثورة ومركز انطلاقتها ومقر قيادتها كربلاء المقدسة فألقى كلمة مفصلة استنهض بها همم الحاضرين والمجاهدين الثوار قائلاً (السلام على الحفل الكريم ما اسعد حظي وما اجمل طالعي بهذه الساعة المقدسة وأنا واقف بين اخواني الاحرار الاعزاء أبناء الأمة العربية العراقية التي بذلت ما في وسعها من النفوس والنفائس لرفعك أيها العلم الحر لترفرف فوق رؤوسنا حياك ربي بتحياته الحسنى لقد بشرتنا بزوال ساعات الذل وكسر حلقات سلاسل الاستعباد. إن كل خفقة منك أيها اللواء المبارك تقول لنا (جاء الحق وزهق الباطل) اخفق على قطرنا المحبوب الذي كان يئن من ثقل وطأة المصائب كي يبتسم الجو الذي خنقته العبرات على ما شاهده من أنواع الظلم واشكال الاعتساف بين هذه الأمة انشر صفحاتك أيها العلم كي تظهر للملأ أن الحرية قد صارت حليفتنا وان الاستقلال التام صار إلينا رفرف ولا تخف بالحق لومة لائم فان هذه الأمة مجردة سيوفها مشمرة عن سواعدها لحفظ مقامك السامي ورفعك فوق أعلى قمة من هذا القطر المقدس. إن ألوفاً من الرجال وصفوفاً من الأبطال حاضرة لإراقة آخر قطرة من دمائها لادامتك وسلامتك وننشد قائلين:
إنـا لقــــوم ابـــت اخلاقنـا شرفــاً *** أن نبتدي بالأذى من ليس يؤذينا
بيـــض صنائعنــا سـود وقائعنـــا *** خضـــر مرابعنــا حمـــر مواضينا
لا يظهر العجز منا دون نيل منى *** ولـو راينــا المنايـــا في أمانينــــا
بشراك أيتها الأمة العربية العراقية بحلول هذه الساعة المباركة التي رفع فيها هذا اللواء المقدس الحر الذي كنت طالبة رفعه منذ عدة قرون إن السعد قد رافقك وعلو الحظ حالفك.
أيتها الأمة إن رفع العلم سهل ولكن ادامته فوق الرؤوس صعب. فيجب عليكم الآن بذل قصارى الجهد واسترخاص النفوس بدفع عدونا الأكبر من هذا القطر الشريف المقدس الذي بني من جماجم الأجداد واجسام الآباء ولقد سعدت كربلاء والنجف الأشرف وما هو إليهما باستنشاق هواء الحرية ورفع العلم العربي ولم تزل بغداد تئن وتبكي تحت ظلم الانكليز وسيطرة الدولة المحتلة ألا يا سادتنا وعلماءنا ألا يا رؤساء عشائرنا ألا يا زعماء امتنا المظلومة اسألكم بحق هذا العلم المقدس هل ترضون ببغداد والكاظمية وما جاورها أن تبقى تحت سلطة اجنبي غاياته درس مآثر ما بنته الجدود وجل مقاصدهم مص دم الشعب وجعلهم احقر من الهنود، بالله عليكم قوموا وانهضوا نهضة الأسود وانقذوا قطرنا المحبوب من ايدي أعدائه وارفعوا العلم فوق أعلى قمة فيه وبيضوا صفحات تاريخ عراقنا المبارك كي يتم السرور ونقول نلنا بغيتنا وما نتمناه لان النصر حليفنا واعلموا أن العراق للعراقيين ليحيا العلم العربي الحر ولتحيا الأمة العربية الحرة...).
وقد أثارت هذه الكلمة حماساً عند الحاضرين وأخذت مأخذها في قلوب المستمعين وعقد مجلس قيادة الثورة جلسته لوضع خطة لتحرير بغداد من الاحتلال البريطاني.
وفي هذه الأثناء أمرت الحكومة البريطانية بعزل الكولونيل ولسن الحاكم الملكي في العراق وتعيين السير برسي كوكس خلفاً له ليمثل الحكومة البريطانية في العراق بصفته مندوباً سامياً ومهمته تأسيس حكومة عربية في العراق وتنفيذ مطاليب الثوار واحرار العراق وقد وصل السير برسي كوكس إلى البصرة في مساء اليوم الأول من تشرين الأول عام 1920 عن طريق الميناء بحراً بعد أن قابل في طريقه الأمير عبد العزيز آل سعود في العجير التي كان يسكن فيها يومذاك وقابل أيضا الشيخ خزعل ثم توجه من البصرة بتاريخ 5 تشرين الأول إلى بغداد عن طريق نهر دجلة فزار المدن والقرى الواقعة على ضفة النهر المذكور واتصل بأهلها وأخذ الناس الذين كان اكثرهم من عشائر أهل العامة يعلنون استعدادهم لخدمة حكومة بريطانيا حتى وصل بغداد في يوم 11 تشرين الأول 1920 فاستقبل في بغداد من قبل السنة استقبالاً فخماً وكان من المستقبلين جميل صدقي الزهاوي فألقى قصيدة ترحيبية حمل فيها على الثورة والثوار حملة شعواء من جملة ما جاء فيها:
عد للعــــراق واصلـــح منه ما فسدا *** وابثث به العدل وامنح اهله الرغدا
الشعــــب فيك عليك اليــوم معتمـــد *** فيما يكون كمــــا قد كـــان معتمــــدا
أرأف بشعب بغاة الشـــر قد قصدوا *** إثـــــارة الشــر فيــه وهــو ما قصـدا
فألقا السير برسي كوكس كلمات قصيرة في جمع الحاضرين وكلهم من أهل بغداد السنة جاء فيها:
يا جميل افندي ويا أيها المندوبون، إن دولة انكلترا ارسلتني للمساعدة والاتفاق مع اشراف ورؤساء العراق لنحصل على الغاية المطلوبة للعراقيين وتأسيس حكومة عربية مستقلة تحت نظارة حكومة انكلترا ولقد جئت لهذه الغاية ولكن ما زال الاضطراب فلا يمكن العمل وأنا حاضر للعمل عند سنوح الفرصة وهذا شيء بيدكم.
وقد استغل علماء كربلاء المقدسة الفرصة فقدموا مذكرة إلى السير برسي كوكس الحاكم البريطاني الجديد بتوقيع السيد محمد علي هبة الدين الشهرستاني وهو من مشاهير علماء كربلاء المقدسة مطالباً فيها بحقوق العراقيين جاء فيها:
حضرة ذي الفخامة السير برسي كوكس المعظم عمت عطوفته
بعد تقديم الاحترام التام والثناء المستدام فإننا نأمل من هذا المقدم السعيد أن يكون مقدم السعادة للامة العراقية الشريفة فنظراً إلى أن الحقائق يجب أن لا تخفى على وزير معتمد عليه مثل فخامتكم فلذلك نتقدم إليكم ببيان نبذة مهمة مما هي عليه هذه الأمة بياناً منزهاً عن كل شائبة وريب وهي أن الأمة العراقية المعروفة باعتدال اخلاقها وشديد رغبتها إلى السلم والسكون وقد تحملت أثناء حاكمية جناب ولسن من امرائه اقسام القساوة وضروب الضرائب... إن أبواب الحروب لا يسدها غير تحرير الشعوب وتقدمت انكلترا وفرنسا بمواعيدها الرسمية المعروفة في تحرير العراق واستفتاء اهله عن رغباتهم في مصير حكمهم وشكله فأجابوا مراراً واعلنوا جهاراً انهم يريدون استقلالهم في الحكم الذاتي من دون تدخل الاجنبي... غير أن الحاكم ولسن قد استقبلها بالقسر والقساوة والاضطهاد وهتك حرمة كربلاء وغيرها كما هتك مقام الرئاسة الروحانية وساق بقوته العسكرية جماعة من العلماء والرؤساء بالإهانة حينها لم يظهروا عليه عصياناً وفيهم اكبر انجال حضرة آية الله العظمى الميرزا الشيرازي (قدس سره) دون أن يحاكموا بذنب لهم سوى طلبهم حقوق الشعب تلك الحقوق المشروعة التي بنى عليها ساسة الحلفاء صروح الهدنة والصلح العام وتعاقبت عليها مواعيدهم الرسمية ثم لم يقنع حضرة الحاكم ولسن بكل ذلك حتى ارسل عسكراً على الحاج مخيف وغيره من الصلحاء الاكابر فساق وقتل وحرق وفرق فثارت العشائر للدفاع عن النفس والنفيس فأمرنا حضرة آية الله العظمى الشيرازي في أواخر شوال الماضي أن نسافر بمثابة سفراء من ناحية كربلاء المقدسة إلى بغداد للمفاوضة مع حاكمها في الاتفاق على صورة مشروعة تحفظ الحقوق وتحقن الدماء غير انه (الحاكم) مع الأسف خيب آمالنا السلمية وأبى إلا الشدة والانتقام فرجعنا باليأس ثم لم نسمع عند حضرة الحاكم حرفاً من شواهد حب السلم والمفاوضة إلا بعد ما عرض عساكره على القتل والاسر والحصار وأضر دولته الفخيمة اكثر من غيرها فلو اردنا سرد وقائعه وفضائعه لشغلنا اوقاتكم الشريفة لكننا نؤخرها إلى وقت اللزوم وإنما جرى القلم بهذه النبذة ليحيط علمكم السامي بما نحن فيه.
كربلاء في 7 محرم الحرام سنة 1339
سيد محمد علي هبة الدين الشهرستاني
وبعد يومين من وصول السير برسي كوكس إلى بغداد كان أول عمله إصدار بيان نشره في الصحف ووزعه بواسطة الطائرات على المدن المقدسة كربلاء والنجف والكاظمية ومناطق الثورة في الجنوب والعشائر العراقية هذا نصه:
منشور عام إلى جميع طوائف العراق وعشائره
إن فخامة نائب الملك السير برسي كوكس يعلن لجميع أفراد العشائر وطوائف العراق أن حكومة بريطانيا انتدبته ليعود إلى العراق لتنفيذ مقاصد الحكومة الثابتة بمساعدة رؤساء الأمة وتشكيل حكومة وطنية في العراق بنظارة حكومة بريطانيا ولقد يصعب جداً على فخامته تنفيذ منويات الحكومة البريطانية ما دامت بعض اقسام العشائر والطوائف في العراق تعادي الحكومة ونظن أن الأحوال الحاضرة تبعث على الشكوك الواهية التي تخامر أفكار بعض طبقات الأمة في نوايا الحكومة البريطانية ويعتقد فخامته انه يتوصل لإزالة كل شك أو ريبة خامرت أفكار الذين قابلوه حتى الآن ولا يعلم فخامته غرض العشائر الذين يشغلون أنفسهم بالحرب فإذا كان هناك سوء مفهومية يمكن أزالته فيسر فخامته أن يبلغ العشائر ذلك إليه بواسطة اقرب حاكم سياسي إليهم.
وفي 27 محرم عام 1339 هجرية حصل نزاع بين رؤساء قبائل بني حسن فكتب قائم مقام طويريج السيد علي العفصان رسالة إلى الشيخ عبد الواحد الحاج سكر يستنجد به وهذا نص الكتاب:
لحضرة الفاضل عبد الواحد الحاج سكر المحترم
بعد اهداء التحية
اخبركم انه حدث انشقاق عند عشائر بني حسن فيما بينهم وأرجوك تحضر حالاً أنت بذاتك لحل هذا الخلاف وعند مجيئك سافصل لك ما سمعته عن أسباب هذا الخلاف والسلام.
علي العفصان - 27 محرم 1339
وعند استلام هذا الكتاب توجه الشيخ عبد الواحد الحاج سكر من الوند إلى طويريج لحل الخلاف وقد استفاد العدو من الخلاف الناشب واحتل جيش الانكليز مدينة طويريج.
وحين وصل خبر سقوط مدينة طويريج إلى المجاهدين في الوند انسحب الثوار من الوند إلى مدينة كربلاء المقدسة للدفاع عن مدينة الحسين(ع) وتكون قاعدتهم السليمانية التي تبعد عن كربلاء خمسة أميال وعن طويريج عشرة اميال ولكن مجلس قيادة الثورة في كربلاء شكك في إمكانية انتصار الثوار واراد أن يتفاوض مع قوات العدو لعدم اراقة دماء الأبرياء من الناس العزل إلا أنه لم تنجح محاولة المفاوضات وبعد أن تقابل الفريقان ونشبت حرب طاحنة بين اهالي كربلاء وقوات العدو كانت النتيجة سقوط كربلاء ودخل جيش الإنكليز مدينة كربلاء واطلقت نيران المدافع والرشاشات على الناس والبيوت والمحلات عشوائياً واشتركت الطائرات التي كانت ترافق الجيش بالقاء قنابلها على المدينة وظل الجيش يطلق النار وقبل وصول الجيش إلى كربلاء تمكن كثير من الأحرار من الخروج من المدينة ثم قامت القوات الإنكليزية بتطويق كربلاء من جهاتها الأربع بالمدافع والاسلاك الشائكة.
وما أشبه اليوم بالبارحة، إذ تعيش كربلاء فصولها الدامية التي ورثتها من التاريخ لأنها لا تستطيع إلا أن تعيش حرة عزيزة تأبى الذل والهوان مهما توالت عليها الضربات والهجمات.
إن تاريخ العراق الحديث وبالخصوص ثورة العشرين يؤكد الكثير من الحقائق والعبر منها:
* إن دور العلماء في الحركة السياسية والاجتماعية دور أساسي لا ينفك عن حركة الشعب العراقي باعتبارهم المظلة الشرعية التي يستند عليها التحرك النهضوي، ولولا تحرك العلماء بقيادة الميرزا الشيرازي لما قامت ثورة العشرين المظفرة.
* إن ثورة العشرين مثلت تجسداً وحدوياً كبيراً بين كافة فئات الشعب ومختلف طبقاته حتى اصبح صوتاً واحداً انبثقت منه قوة ضارعت أقوى جيش استعماري في ذلك العصر وأذاقته الذل والهوان. وهذه الوحدة هي التي تكون قادرة على انقاذ العراق من محنته اليوم.
* إن ثورة العشرين كانت قوية في انطلاقتها وحركتها، ولكن لم يستطع أبناء الثورة استثمار النصر لعدم وجود المؤسسات والاحزاب المنظمة جيداً بحيث تتحول إلى مؤسسات حكم تراقب وتشارك في عملية اتخاذ القرار. وهذا هو السير الذي يمكن أن ينعش العراق اليوم وينقذه من الدكتاتورية والاستبداد.
* كشفت الثورة أن لا حقيقة للوعود المعسولة التي يطلقها المستعمر ومن خلفه اتباعه.
وكشفت كذلك عن أن الإرادة الهادفة، والعزم الأكيد قادران على هزيمة القوة الغاشمة التي تفتقد لأي حق أو مصداقية في صراعها مع حقوق الآخرين.
اضف تعليق