إن عملية انتقاء الحقائق التاريخية وسط هذا الكم الهائل من المصادر التاريخية يشبه إلى حد بعيد عملية الغوّاص الذي يبحث عن (الدرر) وسط آلاف الأصداف، فإبراز هذه الحقائق ليست ـ بتاتاً ـ مثل إبراز العقد المتلألأ بالدرر في أحد المتاحف، بل هو مخاض الإبحار في محيط واسع وصعب وشاق، فما يتحصل من تلك الحقائق يعتمد على التفسير والاستنتاج والبحث والتدقيق والتمحيص والمقارنة.
إن العوارض والأسوار التي أحاطتها الأهواء والأحقاد والسياسات حول هذه الحقائق تقتضي على الباحث والدارس أن يتأهّب لخوض غمار التاريخ، وبذل الجهد الكبير من أجل انتزاع ما هو حقيقي من براثن التحريف والتدليس والتزييف، يحثه على ذلك شيء واحد هو الحقيقة لا غير.
فالتاريخ هو عملية التفاعل بين الماضي والحاضر، وهو ذلك الإنسان الذي يخفي الكثير من الأسرار وسيبقى يخفيها ما لم يستنطقه تحقيق الدارس والمحقق.
فكم من الحقائق أسدل عليها المؤرخون ستار النسيان في تاريخنا الإسلامي ؟
وكم من (الدرر) أهملوها وشوّهوا في أوصافها وغطوا على بريقها ؟
وبالمقابل ..
كم من (الزبد) الطافح حشّدوا له الجيوش من الأوصاف والنعوت والألفاظ والتعابير، ونظموها صفوفاً لعرضها في أذهان الأجيال عبر مؤرخاتهم، كما قال ابن الرومي:
رأيتُ الدهرَ يرفعُ كلَّ وغدٍ *** ويخفضُ كل ذي شيمٍ شريفه
كمثلِ البحرِ يغرقُ فيه حيٌ *** ولا ينفكُ تطفو فيه جيفه
هكذا يرى من يقرأ التاريخ قراءة منطقية محايدة لا تقودها الأهواء والنزعات.
جناية السلطة والمؤرخين
عندما يصاب الإنسان بلعنة السلطة فإن هذه اللعنة ستلاحقه حتى بعد موته من قبل المؤرخين الذي يسايرون منهج السلطات، فهم يترحمون على من تترحّم عليه السلطة ـ أيٍّ كان ـ ويلعنون من تلعنه السلطة ـ أيٍّ كان ـ ، فجنايات الخليفة بحق من يصبُّ عليه لعنته تحثّ المؤرخين على مواصلة تلك الجنايات ليبقى ذلك الإنسان متّهماً عبر الأجيال.
حتما سيدهش القارئ عندما يعرف أن المجني عليه في هذا الموضوع من قبل السلطة والمؤرخين معاً هو صحابي كبير من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأجلاء، وممن شهد معه بدراً، وكان له دور فاعل في إرساء قواعد الإسلام، كما كان له دور على المسرح السياسي بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، فلازم الحق، واتّبع وصية الرسول في التمسُّك بالثقلين، ووقف موقف المعارض تجاه سياسة الجور والزيغ العثمانية، وتعرَّض لأبشع أنواع الظلم والإضطهاد، وبقي على ولايته لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وصَحَبه في سلمه وحربه، وشهد معه الجمل ضد الناكثين، حتى ختم حياته بالشهادة بين يديه في حربه ضد القاسطين في صفين.
عبد الرحمن بن حنبل الجمحي
لو أنصف التاريخ أو بالأحرى المؤرخون لكان اسم (عبد الرحمن بت حنبل الجمحي) أشهر من نارٍ على علم في المصادر التاريخية، ولتصدّر اسمه الدراسات والعناوين البحثية التي كرّست لتزويق الشخصيات السلطوية و(المنحرفة) في التاريخ، وما أكثرها.
ولكن كان من الطبيعي أن من يتولى الحق المتمثل بعلي (عليه السلام) ويقارع الباطل أن تتعرض سيرته للتشويه والتحريف من قبل المؤرخين الذين يقفون بالمرصاد لمثل هذه الشخصيات العظيمة إرضاء للجانب السلطوي.
فمن يتبنّى عقيدة أهل البيت (عليهم السلام) ويسير على منهج الحق الذي وقف على طول خطه موقف المعارض للظلم والجور السلطوي لا يروق لأولئك المؤرخين الذين تعودوا على التمسك بأذيال الحكام والتقوّت على موائدهم، ومثلما كان نصيب الصحابي الكبير عبد الرحمن بن حنبل الجمحي السجن والإقصاء والتعذيب والنفي في حياته من قبل عثمان فقد كان نصيب سيرته المعطاء التشويه والتهميش والتغاضي والإهمال والإقصاء من قبل المؤرخين، فارتُكبتْ بحقهِ جناية مزدوجة كانت من أعظم الجنايات في التاريخ الإسلامي ضد شخصية إسلامية عظيمة.
نسبه وإسلامه وحضوره بدر
هو أبو حنبل عبد الرحمن بن حنبل بن مليك بن عائفة بن محمد بن كلدة الجمحي القرشي، أما سنة ولادته فلم تُشر إليها المصادر، غير أن حضوره في وقعة بدر يدل على انه ولد قبل البعثة الشريفة، لأن بدراً كانت سنة (2هـ)، كما يدل على أنه من المسلمين الأوائل السابقين إلى الإسلام.
أما حضوره في بدر فقد أكده الشيخ أبو الصلاح تقي الدين بن نجم الحلبي (374هـ - 447هـ)، حيث ذكر في ثلاثة مواضع من كتابه (تقريب المعارف) (ص/231،278،297)، على أن عبد الرحمن بن حنبل الجمحي شهد بدراً مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان من المسلمين الأوائل.
وقد نقل ذلك عن تاريخ الثقفي المتوفى سنة (283هـ)، ووصفه الشيخ المفيد في كتابه (الجمل) (ص103) بقوله: (كان من جملة المهاجرين المبايعين لأمير المؤمنين (عليه السلام) الراضين بإمامته، الباذلين أنفسهم في طاعته)، وقال عنه السيد محسن الأمين في (أعيان الشيعة) (ص464): (كان أحد المعذبين الذين أقلتهم غيابة السجن مصفداً بالحديد، ولم يجهز عليه إلّا إنكاره المُنكر، وجنوحه إلى الحق المعروف، والكلام فيه لدة ما كررناه في غير واحد من زملائه الصالحين، وأحسن ما ينم عن سريرته شعره الطافح بالأيمان)، وقال الشيخ علي النمازي في (مستدركات علم الرجال) (ج4ص394): (وله كلمات وأشعار تدل على حسن عقيدته وكماله).
عبد الرحمن الثائر على الظلم
لقد انتقمت الجاهلية الأموية لأصنامها من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأجلاء بالظلم والنفي والسجن والتعذيب في زمن عثمان، فنُفي أبو ذر الغفاري إلى الربذة حتى مات فيها غريباً، وضُرب عبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر، وكعب بن نهدة، وعامر بن عبد قيس التميمي، وعمرو بن زرارة.... لا لشيء إلا لأنهم اعترضوا على سياسة عثمان الجائرة.
كان عبد الرحمن من أشد المعارضين للجاهلية الأموية، وعزم على المواجهة لإعادة السير على منهج الإسلام الحق والشريعة المحمدية الغرّاء التي قاتل من أجل إرسائها، وإرجاع الحق المغتصب إلى أهله بعد أن عاث بنو أمية فساداً في الأرض، واتخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً، وأخذوا (يقضمون مال الله قضم الإبل نبتة الربيع)، فجاهر بالرفض بيده ولسانه:
زعمَ ابنُ عفانٍ وليسَ بهازلٍ *** أنَّ الفراتَ وما يحوزُ المشرِقُ
خرجٌ له من شاءَ أعطى فضلَه *** ذهباً وتلكَ مقالةٌ لا تصدُقُ
أنّى لعفانٍ أبيكَ سبيكةٌ *** صفراءُ فالنهرُ العبابُ الأزرقُ
وورثته دفّاً وعودَ يراعةٍ *** جزعاً تكادُ له النفوسُ تُطلَّقُ
وبودِّنا لو كنتَ تأتي مثله *** فيكونُ رقُّ فتاتكُم لا يعتقُ
لم يستطع عبد الرحمن السكوت على الظلم والحيف الذي لحق بالمسلمين من قبل عثمان وهو يراه وقد أعطى خمس أفريقية إلى مروان بن الحكم، ويوزّع الأموال الطائلة على أقربائه، وحينما يستنكر الصحابة منه ذلك يتحدّاهم بقوله: (لنأخذنَّ من هذا الفيء وإن رغمت أنوف أقوام) !!! و(إني أؤثر بني أمية على من سواهم)!!
وقد وصفه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: (ثم قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه)، ولم يكتف بذلك حتى ولّى أقرباءه على رقاب المسلمين، ومنهم طريد رسول الله عبد الله بن أبي سرح الذي ولاه على مصر، وأعطى خمس أفريقيا إلى الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم فارتفعت أصوات التنديد والاستنكار ومنها صوت عبد الرحمن بن حنبل:
وأحلفُ باللهِ جهدَ اليميـ *** ـنِ ما تركَ اللهُ أمراً سُدى
ولكنْ جعلتَ لنا فتنةً *** لكي نَبتلي بكَ أو تُبتلى
دعوتَ الطريدَ فأدنيته *** خلافاً لما سَنّه المصطفى
ووليتَ قرباكَ أمرَ العبادَ *** خلافاً لسنّةِ من قد مضى
وأعطيتَ مروانَ خُمسَ الغنيمـ *** ـة آثرتُه وحميتَ الحِمى
ومالاً أتاكَ به الأشعريُّ *** من الفيءِ أعطيتَه من زنا
السجن
وكانت لهذه الأبيات وقعها الشديد على عثمان وحاشيته، كما كان لهذا الموقف ضريبته، فمن يطالب بحقوق المسلمين ويندِّدُ بظلم عثمان وجوره بمقدرات المسلمين وأموالهم فإن مصيره لا يحمد عقباه، فضربه عثمان مائة سوط وحمله على جمل يُطاف به في المدينة، ثمّ حبسه مُوثَقاً بالحديد!!!
هكذا يتعامل عثمان بن عفان مع صحابي بدري جليل، في الوقت الذي يولّي الطلقاء وأولاد الطلقاء أمثال معاوية المجرم أعدى أعداء الإسلام على الشام، والفاسق بنص القرآن الكريم الوليد بن عقبة على الكوفة، والمنافق طريد رسول الله عبد الله بن سعد أبي سرح على مصر، أما الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم فقد وضع تحت يديه أمور المسلمين وأموالهم!!!!
لقد رفع عبد الرحمن بن حنبل صوته بكلمة الحق التي يجب ان تُطلق في وجوه الظالمين، وحمل الشعر رسالة انسانية صادقة هدفها الإصلاح ومحاربة الفساد، وآلى على نفسه تأديتها على أكمل وجه، فأعظم به من ثائر، وأعظم بها من كلمة كانت بمثابة الجهاد كما عبر عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).
العزم الذي لا يلين
قال عبد الرحمن كلمته غير مبالٍ ولا آبهٍ بما سيؤول إليه مصيره من تشريدٍ وتعذيبٍ وتنكيلٍ وسجن. وطال سجن عبد الرحمن فأرسل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وعمار بن ياسر (رضوان الله عليه) من السجن بهذه الأبيات:
أبلغْ علياً وعمّاراً فإنّهما *** بمنزلِ الرشدِ، إنّ الرشدَ مبتدرُ
لا تتركا جاهلاً حتى يوقّرَه *** دينُ الإلهِ وإن هاجتْ به مِرَرُ
لم يبقَ لي منه إلّا السيفُ إذْ علقتْ *** حبائلُ الموتِ فينا الصادقُ البررُ
يعلمْ بأنّيَ مظلومٌ إذا ذُكرتْ *** وسطَ النديِّ حجاجُ القومِ والعذرُ
إنه شعر قوي يحمل في طيّاته عزماً لا يلين وإرادة لا تستكين وهو يدلّ على أن صاحبه قد صمَّمَ على أمر عظيم لا يثنيه عن تحقيقه سوى الموت، وهو ماضٍ لما عزم عليه مهما كلفه هذا الأمر، على الرغم أن صاحبه قاله وهو في السجن؟.
ــ (لم يبقَ لي منه إلّا السيفُ)!!
لقد عشق عبد الرحمن الحق والحرية، ورفض أن يعيش في أغلال الجاهلية الأموية والظلم العثماني، ورغم الأساليب القمعية والوحشية التي مُورست ضده، فلم يهن ولم يستسلم حتى آخر رمق في حياته، فكان في كل أحواله مجاهراً ومندداً بالظلم، ولم تستطع سجون بني أمية إسكات هذا الصوت الهادر، فأطلق هذا الشعر من سجنه وهو يصف حاله في السجن، ويشكو إلى الله وإلى أمير المؤمنين من المعاملة القاسية والعنيفة التي يتلقّاها في سجنه، فتوسَّط أمير المؤمنين (عليه السلام) وكلّم عثمان فأطلق سراحه بشرط أن لا يبقى عبد الرحمن في المدينة.
النفي
نُفي عبد الرحمن إلى خيبر وفُرضت عليه الإقامة في قلعة فيها تسمى (القموص) فأخرجه عثمان من سجن ليدخله في سجن آخر، فهي مكان موحش كالقبر لا يَرى ولا يُرى، وهذه العقوبة قد طبّقها عثمان على معارضيه من الصحابة الكبار، كأبي ذر الذي نفاه إلى الربذة حتى مات فيها عطشاً.
وطال مكوث عبد الرحمن في القموص وهو فيها حي ميِّت، فحياته فيها عبارة عن موتٍ بطيء، فشكى أمره إلى الله مما يكابده ويعانيه من هذا الموت، وأرسل إلى أمير المؤمنين هذه الأبيات:
إلى اللهِ أشكو لا إلى الناسِ ـ ماعدا *** أبا حسنٍ ـ غُلاً شديداً أكابدُه
بخيبرَ في قعرِ القموصِ كأنَّها *** جوانبَ قبرٍ عمَّقَ اللحدَ صاحبُه
أإن قلتُ حقاً أو نشدتُ أمانة *** قُتلتُ، فمن للحقِ إن ماتَ ناشدُه
إن صوت الحق والحقيقة سيعلو مهما حاولت الأساليب القمعية السلطوية إسكاته، وهكذا كان صوت عبد الرحمن بن حنبل الذي تحدّى سجون عثمان وجلاديه وجبروته بصلابة وإيمان وقوة عقيدة وثبات على المبدأ، ولم يُثنه كل ما تعرّض له من أنواع التعذيب النفسي والجسدي عن مواصلة دوره في إداء رسالته الإصلاحية التي سخّر لها حياته وشعره الذي كان شديد الوطأة على عثمان وزبانيته، فكان الصحابي المجاهد والثائر والشاعر والداعي إلى نصرة الحق ودحض الباطل والمساهم في تحطيم الأصنام الأموية والتصدّي لها مهما كلّف الامر.
الثائر والثورة
وكثرت بوائق عثمان وسيئاته، فاجتمع الصحابة في المدينة وقرَّرُوا انطلاق الثورة، وانضم إليهم الثوّار من كل بلد عانى من جور عثمان وولاته، واجتمع رأيهم على قتله وتخليص المسلمين من شرِّه، فكان في طليعة الثوّار عبد الرحمن بن حنبل الذي تسلّق على عثمان داره مع جملة الثوار، وقتل عبد الله بن عبد الرحمن بن العوام أحد المدافعين عن عثمان، ولم يخرج من الدار حتى ترك عثمان فيها جثة هامدة.
وأخيرا علت أسارير وجه عبد الرحمن بن حنبل الفرحة بمقتل عثمان فتهلل لذلك وحمد الله على قتل هذا الظالم، ولم ينسَ دور أمير المؤمنين (عليه السلام) في تخليصه من أغلال السجن فقال يمدحه:
لولا عليٌّ فإن الله أنقذني *** على يديهِ من الأغلالِ والصفدِ
لما رجوتُ ـ لدى شدٍّ بجامعةٍ *** يُمنى يديَّ ـ غياثَ الفوتِ من أحدِ
نفسي فداءُ عليٍّ إذ يخلّصُني *** من كافرٍ بعدما أغضى على صمدِ
بيعة علي
وازدادت فرحة عبد الرحمن بمبايعة الناس أمير المؤمنين (عليه السلام) خليفة للمسلمين فلم يكن أشدّ فرحاً من ذلك اليوم، فها هو الحق رجع إلى أهله، وتولّى الخلافة من هو أحق الناس فيها:
لَعمري لئنْ بايعتمُ ذا حفيظةٍ *** على الدينِ معروفَ العفافِ موفّقا
عفيفاً عن الفحشاءِ أبيضَ ماجداً *** صدوقاً وللجبارِ قِدماً مصدِّقا
أبا حسنٍ فارضَوا به وتبايعوا *** فليسَ كمن فيه لذي العيبِ مرتقى
عليٌّ وصيُ المصطفى ووزيرُه *** وأولُ من صلى لذي العرشِ واتّقى
رجعتم إلى نهجِ الهدى بعد زيغكُم *** وجمّعتمُ من شملهِ ما تفرقا
وكان أمير المؤمنينَ ابنُ فاطمٍ *** بكم إن عرا خطبٌ أبرَّ وأرفقا
دار الظالم خراب
ونظر إلى دار عثمان ـ ظالمه ـ التي صدق فيها المثل: (دار الظالمين خراب ولو بعد حين)، وهو منظر لم يكن ليمرَّ على عبد الرحمن دون أن ينفّسَ عن نفسه ما بصدره من ألم، وما جرى عليه من قبل عثمان من الظلم والسجن والنفي والتعذيب فخاطب عثمان:
ذُقْ يا أبا عمرو بسوءِ الفعلِ *** وذُقْ صنيعَ كافرٍ ذي جهلِ
لما سددتَ بابَ كل عدل *** وصُرتَ تُرجي حقَّنا بالمَطلِ
ورمتَ نقصَ حقِّنا بالبطلِ *** عدا عليكَ أهلُ كلِّ فضلِ
بمشرفياتٍ حداثِ الصقلِ *** فذقتَ قتلاً لكَ أيَّ قتلِ
كذاكَ نجزي كلَّ عاتٍ وغلِ
وفي قوله: (عدا عليكَ أهلُ كلِّ فضلِ) دلالة واضحة على أن كبار الصحابة الأجلاء كانوا ناقمين على عثمان، وقد اشتركوا في قتله، وقد سُئل أبو سعيد الخدري عن مقتل عثمان وهل شهده أحد من أصحاب رسول الله؟ فقال: نعم شهده ثمانمائة. وسأل شعبة بن الحجاج سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: كيف لم يمنع أصحاب رسول الله عن عثمان؟ فقال له: إنما قتله أصحاب رسول الله، وقال هاشم بن عتبة قتله أصحاب محمد وأبناء أصحابه وقراء الناس.
مع علي
بقي عبد الرحمن يندِّدُ بسياسة عثمان حتى بعد قتله، وكان يحذِّر المسلمين من عودة تلك السياسة على يد معاوية، وكما كان (من أشد الناس) ـ كما ذكرت التواريخ ـ على عثمان فقد كان من أوائل المبادرين لحرب الناكثين والقاسطين مع أمير المؤمنين (عليه السلام).
ولم يَخفِ ما كان يكنُّه من بغضٍ لعثمان بسبب معاملته اللاإنسانية تجاه الصحابة وقسوته عليهم واستئثاره ببيت المال وتوزيع العطايا على أهل بيته وخاصته دون المسلمين، وتولية الطلقاء والمنافقين من أقربائه على رقاب الناس، وانحرافه عن روح الإسلام وعودته إلى روح الجاهلية التي ألبسها لباس الإسلام.
وبقي عبد الرحمن بهذه الروح الثورية الناقمة على انحراف عثمان وبني أمية حتى آخر نفس في حياته، عندما استشهد وهو يقاتل هذا الإنحراف مع سيده أمير المؤمنين في يوم الهرير في صفين فارتجز:
إن تقتلوني فأنا ابنُ حنبلْ *** أنا الذي قد قلتُ فيكمْ نعثلْ
مع المؤرخين
جنايات المؤرخين وجرائمهم بحق التأريخ وشخصياته العظيمة لا تنتهي ما دامت أسواق بيع الذمم السلطوية رائجة، فقد سخّر أولئك المؤرخون أقلامهم لأهوائهم، وباعوا ضمائرهم للسلطة، وبرَّرُوا كل جريمة تقترفها السلطة مهما كانت بشاعتها، وزوّقوا لها كل عملٍ شنيعٍ، وغطوا على بوائقها واستهتارها ومجونها بصفات الحمد والمدح، فكانت جريمتهم أعظم من جريمة السلطة نفسها، لأنهم طمسوا الحقيقة عن عيون الأجيال وأظهروا مكانها التزييف والخداع والتدليس والتحريف.
وقد نال عبد الرحمن بن حنبل نصيبه الكبير من هذا الظلم، فلم تقتصر مظلوميته واضطهاده وسجنه ونفيه وتعرّضه لأبشع أنواع التعذيب والتنكيل في حياته من قبل عثمان، بل تابع المؤرخون دورهم في تشويه سيرة هذه الشخصية العظيمة، والنيل منها، والتقليل من شأنها، ووصمها بما ليس فيها من أكاذيب ومفتريات أملتها عليهم أهواؤهم السياسية والمذهبية، فلم يراعوا في عبد الرحمن صحبته للنبي وجهاده معه في نشر الدعوة إلى الإسلام، لكنك لا تجد من يقول عن أولئك المؤرخين بأنهم أساؤوا إلى الصحابة كما يتَّهمُ الوهابيون الشيعة ظلماً وبهتاناً بأنهم يسبُّون الصحابة!!!
التشويه والتزييف
لم يتحمل أولئك المؤرخون وهم أمام هذا الخلاف الكبير بين عبد الرحمن وعثمان والذي وُصِف بأنه: (من أشد الخلاف)، أن يصفوا عثمان بالانحراف! فهو (الخليفة ذي النورين) ونزَّهوه عن كل الجرائم التي ارتكبها بحق الصحابة، وألقوا بهذا الانحراف نتيجة الخلاف بينهما في ساحة عبد الرحمن!!
نعم هكذا تؤدي السياسة القذرة دورها في تزييف الحقائق!!
قال ابن عساكر في تاريخ دمشق (ج34ص321): (وكان ـ أي عبد الرحمن ـ ممن ينحرف عن عثمان).
وقال ابن الأثير في (أسد الغابة في معرفة الصحابة) (ج3ص288): (وكان منحرفاً عن عثمان).
ولم يكتفيا بذلك فقد وضعا لمعاملة عثمان القاسية مع عبد الرحمن مبرراً غاية في السذاجة والسخافة استخفَّ واضعه بعقلهِ قبل أن يستخفَّ بالعقول التي أرادها أن تصدقه، ووظّف تبريره هذا في قصة أشبه بقصص الأطفال أو قصص ألف ليلة وليلة، فروى ابن عساكر في (تاريخ دمشق) (ج34ص320) عن (مصعب الزبيري) قوله: (وقد كان عبد الرحمن بن حنبل هجا عثمان ظالماً له، وذلك أنه أتاه فذكر له أن ناقته ماتت، فحمله، ثم أتاه ثانية فحمله، فلما كان في الثالثة منعه وقال: ما هذا؟ في كل يوم تنفق ناقتك؟ فهذا سبب هجائه إياه)!!! اسمع فاضحك أو فابك !!
ولا تنتهي هذه المهزلة عند هذا الحد حيث تتحوّل الناقة إلى فرس في رواية ثانية ينقلها ابن عساكر أيضاً بعد صفحتين من نفس الكتاب حيث يقول: (أبو حنبل الجمحي اسمه عبد الرحمن بن حنبل، أحد بني جمح من قريش، حمله عثمان بن عفان على فرس فباعه، فلامه عثمان على بيعه، فغضب، فهجا بني أمية) !!!!
الرواية المهزلة
أولاً: لا يُخفى هنا في ألفاظ هذه الرواية محاولة التقليل من شأن صحابي بدري ووصفه بـ (أحد بني جمح)، في سبيل تبرير الإساءة التي ألحقها به الخليفة الذي لم يشهد بدراً وانهزم يوم أحد وحنين!!!
ثانياً: لا أدري كيف يتقبَّل المسلم هذه الرواية التي تسيء إلى الصحابة؟ بل كيف ينظر غير المسلم إلى التاريخ الإسلامي عندما يطّلعُ عليها؟!!
خليفةٌ يضربُ صحابياً بدرياً مائة سوط، ويحمله على بعير، ويُطاف به في المدينة، ثم يسجنه بسببِ هجائهِ له، فيشكو الصحابي البدري أمره وحالته السيئة إلى صحابيين كبيرين ـ علي وعمار ـ، فيتوسّط أحدهما ـ علي ـ إلى الخليفة لإطلاق سراحه، فيُطلق سراحه بشرط عدم البقاء في المدينة، فيُنفى إلى أرض لا يسكنها بشر فهو فيها حي ميت، وهي له عبارة عن قبر ذي جدران!!
وكل ذلك من أجل فرس أو ناقة!!!!
وبدورنا نترك الجواب للقارئ ليقارن بين هذه القصة (المهزلة) ـ مع الأبيات التي ذكرناها في هذا الموضوع والتي قالها عبد الرحمن بن حنبل في هجاء عثمان والتي يندِّد فيها بجور وظلم عثمان واستئثاره بالأموال وتلاعبه بمصير ومقدرات الأمة.
هكذا يصور لهم تاريخهم الصحابة الأجلاء العظام ثم يتِّهم الوهابيون الشيعة بسبِّ الصحابة!!!
التزييف لا ينتهي
ولا تنتهي جنايات المؤرخين عند هذا الحد، فهذا الصحابي البدري الذي كان ـ من أشد الناس على عثمان ـ لا بد أن تُسلب منه (بدريته) ويُهمَّش ويُقصى، بل وتُسلب منه سابقته في الإسلام، ويجب أن يكون في أذهان الأجيال بأنه من (مسلمة الفتح) ـ أي الطلقاء ـ الذين أسلموا بعد دخول رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى مكة، كما روى ذلك ابن عساكر في (تاريخ دمشق) (ج32ص320)، وابن حجر العسقلاني في (الإصابة) (ج2ص395) عن (مصعب الزبيري) أيضاً!!!
بؤرة الكذب
نحن لا نعتب على من نسلته القلوب الحاقدة على أهل البيت وعلى أتباعهم وشيعتهم، ونمته الضمائر الميتة، وتوارث الكذب والغدر والنكث والإجرام من آبائه وأجداده الذين كان لهم تاريخ (عريق) ببيع دينهم بدنياهم ـــــ إن كان لهم دين أصلاً ــــ، وممن يتسترون بالدين للحصول على مآربهم، فامتلأ تاريخهم بالمخازي والإجرام
مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير اسم تسلسل من أسماء سوّدت أعمالها صحائف التاريخ، أما (مآثر) أجداده فقد بدأت بنكث الزبير بيعة أمير المؤمنين وقتاله في الجمل ليزداد ذلك الحقد والعداء لأهل البيت ضراوة عند عبد الله بن الزبير من أشد أعداء أمير المؤمنين وهو الذي أراد إحراق بني هاشم كلهم وهم أحياء لولا أن أنقذهم المختار الثقفي.
ومن مآثرهم سعاية عبد الله بن الزبير لدى معاوية ضد الإمام الحسن (ع)
وتوارث هذه المهنة القذرة أبناؤه كلهم فكان عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله الزبير وراء قتل يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب على يد هارون العباسي
ومن مفتريات هذا البيت فرية زواج عمر بن الخطاب من أم كلثوم بنت علي وكان بطل هذه الفرية هو بكار أخو (مصعب الزبيري)
أما مصعب الذي وضع هذه المفتريات عن الصحابي عبد الرحمن بن حنبل فقد بلغت به الخسة والنذالة والوضاعة أن يضع أكاذيب ومفتريات في الطعن بسكينة بنت الحسين (عليهما السلام) في عقد مجالس الشعر فهل نستغرب منه أن يفتري على صحابي جليل وينتقص منه ومن صحبته؟
صفين
صحب عبد الرحمن بن حنبل الجمحي أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان من خاصته، كما كان من أبطال حربيه الجمل وصفين، حتى سقط شهيداً في سوح الجهاد....
وأخيراً آن لهذه الروح الدافقة بحب أمير المؤمنين أن ترجع إلى ربها راضية مرضية لتدخل في عباده وجنته بعد هذا الجهاد الطويل في سبيل نشر الإسلام ومحاربة الكفر والنفاق والقتال على التنزيل مع رسول الله وعلى التأويل مع وصيه أمير المؤمنين..
آن لهذا القلب أن يتوقف بين الصليل والصهيل، وآن لهذا الجسد الذي أدمن التضحيات أن يستريح وسط المعركة.
سقط عبد الرحمن بن حنبل شهيداً في يوم الهرير في صفين بعد أن أبلى بلاء عظيماً في قتال القاسطين وكان من أراجيزه في ذلك اليوم:
لأضربنَّ اليومَ بالقرضابِ *** بقية الكفّارِ والأحزابِ
ضربَ امرئ ليسَ بذي ارتيابِ *** أأنتَ تدعونا إلى الكتابِ
نبذته في سائرِ الأحقابِ
الشهادة
لم يألُ هذا الصحابي الفارس المجاهد جهداً في سبيل نصرة الحق ودحض الباطل حتى آخر رمق في حياته، فلم يكترث بنفسه وهو ينازع الموت ولم يأبه لجراحه في تلك اللحظة، بل كان كل همه هو النصر على أعداء الإسلام ولنستمع إلى قصة استشهاده التي جسد فيها أروع صور الحب والتفاني في سبيل الإسلام ونصرة أمير المؤمنين:
قال عياض بن خليفة: خرجتُ أطوف في القتلى ( بصفين )، فإذا رجلٌ معه أدواةٌ مملوءة ماءً، وإذا برجل آخَر مرمّل بالدماء يقول: أنا عبدالرحمن بن حنبل حليف بني جُمَح ـ وكان من أهل اليمن ـ إقرأوا على أمير المؤمنين السلامَ وقولوا له: الغَلَبة لمَن جَعَل القتلى منه بظَهر ( أي غَيّبهم ).. ما تبغي يا عياض ؟
قلت: أبتغي أصحابي، أخي وابن بُدَيل.
قال: هيهات! قُتِل أولئك أمسِ أوّلَ النهار.
فعرضتُ عليه الماء الذي مع الرجل في الأدواة، فقال: سَلْني عمّا شئتَ قبل أن تَسقيني، فإنّي إذا شربتُ متُّ.
قال عياض: فسألته عمّا بدا لي ثمّ سَقَيتُه، فما عدا أن شرب حتّى مات.
وأتيتُ عليّاً (عليه السّلام) فأخبرتُه بما قال، فقال: صَدَق.
وأذّن في الناس بالخروج وأمرهم أن يُجعَل القتلى منهم بظَهر، وغيّب قتلاه حتّى لا يُرى رجلٌ منهم.
ثم أبلغه سلامه، فقال أمير المؤمنين: وعليه السلام، أين هو؟
ــ أنفذه السلاح وخرقه فلم أبرح حتى توفي.
فقال أمير المؤمنين: إنا لله وإنا إليه راجعون.
اضف تعليق