تململت في الفراش تناولت دفتر صغير سجلت فيه قائمة اعمالي لهذا اليوم، منذ صغري وانا ملتزمة بهذه الخطة، احيانا انجز اعمالي واضيف عليها ان سمح لي الوقت، كلما انجزت عملا احذفه من قائمة المهام، مازالت القائمة ممتلئة، القيت نظرة سريعة، عبارة سجلت على راس قائمتي، قراءة كتاب، بدأت أسرع فيما بقى لي من الاعمال، بتأفف ثقيل بين كوم الاعمال، استرحت قليلا عند الاريكة، وعلى جنبي مجموعة من الكتب، سحبت من رف الحائط دون تعين الكتاب، جاء بيدي مفاتيح الجنان، كثيرة ما اقرأ هذا الكتاب في اليوم، التعقيبات، والصلوات والاذكار، حتى المناسبات يذكرها ويعلق على اعمالها، ترددت ان اقرأ هذا ام اسحب كتاب أخر، فكان ما يدور في ذهني رواية او قصص تاريخية، لقصر استراحتي شرعت في القراءة، المقدمة تجذبني، تركت ما في يدي وصرت أبحث عن سيرة المؤلف، قلبت المكتبة راسا على عقب لجد كتاب يتحدث عن سيرته الذاتية بكل تفاصيلها.
مفاتيح الشيخ القمي
هو الشيخ عباس بن محمّد رضا بن أبي القاسم القمّي ولد حوالي (عام 1294 هـ) بمدينة قم، ترعرع في مكان عبادي فمنذ نعومة اطفاره بدا في دراسة الفقه، ودرس فيها مرحلة «المقدمات» وكذلك الفقه والأصول والعقائد، توجه إلى مدينة النجف الأشرف في عام (1316 هـ)، لمتابعة دراساته في حوزة النجف الاشرف، حيث كان يركز على علوم الحديث مما جعله يلازم العلامة المحدث الشيخ حسين النوري الطبرسي (احد كبار علماء الشيعة).
وبعد ما يقارب السنتين من ذلك توجه إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج ثم عاد بعدها إلى موطنه الأصلي، في مدينة قُم حيث بقي فترة قصيرة ثم عاد إلى النجف الاشرف، و أخذ يساند الشيخ النوري الطبرسي في تأليف كتابه مستدرك الوسائل، بعد وفاة أستاذه النوري عاد الشيخ القمي إلى قم (سنة 1322) للهجرة حيث انشغل بالتأليف والتدريس، في سنة (1331 للهجرة ) اتجه الشيخ القمي الى مدينة مشهد واستقر مجاوراً لمقام الإمام الرضا (عليه السلام)، اشغل وقته في التدريس حتى بلغ عدد تلامذته المئات و ربما الألف، وشارك في الترجمة والوعظ والتدريس في المدارس الدينية وذلك لمدة اثنتي عشرة سنة.
من أساتذة الشيخ القمي (رحمهم الله)
الشيخ فتح الله الأصفهاني، السيد مرتضى الكشميري، السيخ محمد القمي وغيرهم من العلماء الأفاضل كان الشيخ القمي يقوم بفحص ما يأخذ به من الأحاديث ليحصل على السليم والمتواتر، للحفاظ منه على صحة ما يرويه عن الأطهار (عليهم السلام).
و يروى أنه لما لامه بعض العلماء عن انشغاله بجمع الحديث على حساب تأليف والترجمة في مجالات الفقهية الأخرى أجابهم الشيخ القمي: أنه يهدي اعماله إلى السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فكان جميع مؤلفاته باقية ما بقي الدهر.
بقعة ضوء من اخلاقه
ويروى أنه استأجر ذات يوم حماراً ليزور أحد أصحابه وعندما تقابل مع صديقه، سلمه الصديق كتاباً قد استعاره من الشيخ فرجع الشيخ الى بيته ماشياً دون ان يركب الحمار، وعندما سأله صاحب الحمار عن السبب قال: لأني اسـتأجرته منك بمفردي ولم اتفق معك على حمل شيء آخر عليه!.
و نقل عن المرجع الديني الراحل السيد النجفي (قدّس سرّه)، قصة عن الشيخ عباس القمّي (رحمة الله عليه)، فقال: ذات يوم جاء الشيخ عباس القمي إلى منزلنا، وكان يوماً حارّاً، فذهبت لأحضر له كأساً من الزنجبيل، وحينما جئته به، رأيت أنني نسيت أن أضع فيه الملعقة ليخلطه قبل شربه، وحينما ذهبت مرة ثانية، تأخّرت قليلاً، إذ قمت بغسل الملعقة التي كانت متسخة ولم يكن لدينا غيرها، وحينما عدت إليه رأيته يخلط الشراب بإصبعه، فبادرني إلى القول: لا تظنني على عجلة لشرب الكأس، ولكنني تذكّرت بأنني أكتب وأنقل روايات وأحاديث الأئمة الأطهار(صلوات الله عليهم)، وظننت أن تكون البركة بإصبعي فيرتفع بها ما أشعر من الحمى، وأضاف السيد النجفي، وبعد هنيئة وضع الشيخ عباس القمّي يده على الأخرى وقال لي: لقد انقطعت الحمى، وكان رحمه الله لا يجلس في صدر المجلس بل حيث انتهى به المجلس.
بركات الشيخ القمي مع الناس
من كراماته كانت قدرته على الشفاء بوضع اليد وكان الشيخ القمي يُرجع تلك الرحمة الإلهية عنده إلى انشغال تلك اليد بكتابة روايات أهل البيت الأطهار عليهم السلام.
نقل عن فضيلة الشيخ ميرزا علي محدّث زاده نجل الشيخ والذي توفي مؤخّراً، إنه قال: لما توفّي والدنا الشيخ عباس القمي، وبعد الانتهاء من دفنه ومن مراسم العزاء والفاتحة إلى روحه الطاهرة، لذلك اتّفقتُ أنا وأخي على أن نحمل الماء ونسقي به زوّار الإمام أمير المؤمنين (علية السلام) في ليالي الجمعة، ونسقيه للزائرين العطشى بثواب والدنا (رحمه الله)، وقسمنا هذا العمل بيننا, بأن أعمله مرّة أنا في ليلة الجمعة الأولى مثلاً ويعمله اخي في ليلة الجمعة الثانية وهكذا.. ، و في ليلة من ليالي الجمعة التي كانت القسمة فيها لأخي، وكان عليه أن يسقي الزائرين حسب الاتفاق، رأيتُ في المنام والدنا المرحوم وهو يتلظّى عطشاً، وكان من شدّة عطشه يستغيث ويقول: العطش، فتذكّرتُ وأنا في النوم أن والدنا في عالم البرزخ وأنا نسقي زوّار الإمام أمير المؤمنين (ع) ماءً بثوابه، ولذلك قلت له: يا والدي، ألم يصلك الماء الذي نسبله على الزائرين بثوابك؟ قال: نعم، ولكن هذه الليلة لا، استيقظتُ من النوم على أثر فزعي من مشهد والدي وشدّة عطشه وأسرعتُ إلى مأوى أخي فأيقظته من نومه وقصصتُ عليه رؤياي التي رأيتها عن والدنا وسألته عن قيامه بما تقرّر بيننا من تسبيل الماء.
فأجاب متعجّباً وهو يقول: الله أكبر، نعم لقد صدق والدنا حيث قال, ولكن هذه الليلة لا فإني نسيتُ تسبيل الماء في هذه الليلة، ثم قام وأسرع إلى الكوز وأخذه واتجّه به إلى صحن الإمام أمير المؤمنين (ع) وأخذ يسقي زوّار الإمام (ع) من مائه حتى نفذ الماء.
انتهى المطاف بالشيخ المُحَدِّث الجليل عباس القُمّي رحمه الله و قدس سره في مدينة النجف حيث توفي هناك سنة 1359 للهجرة سنة 1940 للميلاد عن عمر يقارب 65 عاماً و دفن في الصحن الحيدري عند ضريح الإمام علي عليه السلام تشريفاً له وتقديراً .
مؤلفاته:
نذكر منها ما يلي:
(مفاتيح الجنان)، وترجم من اللغة الفارسية إلى اللغتين العربية والأُردية
(منتهى الآمال في تاريخ النبي والإل)، باللغة الفارسية
(نفس المهموم في مصيبة سيّدنا الحسين المظلوم)
(اللآلئ المنثورة في الأحراز والأذكار المأثورة)
(هدية الأحباب في المعروفين بالكنى والألقاب)
(نفثة المصدور فيما يتجدّد به حزن عاشور)
(الفوائد الرضوية في تراجم علماء الجعفرية)
(الفوائد الرجبية فيما يتعلّق بالشهور العربية)
(الغاية القصوى في ترجمة العروة الوثقى)
(الأنوار البهية في تواريخ الحجج الإلهية)
(بيت الأحزان في مصائب سيّدة النسوان)
(ذخيرة الأبرار في منتخب أنيس التجّار)
(الدرة اليتيمة في تتمَّات الدرة الثمينة)
(مختصر الأبواب في السنن والآداب)
(سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار)
(كحل البصر في سيرة سيّد البشر)
(منازل الآخرة والمطالب الفاخرة)
(هدية الزائرين وبهجة الناظرين)
أقوال العلماء فيه:
قال فيه مؤلف كتاب معارف الرجال: (كان آية الله الشيخ عباس القمي عالماً عاملا، وثقة عدلا متتبعاً، وبحّاثة عصره، أميناً مهذباً، زاهداً عابداً، صاحب المؤلفات المفيدة...).
عبق الرحيل
فارق شيخنا القمي الحياة بتاريخ (23 / ذي الحجة الحرام / 1359 هـ) في النجف الأشرف بعد أن قضى خمسة وستين عاماً من عمره الشريف في الكتابة والترجمة والتدريس، وصلى عليه آية الله العظمى السيد أبو الحسن الاصفهاني (رضوان الله عليه)، وبعد أن شيع جثمانه الطاهر تشيعاً مهيباً حضره علماء وعظماء الشيعة، وطلاب الحوزة ، تم دفنه إلى جوار أستاذه المحدث النوري في الصحن الشريف للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في النجف الأشراف.
علمت من الشيخ القمي ان قيمة العمل في قيمة اخلاصه، ودليل على ذلك كتاب "مفاتيح الجنان" الكتاب الذي لا يخلو بيت شيعي منه، وقد يكون اكثر من نسخة في البيت الواحد، كل ذلك الخلود والبقاء كان هدية من سيدة النساء فاطمة الزهراء لشيخ القمي رحمه الله.
اضف تعليق