تمخّضت سياسة القتل والتشريد والسجون والتعذيب ووسائل الإرهاب التي مارسها الأمويون والعباسيون بحق أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم إلى رفع لواء التشيّع فوق الكثير من بقاع الأرض البعيدة، وزرعه في قلوب ونفوس أهالي تلك البقاع بقوة الحق والعدل والخير والصلاح، وسلطة الكلمة الطيبة والعمل الصالح، وسياسة الأخوة والمحبة والمساواة.
لقد أراد الأمويون والعباسيون شيئاً، وأراد الله غيره، وهل تقف إرادة أمام إرادة الله؟
أرادوا محق التشيّع، وأراد الله إظهاره.
أرادوا إماتة ذكر أهل البيت (صلوات الله عليهم)، وأراد الله إحياءه.
أرادوا أن يسلّطوا على القلوب غشاوة ظلمهم وجورهم وانحرافهم، وأراد الله لها أن تبقى نابضة بذكره وذكر رسوله وأهل بيته (صلوات الله عليهم).
تفرّق أولئك الفارون بدينهم وعقيدتهم وأنفسهم هرباً من غياهب الظلم والجور والطغيان في أرجاء الأرض وهم لا يحملون سلاحاً سوى سلاح العقيدة والولاء، سلاح التشيّع يغزون به القلوب والعقول، وبقي هذا السلاح سلاح الحقيقة متجذّراً في كل أرض نزلوا بها، تتوارثه الأجيال ويزداد سطوعاً وأثراً كلما مرت الأيام والأعوام، فكان أقوى من كل أسلحة الفتك والدمار والتخريب التي مورست ضده.
ومنذ أن وطأت أقدام الشيعة أرض هذه الجزر (أندونيسيا) حتى انصب اهتمامهم على نشر الإسلام بين الناس، والدعوة إليه بشتى الطرق السلمية، وبذلوا جهوداً عظيمة في سبيل رفع رايته على هذه الأرض، كما قاموا ببناء حضارة إسلامية تعدُّ من أرقى الحضارات التي عاشتها أندونيسيا ولا تزال آثارها إلى الآن باقية.
لقد أصبحوا جزءاً لا يتجزّء من هذه الأرض التي شهدت تضحياتهم الجبارة في الدفاع عنها ضد الإحتلال البرتغالي والأسباني والهولندي، فسطّر الشيعة أروع صفحات المجد والجهاد في سبيل الدفاع عن الإسلام على هذه الأرض حتى مهروا استقلالها بدمائهم.
الوهابيون ومحاولة سرقة التاريخ
وبعد كل هذا الجهاد والنضال، وتحمّل الأهوال والمخاطر، والتضحية بالأنفس وبذل الجهود العظيمة لنشر الإسلام في أندونيسيا، يعيد التاريخ نفسه على الشيعة فيأتي من يظلمهم بسرقة جهودهم، ومثلما ظُلموا وشُرّدوا وقُتِّلوا من قبل الأمويين والعباسيين، فهاهو تاريخهم الحافل بالعطاء والمنجزات العظيمة يُظلم مرة أخرى ويُسرق منهم على يد أحفاد الأمويين من الوهابيين ومن تابعهم.
أليس عجيباً أن من يتحدّث عن الإسلام في أندونيسيا، وعن جذوره في المواقع الألكترونية، يُخفي أثر الشيعة الكبير والرائد في نشر الإسلام فيها؟
أليس عجيباً أن من يتحدّث عن وصول الإسلام إلى أندونيسيا، وانتشاره فيها، ولا يتطرّق أبداً إلى الذين تحمّلوا الأهوال، وركبوا الصعاب، وذاقوا المصاعب والمشاق وأخطار البحار ليرفعوا راية الإسلام في تلك الجزر؟
أليس عجيباً أن من يتحدّث عن الدعاة الأوائل للإسلام في أندونيسيا، يتغاضى عن الذين حملوا جذوة الإسلام والتشيع في قلوبهم ودمائهم، ليصلوا إلى تلك الجزر وهم لا يحملون سوى دينهم وعقيدتهم لتبدأ مهمتهم العظيمة في نشر الإسلام، والحفاظ عليه بأرواحهم، والدفاع عنه بدمائهم على هذه الأرض؟
أليس عجيباً أن من يتحدّث عن الممالك الإسلامية القديمة في أندونيسيا، ولا يتطرَّق إلى شيعيتها، ولا يذكر جهود الشيعة الكبيرة في أنشائها وتأسيسها على مبادئ الإسلام الحنيف، ودورهم في الدفاع عنه، وصد هجمات الممالك البوذية، وبناء حضارة إسلامية إنسانية، ومن ثم اتحادهم لتبدأ مرحلة الجهاد ضد الإحتلال الهولندي حتى استقلال أندونيسيا؟
أليس عجيباً أن تتفق جميع تواريخ تلك الجزر على أن الإسلام وصل إليها عن طريق الشيعة، ثم لا تجد من ذلك شيئاً في الكتابات المنتشرة على الأنترنت من قبل من يدعون أنهم (كتّابا) ولا يملكون أي صفة تؤهلهم للكتابة من أمانة وصدق وفضيلة، بعد أن تجرّدوا وجرّدوا كتاباتهم من هذه الصفات.
لماذا هذا الإخفاء والتضييع وكتم الحقائق؟ لماذا هذا الإجحاف والغبن والبخس بحق هؤلاء الذين كان لهم الفضل الأول في إسلام الأندونيسيين والله سبحانه وتعالى يقول: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم)؟ لماذا تُسرق جهود عظيمة بذلها الشيعة لنشر الإسلام؟ وهل حسب هؤلاء سرّاق التاريخ أن الجميع سيمرّ على كتاباتهم مرور الكرام؟
متى وصل الإسلام إلى أندونيسيا؟
في الندوة الخاصة عن بحث دخول الإسلام إلى أندونيسيا بمدينة ميدان بسومطرا الشمالية والتي استمرت جلساتها من (17 إلى 20) مارس (1963)، انتهت بوضع عدة نقاط تقرر فيها تاريخ وصول الإسلام إلى أندونيسيا وهي تتلخص: (بأن الإسلام دخل أندونيسيا في القرن الأول الهجري (السابع الميلادي) عن طريق سومطرا، وكان الملك المسلم الأول في أجيه، وإن الدعوة كانت سلمية، وإنهم جاؤوا بثقافة وحضارة راقية هي جزء من عناصر تكوين الشخصية الأندونيسية، وإن الأندونيسيين ساهموا فعلاً في الدعوة إلى الإسلام، وأخيراً تقرر أنه من الضروري وجود هيئة تقوم بأعمال تحقيق وتصنيف تاريخ الإسلام بأندونيسيا بصورة أوسع وبصفة دائمة).
إلى أندونيسيا
إذن فلنذهب إلى أندونيسيا في ذلك الوقت عبر صفحات التاريخ لنرى من الذي وصلها في ذلك الوقت من المسلمين وعمل على نشر الإسلام فيها والدعوة إليه بصورة سلمية؟
بين المحيطين الهادي والهندي وفي أرباض الجزر التي تفصل آسيا عن أستراليا، والتي كانت تسمى أرخبيل المالايو، أو جزر الهند الشرقية، وتسمى اليوم أندونيسيا وصل بعض أتباع أهل البيت الفارون من أجواء الرعب والإرهاب الأموي عن طريق إيران ليحفظوا دماءهم.
يقول المؤرخ محمد بن أبي طالب (أبو عبد الله شمس الدين الأنصاري الدمشقي) المعروف بـ (شيخ الربوة)، في كتابه (نخبة الدهر في عجائب البر والبحر) (ص132): (دخل جزائر السيلا قوم من العلويين لما فروا من بني أمية فاستوطنوا وملكوا وماتوا بها، وإن جزيرة صبح كانت تعرف بالعلوية، ...... وفيها نزل العلويون الفارون من بني أمية والحجاج، ودخلوا البحر الزفتي بالجزيرة المعروفة بهم إلى الآن) والجزيرة المعروفة هي سومترا
وجاء مثل هذا القول في نهاية الأرب للنويري (ج1ص220) وخطط المقريزي (ج1ص25)
ويقول البروفيسور والمؤرخ الأندونيسي حسين جاياديننغراد الأستاذ بجامعة أندونيسيا: (إن الإسلام دخل إلى أندونيسيا على أيدي الشيعة، وإن آثار ذلك لا تزال باقية إلى الآن).
وذكر المؤرخ الأندونيسي الأستاذ محمد عبد الكريم أمر الله (حمكا) في كتابه (سجارة أمة إسلام) (ج4ص21): (إن الأندونيسيين يعتقدون اعتقاداً متوارثاً بأنهم تلقوا الدين عن العرب، عن شيخ داعية أو سيد شريف من سلالة الرسول).
ثم ذكر أسماء الدعاة الأوائل كالشيخ إسماعيل الذي جاء إلى سمودرا ـ باسي، والسيد عبد العزيز الذي أسلم على يده الملك (براميسوارا)، والشيخ عبد الله عارف وتلميذه برهان الدين في أجيه، وملك إبراهيم المنتسب إلى زين العابدين بن الحسين في كرسيك، وهداية الله المنتسب إلى الرسول، وإن سلاطين جزائر الملوك يعتقدون إنهم من سلالة جعفر الصادق (عليه السلام)، ومثلهم سلاطين بروني (أوانغ بتاتر)، وسُمّي السلطان محمد على يد الشريف علي الذي تزوج بنت (بندهارا باتيه براباي) بنت أخ السلطان، فلما توفي السلطان محمد وتوفي بعده أخوه السلطان أحمد، تولى بعده الشريف علي ثم ابنه الشريف سليمان).
ويقول الدكتور حزيرين عميد جامعة جاكارتا: (إن الإطلاع على ما يتعلّق بالشيعة ليس فقط مهماً جداً لمعرفة كل ما يتعلق بالإسلام، خصوصاً لشعبنا، بل إن التاريخ الإسلامي وازدهاره وتطوره في أندونيسيا بالذات مرتبط بالشيعة ارتباطاً مباشراً).
ثم يتطرّق حزيرين في حديثه إلى جهود علماء الشيعة في نشر التشيع ونقله إلى كل ممالك أجيه فيقول: (أليست باساي تمثل أول دولة إسلامية في أندونيسيا؟ وهي الدولة التي أسسّها الشيعة، ومن باساي توسّع التشيّع وتعاليمه إلى جميع القطر الأجوي، ثم توسّعت الدعوة وعمّت المناطق الأخرى الواسعة في سومطرا ومالايا، حتى أن دولة (مينانغكاباو) تحولّت من البوذية إلى الإسلام وتبعت المذهب الشيعي واستمرت ثلاثة قرون).
ويقول (بحروم رانكوتي) الكولونيل في البحرية الأندونيسية بعد أن يستعرض انتشار التشيع وازدهاره في (مينانغكاباو وجاوا) وغيرها، وما أنتج من حركة (الإسلام الأبيض) التي أوجدها الداتونان (رينجيه) مع زميليه الإمام (بونجول) و(توانكوراو): (إن تاريخ أندونيسيا في عقيدتي لا يمكن إحياؤه وتدوينه مرة أخرى بطريقة موسوعية بدون أن نذكر التشيع وغايته وأهدافه التي عاشت قروناً في أندونيسيا).
استمرار الوفود والدعوة
وقد توالى وفود أولئك الفارين العلويين وأتباعهم في العصر الأموي ثم العباسي الذي لم يختلف في سياسته الإرهابية عن سياسة الأمويين، فكانت نتيجة انتشار التشيع في أرجاء تلك الجزر قيام إمارات وممالك شيعية منها: باساي وبرلاك وكرسيك وبانتن وغيرها.
ولا تزال الذاكرة الأندونيسية وتواريخها تحتفظ بذكر الدعاة العلويين التسعة المعروفين في (جاوا) باسم الأولياء التسعة، وقد ألّفت عنهم كتب وحكايات، إضافة إلى مقابرهم المشهورة هناك ومنهم: (علي بن رحمة الله (سونن أمبيل)، (توفي عام (886هـ/1481م)، وابنه محمد هاشم الملقب (سونن درجة)، ويلقب أيضاً (ماسائيه مونات) في سدايو، ومحمد عين اليقين بن اسحاق (سونن كيري)، وإبراهيم بن علي الملقب (سونن بونانغ)، وجاكا سعيد الملقب (سونن كالي جاكا) في (كاديلانغو) بقرب دماك ابن الأمير (ملايا كوسوما) تلميذ إبراهيم بن علي، و(رادين براواتا) الملقب (ذسونن موريا) في جبل موريا شمال مدينة قدس وجعفر الصادق مؤسس مدينة قدس وباني مسجدها المسمى بالمسجد الأقصى، وملك إبراهيم المتوفى عام (822هـ/ 1419م) في (كرسيك) وهداية الله في (كونونغ جاتي) في (جيبرون) وهناك آخرون يعدّهم البعض من الدعاة التسعة.
انتشار الدعاة في الجزر
يقول المؤرخ الهولندي (فن دن بيرخ): (إن تأثير العرب في القرن الخامس عشر أشد من تأثير الهنادك، وهو تأثير يكاد يكون خيالياً ولكنه واقع، لأن أكثر العرب ذوي النفوذ الواسع هم من السادة الأشراف العلويين، في حين إن عرب حضرموت الآخرين لم يستطيعوا السيطرة على اعتقادات الهنادك).
ثم يقول: (إن سبب تأثيرهم في أمراء الأهالي بالجزائر الهندية راجع إلى مؤهلات العرب، لأن أكثرهم من نسل مؤسس الإسلام، وهذا واضح).
وقال بيخمان: (إن الداعية ملك إبراهيم المدفون في كرسيك وهداية الله المدفون في جيبرون (عربيان) وقال عنهما المؤرخ الهولندي سبات: (انهما حسينيان).
وذكر الدكتور فيصل السامر: (أما ملك إبراهيم فهو من ذرية الحسين) ثم يقول: (أما جزر الفلبين فقد دخلها قوم من العلويين أيام الخلافة الأموية فاستوطنوا وملكوا وماتوا بها).
ويقول الهولندي سبات في كتابه (الإسلام في الهند الهولندية) (إن حملة الإسلام إلى هذه البلاد هم الأسر العلوية (آل علي).
وتذكر التواريخ الجاوية: (إن الشريف إبراهيم بعث إلى جاول لنشر الإسلام، فتوجه إلى جامبا ولقي ملكها وأعلمه بإنه عربي ينتسب إلى الرسول محمد وإنه داعية إلى الإسلام، فأسلم الملك على يده وزوجه ابنته).
كما تذكر التواريخ الجاوية: (إن جماعة من السادة الأشراف هم الذين يسمون بالعلويين، فمن هذه الجماعة ظهر كثير من العظماء دخلوا إلى جاوا، فوجدوا بها مكانة، ونالوا المراتب العالية في بيراك، وتولى بعضهم السلطنة في (برليس) ملايا وسياك (سومترا).
وفي تواريخ أهالي (تكارونغ) ـ عاصمة كوتي في كاليمانتن ـ إن الإسلام جاء على يد أحد السادة الأشراف من دمك).
وفي تواريخ كرسيك: (إن علوي اسمه إبراهيم بن الحسين ويلقب بـ (سمارا) تزوج بنتاً من كمبوجا تدعى (جندا وولن)، فرزق منها ولدين هما: علي رحمة الله، واسحاق، فكان علي ينشر الإسلام في (سورابايا)، فيما كان اسحاق ينشر الدعوة في (باساي).
كما تشير المصادر الغربية إلى أن علي رحمة الله مر على (باليمبانخ) في طريق إلى (جاوا) ونزل ضيفاً على أميرها (ألا يادار) فأسلم الأمير على يديه.
ويعقب السيد حسن الأمين على هذا القول: (أعقب أولئك الدعاة أبناءً وأحفاداً اندمجوا كل الاندماج في الشعب، ولبعضهم سجلات تثبت أنسابهم وقد رأيت وثيقة خطية قديمة بحروف عربية هي سلسلة نسب يتصل إلى السيد عبد الرحمن السقاف، ووثيقة أخرى لمس أحمد بن كياي مس مجيد يتصل إلى السيد علي بن علوي بن عبيد الله بن أحمد المهاجر سليل الإمام جعفر الصادق).
أجيه مركز الإسلام والتشيع
قد ذكرنا في قرار الندوة الخاصة عن وصول الإسلام إلى أندونيسيا إنه وصلها عن طريق أجيه في سومطرا وبها أول ملك مسلم، وكانت أجيه وتلفظ (أتجيه وأتشه) أيضاً، وهي من مقاطعات أندونيسيا وتقع في شمال سومطرا، وهي من مراكز التشيع الكبرى في أندونيسيا، ومنها حمل الشيعة الإسلام إلى كثير من المقاطعات الأندونيسية، ولا تزال آثار التشيع فيها إلى الآن، ومن الشواهد على ذلك قبور أعلام الشيعة التي لا تزال مزاراً عاماً للمسلمين، وقد كتب عليها عبارات (لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله)، و(لا فتى إلا علي لا سيف إلا ذو الفقار)، وفي أجيه تقع مدينة (شيعة كوالا) وتعني باللغة الأندونيسية (كوالا الشيعية) لأن أهلها كلهم شيعة وفيها (جامعة شيعة كوالا).
جهود الدعاة في نشر الإسلام
وقد استمرت دعوة الشيعة إلى الإسلام في تلك الجزر لقرون طوال، لكثرة تلك الجزر وتباعدها، وعن جهود الشيعة في نشر الإسلام يذكر الر حالة (ماركو بولو) في رحلته إلى جزيرة سومطرا الشمالية عام (1292م)، جهود المسلمين الشيعة لنشر الإسلام بقوله: (إن السرازين يبذلون كل جهد لنشر الإسلام)، وكلمة سرازين محرّفة عن سراكنو عند الروم، والمحرفة أيضاً عن شراقة أي الشرقيين، وتطلق على العرب، ثم أطلقت على المسلمين، وفي اللاتينية (سراكنو)، يقصد بها العرب الرحل.
ويقول آرنولد: (يمدُّنا تاريخ مجموعة جزائر الملايو في خلال الأعوام الستمائة الأخيرة بفصل من أهم الفصول في قصة انتشار الإسلام بفضل ما بذله الدعاة من جهد، في هذه المدة كلها نجد دلائل تفيد عن نشاط متصل قام به الدعاة المسلمون في جزر الهند الشرقية، أو بعضها على الأقل، وفي أول الدعوة لا بد أن ينفذ الدعاة أعمالهم بكل ألوان الدعوة، بدون مساعدة أو تأييد حكام البلاد، ولكن نفذت بقوة الإقناع فقط، وقد لقوا معارضات شديدة في كثير من الأوقات، وخصوصاً من الأسبانيين، ولكن الدعاة استمروا في سعيهم بنشاط لا يعرف الملل على الرغم من المصاعب في ألوان مختلفة من النجاح وأنجزوا أعمالهم).
ويقول (فن دين بيرخ): (إن هناك أسباب خلقية وطبيعية جعلت الإسلام ينتشر).
ويقول هاراهاب: (ازداد الإسلام انتشاراً بوصول مسلمين من العرب جاؤوا زرافات في أوائل القرن السابع إلى كاليمانتن، فأهالي كاليمانتن المسلمون هم من سلالات هؤلاء القادمين، ومعظم هؤلاء أرقى أدباً وأزكى ذهناً من الداياك إذ ذاك، وهم يعملون على اجتذاب قبائل الداياك إلى الإسلام).
ويقول أيضاً: (لقد انتشر الإسلام بصورة عجيبة، نشره الدعاة ولم ينالوا حظاً من مساعدة الملوك، بل اعتمدوا على القوة الكامنة في نفس العقيدة التي تأتي على كل ما ينصب لها من عراقيل خصوصاً من الأسبانيين)
ويواصل هاراهاب حديثه عن الدعاة الشيعة بقوله: (إنهم لم يأتوا بسيوف مسلولة، ولم يكونوا مغيرين، ولا مستعمرين كالأسبان في القرن السادس عشر الذين جاؤوا بالقوة والبطش لإدخال الأندونيسيين إلى دينهم، ولم يكونوا كالأوربيين الآخرين الذين احتكروا التجارات وآثروا الثروة فأهلكوا غيرهم، إنهم استعملوا عقولهم خلال ذلك، وثقافتهم لنشر دينهم، ولم تمر بأذهانهم فكرة الترفّع والتسلّط على غيرهم).
وتقول السيدة (سيدة كاشف) في بحث لها عن تاريخ أندونيسيا: (وتأثر أولئك السكان بوضوح العقيدة الإسلامية وببساطتها بما فيها من المساواة بين المؤمنين، كما تأثروا بتفوق المسلمين في المدنية وبإقبالهم على مؤاخاة أهل البلاد، وببعدهم عن الغايات الإستعمارية، فكان ذلك كله سبباً في انتشار العقيدة الإسلامية بينهم).
وحتى بعد أن أصبح لدى الشيعة قوة لا يستهان بها بانتشار الإسلام في أكثر تلك الجزر فإنهم لم يجبروا أحداً على الدخول فيه بل كانوا (دعاة صامتين) كما أوصى بذلك الإمام الصادق(ع) أصحابه يقول هاراهاب:
(ومن الممكن بعد قوتهم وعظم نفوذهم في سومترا أن يكرهوا الناس على أن يكونوا مؤمنين، ولكنهم لم يفعلوا بدليل بقاء أهالي باتاك ــ وهم السكان الأصليون ــ على دينهم وتقاليدهم).
وقد ماشى الدعاة العواطف وتركوا للناس عبادتهم، وكانوا لا يستنكفون حضور أعيادهم وأفراحهم بل أولوها عناية، وكان الداعية العلوي (حسن الدين) في بانتن أول ما يبدأ باختبار النفسيات والعادات، فإذا خبرها بدأ بالدعوة بالإسلوب الذي يتماشى مع العواطف، وكان يطببّ المرضى على أن تكون أجرة العلاج الدخول إلى الإسلام.
ويقول (وولبرس): (أن الدعاة نالوا حظوة لدى ملك ماجاباهيت والشعب، واستطاعوا أن يجتذبوا الأهالي إليهم وينقذوهم من الخرافات، وكانوا يتساهلون معهم، ولا يتشددون في الأحكام، وهم الذين أطلقوا اسم كرسيك على بلدة تاندس).
وفي مقال نشرته جريدة (ماتهاري) التي كانت تصدر في مدينة (سمارانغ) في (6/يناير/1936) جاء فيه: (حينما انتشر الإسلام لم تقاومه الثقافة الهندوكية، فانتشر وامتزج بالعادات والتقاليد، ذلك إنه لم يرتكز على السياسة فتوغل في القلوب وانتشر في الآفاق، وليس معنى هذا إن المسلمين لم يبذلوا الجهد في نشر الثقافة الإسلامية العربية، ولكن انتشر برغبة الشعب لا برغبة سلطة من السلطات ...
ويواصل كاتب المقال حديثه عن آلية انتشار الإسلام فيقول: (إن انتشار الإسلام كان بسعي دعاة يتخذون في دعوتهم الأساليب السلمية المعتدلة، بقلوب مخلصة، وإرادات قوية حتى تكاثرت المدارس الإسلامية تكاثراً عظيماً، ولم تزاحمها إلا المدارس الحكومية (الاستعمارية) تدريجياً، ومع ذلك فالرغبة شديدة لتعلم اللغة العربية).
تاريخ حافل بالعطاء
بعد هذه الأدلة الثابتة والبراهين القاطعة على أن الشيعة هم دعاة الإسلام الأوائل في أندونيسيا، وواضعي نواة جذوره الأولى، وبناة حضارته فيها، وحماته والذائدين عنه، وبعد أن ذكرنا كيفية وصول الإسلام إلى أندونيسيا والجهود التي بذلها الشيعة في سبيل انتشاره، نرى من فائدة البحث أن نتطرّق إلى المراحل التي مر بها التشيّع في أندونيسيا والأوضاع السياسية والإجتماعية التي عاشها في تلك المراحل.
إن قراءة تاريخ الشيعة منذ وصولهم إلى أندونيسيا يحتاج إلى مجموعة من الكتاب والمؤرخين والباحثين، ويتمخّض عن عدّة مجلدات رغم ضياع أكثره، فهو تاريخ حافل بالعطاء والمنجزات وزاخر بالتضحيات الكبيرة على الأصعدة السياسية والفكرية والإجتماعية.
ولكن سنترك الكلام للسيد محمد أسد شهاب وهو يتحدث عن بعض تاريخ الشيعة في أندونيسيا ننقل منه بإيجاز: (يوجد في أندونيسيا عدد كبير من الشيعة، منتشرون في جميع الجزر الأندونيسية المتناثرة في هذا الأرخبيل الواسع.
ويبدأ تاريخ الشيعة في أندونيسيا ببدء الدعوة الإسلامية وبدخول الدعاة المسلمين الأوائل الذين نشروا الإسلام في هذه الجزر ......)
وعن كيفية وصول الشيعة إلى هذه الجزر والأسباب التي دعتهم إلى ذلك يقول شهاب: (اضطر الكثير من الشيعة أن يبحثوا عن أماكن يحفظون فيها أنفسهم وأعراضهم فهاجر بعضهم إلى بلدان كثيرة فاستوطنوها بعد أن شعروا بالطمأنينة والأمان. لقد استقروا بها فأصبحوا من أهلها).
ثم يتطرّق شهاب إلى بعض السادة العلويين الذين استقروا في هذه الجزر وأعقبوا فيها ولا تزال سلالاتهم إلى الآن باقية: (ومن بين أولئك الذين هاجروا فراراً من الظلم بعض أحفاد علي بن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، وهم أبناء محمد بن علي وأبناء الحسن بن علي بن الإمام الصادق، وقد هاجر معهم الكثير من أهلهم وذويهم وأتباعهم وعلى رأس هؤلاء المهاجرين السيد أحمد بن عيسى بن محمد بن علي بن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، ولأجل هذا عُرف أحمد بن عيسى بـ (المهاجر).
ثم يتحدث شهاب عن سلالات الشيعة وآثارهم وأعقابهم فيقول: (وقد واصل أبناء أحمد بن عيسى وأحفاده الهجرة للدعوة إلى الإسلام، فكانت الهند أولى وجهاتهم فمنهم من استقر واستوطن في مدينة مليبار بالهند، ومنهم من واصل الهجرة إلى هذه الجزر المعروفة اليوم باسم ملايا وأندونيسيا والفلبين وجزائر سليمان، وهؤلاء كلهم من أحفاد علي بن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) وهم شيعة إمامية).
تأسيس الممالك
ويواصل شهاب حديثه عن عملية نشر الإسلام من قبل هؤلاء الدعاة في أندونيسيا، واندماجهم في المجتمع الأندونيسي، ومن ثم تأسيسهم الممالك الشيعية ومقاومتهم للإحتلال الهولندي فيقول: (وقد لاقى هؤلاء الدعاة المسلمون الترحيب والتكريم من أهل البلاد، وتقبّلوهم بسعة صدر، فاستقروا في هذه الجزر وصاروا من أهلها. وتزوج الكثير منهم الأميرات من بنات الملوك والأمراء حتى توصّل بعضهم إلى رتب عالية وبذلك استطاع أن ينتخب سلطانا.
ولا تزال سلالاتهم معروفة إلى اليوم، ولقد أخذوا على عواتقهم أن ينشروا الدين الإسلامي، فأسلم على أيديهم الكثيرون. وإن أول الدعاة المسلمين الذين وصلوا لنشر الإسلام إلى هذه الديار هم من الشيعة وهذا أمر معروف مسلّم به هنا).
المأتم الحسيني شعار الشيعة
ورغم النكبات والظروف القاسية التي مر بها الشيعة أيام الإحتلال إلا أن عاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم بقيت واضحة المعالم وراسخة في قلوبهم يقول شهاب عن ذلك: (كما إن عوائد الشيعة لا تزال معمولاً بها إلى اليوم في كثير من البلدان على رغم ما طرأ على هذه العوائد والطقوس من تغييرات بسبب مرور الزمن وانقطاع الصلات بين مسلمي هذه الديار والعالم الخارجي عدة قرون خصوصاً أيام الإستعمار الهولندي الذي دام ثلاثة قرون ونصف قرن في أندونيسيا. وفي هذه المدة الطويلة انقطعت كل الصلات تقريباً بين الشيعة هنا والعالم الخارجي).
وبعد أن يستعرض بالتفصيل طقوس الشيعة في أندونيسيا في محرم وصفر وإقامة المأتم الحسيني وحرصهم على إداء هذه الشعائر يقسم تاريخ الشيعة في إندونيسيا إلى ثلاثة مراحل:
المرحلة الأولى: تبتدأ بدخول الشيعة في القرن الثالث الهجري ـ التاسع الميلادي ـ وتنتهي عام (1592م) ببداية دخول الاستعمار الهولندي وعن هذه المرحلة يقول شهاب:
(ففي المرحلة الأولى كان للشيعة في هذه الأرجاء عصر زاهر، وكان لهم مكانة مرموقة، وكيان قوي، وبازدهار التشيع في تلك الفترة الذهبية، كان المأتم الحسيني رمزاً لشعار التشيّع، وكلمة (لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار) عنواناً للبطولة، ولا يزال موجوداً إلى اليوم مدفع عظيم قديم مكتوب عليه (لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار)، وهذا المدفع موجود في مدينة (بانتن) القديمة بجاوا الغربية.
ويأتي إلى هذا المحل كثير من السوّاح والزوار من أجناس شتى لمشاهدة هذه الآثار، كما إن السيوف القديمة مكتوب عليها تلك العبارة أيضاً، وهذا مما يدل على أن عقيدة الشيعة كانت متمكنة في النفوس منتشرة في الأوساط، حتى إنهم يكتبون تلك العبارات على كل شيء محترم معظم)
شواهد البطولة
وهذا المدفع والسيوف تحكي عن ذلك الجهاد الذي سطّر فيه الشيعة أروع الأمجاد، ولقّنوا الأجيال دروس البطولة والتضحية في سبيل الدفاع عن دينهم ووطنهم، فلا تزال تلك العبارة (لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار) على السيوف تستنطق التاريخ والعصور على دماء الشيعة التي سالت على هذه الأرض لكي تبقى راية الإسلام ترفرف على ربوعها.
يقول البروفيسور والمؤرخ الأندونيسي حسين جاياديننغراد الأستاذ بجامعة أندونيسيا: (إن الإسلام دخل إلى أندونيسيا على أيدي الشيعة، وإن آثار ذلك لا تزال باقية إلى الآن).
هذه شهادة أخرى تضاف إلى الشهادات الكثيرة على تاريخ الشيعة المشرّف والمشرق في أندونيسيا وهي من أحد أعلام أهل السنة.
النبل مقابل الظلم
ولم يقابل الشيعة في أندونيسيا في تعاملهم تجاه من ظلمهم وشرّدهم وقتّلهم بالمثل، بل إنهم كانوا في غاية النبل والإحسان تجاه من عاداهم، وهناك أثر شاهد على ذلك وهو قبر حفيد الخليفة العباسي المستنصر، واسمه عبد الله الذي فرّ بجلده من بغداد هرباً من المغول عندما دخلوها فالتجأ إلى الشيعة في أندونيسيا ولاذ بهم فآووه وحموه ووفروا له سُبل العيش الكريم، وقبره موجود في شمال سومطرا.
نعود للسيد شهاب وهو يتحدث عن آثار الشيعة وطقوسهم، فيذكر بالتفصيل المناسبات الدينية وكيفية إقامتها كالمأتم الحسيني ويوم الغدير الذي تقام له حفلة كبرى في منزل أكبر رجال الشيعة سناً فتقرأ فيه سيرة سيد الأوصياء علي بن أبي طالب (عليه السلام)، إضافة إلى القصائد والخطب التي تخص هذه المناسبة.
ثم يتطرّق إلى شواهد الشيعة من القبور والمشاهد التي لا زال يزورها الكثير من الناس، ومنها: مشهد مولانا إبراهيم، ومولانا حسام الدين الحسيني، ومولانا هداية الله، ومولانا زين العابدين، ومولانا محمد عين اليقين، والسيد حسن بن علي الأسترابادي، وغيرهم. وهؤلاء كلهم من الشيعة الإمامية وينتسبون إلى أحمد بن عيسى بن محمد بن علي بن الإمام الصادق (عليه السلام).
الشيعة رمز النضال في أندونيسيا
أما المرحلة الثانية التي مرّ بها الشيعة فهي تبتدأ من عام (1592م) إلى عام (1910م) والتي دخل فيها الاستعمار الهولندي إلى أندونيسيا، وتعدّ هذه المرحلة من أقسى المراحل التي مرّت على الشيعة وفيها: (ذاق الشيعة أنواعاً من التعذيب، وأهوالاً من التنكيل بسبب مقاومتهم للاستعمار) . كما يقول السيد شهاب ويضيف: (لقد حاربت هولندا الشيعة، وظلّت حربها تزداد عاماً بعد عام حتى بلغ التنكيل أوجه في عام (1642م)، ففي هذا العام شرّدت هولندا الشيعة تشريداً وعذّبتهم تعذيباً، وأباد الاستعمار الهولندي الكتب والوثائق التاريخية المهمة بل وكل ما له علاقة بالشيعة والحركة الإسلامية)
وعن تصدّي الشيعة لهذا الاستعمار وكفاحه المسلح يقول شهاب: (وقد امتدّت هذه المرحلة ثلاثة قرون ونصف القرن هي طيلة الاستعمار الهولندي منذ عام (1592) حتى عام (1945)، فمنذ أن وطأت أقدام الهولنديين قاومهم الشيعة أضرى مقاومة مما أحنق عليهم الهولنديين، وظلّ الشيعة على كفاحهم، وظلّ الهولنديون يقابلون هذا الكفاح بالبطش والتنكيل.
ثلاثة قرون ونصف قرن من المقاومة، كان الشيعة في هذه المقاومة الطويلة رمزاً عظيماً للجهاد والتضحية الإسلامية، رمزاً للروح الفياضة روح الفداء، وكانت هولندا تسميهم: الفوضويين، المشاغبين، الخونة.
هكذا ذاق الشيعة من الاستعمار الهولندي الأهوال، وقد أحكم الطوق على الشيعة فانقطعت كل الصلات بالغالم الخارجي، وانقطعت زيارات العتبات المقدسة في كربلاء والنجف الأشرف والكاظمية وسامراء، فقد كان المسلمون الأندونيسيون قديماً يواصلون بعد تأدية فريضة الحج السير إلى العراق لزيارة العتبات المقدسة، وحضور المأتم الحسيني في كربلاء).
النضال الفكري واستمرار المقاومة
أما المرحلة الثالثة من تاريخ الشيعة والتي تبتدأ من عام (1900) إلى عام (1945)، حيث استسلمت هولندا للجيش الياباني فبدأ الوعي التحررّي من الاستعمار يدبّ لدى المثقفين، ويلهب دمائهم للنزوع إلى التحررّ، واستطاع الشيعة بعد هذا الجهاد المسلح الطويل والمرير أن يكسروا الطوق ويتصلوا بالعالم الخارجي بعد إنقطاع طويل ليبدأ نشاطهم الفكري والتوجيهي للدعوة إلى التحرر من الاستعمار.
كان من أعلام الشيعة الذين قادوا حركة المقاومة في هذا الجهاد الفكري وإلهاب حماس الجماهير السيد محمد بن عقيل صاحب كتاب (النصائح الكافية)، والسيد محمد بن أحمد المحضار، والسيد علي بن أحمد بن شهاب، والسيد أبو المرتضى بن شهاب، والسيد حسين بن سهل وغيرهم. فأصدروا الصحف والنشرات، وألفوا الكتب، وألقوا الخطب الحماسية، واتصلوا بالعالم الخارجي لتحشيد الرأي العام وتلقي الدعم ضد الاستعمار الهولندي ومحاولة فك الأغلال، فاتصلوا بالزعماء في العراق والشام ومصر والأستانة.
سياسة الهولنديين التعسفية
كان نتيجة هذه المساعي اعتقال السيد علي بن أحمد بن شهاب ومعه الكثير من الشيعة بتهمة محاولة الإنقلاب، ولكن هذه الإعتقالات لم تفتر من عزيمة الشيعة، ولم تثنهم عن إصرارهم على مقاومة الاحتلال حتى النصر، فقاوموا الاستعمار بكل ما أوتوا من قوة، وأخذت الصحف التي تحرّض على الثورة تزداد وتأخذ طابعاً أكثر جرأة وتحدياً، وهي تصدر باللغتين العربية والأندونيسية، وكان من أعلام الصحافة المقاومة الشيعة الشاعر السيد محمد بن هاشم، والسيد محمد بن عقيل، والسيد عيدروس، والسيد عقيل الجفري الزعيم الذي سجن عدة مرات.
مواصلة الإعتقالات
وفي مقابل هذه الحركات التحررية والمقاومة الباسلة والتحدي للاستعمار من قبل رجالات الشيعة كثف الهولنديون من الإعتقالات، واشتد الصراع، وتأزم الوضع حتى كأنه قنبلة موقوتة توشك أن تنفجر خاصة بعد أن فرضت هولندا أحكاماً تعسّفية، فواصلت اعتقالاتها وطالت الكثير من زعماء الشيعة منهم: السيد طه بن أحمد الحداد، ومحسن العطاس، ومحمد عيديد، ومحمد بن علوي، وطاردت حكومة الاستعمار من لم تستطع إلقاء القبض عليه.
إحراق الفكر الشيعي
ولم يكتف الإستعمار الهولندي باعتقال هؤلاء الزعماء وغيرهم الكثير، بل عمد إلى مكتباتهم ومؤلفاتهم فأحرقها يقول السيد شهاب: (وأبادت هولندا مكتبة كاملة كبيرة تضم خيرة الكتب والمخطوطات الإسلامية كان يملكها السيد محمد الحداد. فقد هجم ثلة من الجند الهولندي لإلقاء القبض على هذا السيد ولكنهم لم يجدوه، إذ كان قد ترك منزله قبل عدة ساعات بعد أن علم بالأمر، وفتش قائد الفرقة البيت تفتيشاَ دقيقاً، فوجد المكتبة الغاصّة بالكتب، فأمر بإخراج الكتب وحرقها أمام البيت بعد أن كسروا الخزائن وبعض أثاث البيت).
وتكرر هذا الفعل المشين عند الكثير من بيوت العلماء الشيعة، فقد أحرق جنود الاستعمار مكتبات عظيمة ضخمة تحتوي على آلاف المخطوطات والكتب المهمة للشيعة في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى وما بعدها، فضاع بذلك تاريخ مهم من تاريخهم العظيم على هذه الأرض.
نفس الفعل بيد أخرى
إن الفعل المشين والمنكر والإجرامي الذي ارتكبه الهولنديون يتكرر اليوم من قبل أصحاب الأقلام المأجورة التي تسعى للإجهاز على ما تبقى من تاريخ الشيعة في أندونيسيا بتضييعه مرة وإخفائه وتجاهله مرة أخرى، ولعل في منطوى الغيب ما لا نعلمه ممّا تسوّل لهؤلاء أنفسهم الحاقدة وتحوكه أياديهم القذرة من مؤامرات ودسائس لاغتيال الفكر والتاريخ الشيعي.
ولا يخفى من يقف وراء هذه المؤامرة الدنيئة لمحق تاريخ الشيعة من البلاد الإسلامية، فالوهابية لا يقل خطرها على الإسلام من الإستعمار، بل هي أشدّ خطراً عليه، فهي تجنّد الأقلام المرتزقة والضمائر الفاسدة لتلويث تاريخ الشيعة وإخفائه وتضييعه، ولكن ما كان لله ينمو، فلن يستطيعوا بكل إمكانياتهم، وما سخّروه من أقلام ووسائل إعلام أن يثلموا تاريخ الشيعة الناصع والمشرق والمشرّف وكما اندحر الاستعمار فسيندحر آل سعود ومن انضوى تحت عباءتهم المشبوهة.
الإستقلال وإحياء الفكر والتاريخ
في عام (1945) أعلنت جمهورية أندونيسيا استقلالها، فتفتّحت الأبواب أمام الشيعة للإتصال بإخوانهم في العراق ولبنان وإيران وباكستان والهند، وأخذوا يتلقّون الكتب المختلفة، وأحيوا مكتباتهم وأنشأوا مكتبة كبرى، كما أنشأوا (هيأة البحوث الإسلامية) لنشر الكتب وترجمتها إلى اللغة الأندونيسية، وأعدوا طلاباً لإرسالهم إلى النجف الأشرف لطلب العلم.
ولا ينتهي الحديث عن تاريخ الشيعة في أندونيسيا فهناك جوانب عديدة من هذا التاريخ ينبغي تسليط الضوء عليها ومنها: الجانب الجهادي الذي أشرنا إليه ولم نتناول تفاصيله والذي يعد من أروع صفحات البطولة في التاريخ الأندونيسي، ومنها أيضاً الجانب العلمي والفكري للشيعة والأسر العلمية العلوية التي أثرت الحضارة الإسلامية بعطائها الثر وسنتناول هذه الجوانب في مواضيع أخرى.
اضف تعليق