على الضفة الغربية لنهر الفرات بين بغداد والكوفة تأسست دولة شيعية إمامية كان لها دور كبير وفاعل في التاريخ الإسلامي على الصعيد السياسي والاجتماعي والفكري والثقافي. ففي عام (388هـ/998م) استطاع الأمير أبو الحسن علي بن مزيد بن مرثد الناشري الأسدي إقامة الدولة (المزيدية) في الحلة بالعراق واتخذ من بلدة (النيل) التي تبعد عن مدينة بابل حوالي خمسة أميال مقراً لحكمه، وقد حصل على دعم من البويهيين المسيطرين على مقاليد الحكم في بغداد، حيث أضفوا عليهم صفة الإمارة بشكل رسمي فكان لهم دور مهم وفاعل في تاريخ الدولة العباسية دام نحو قرن ونصف القرن.
بنوا أسد
كان بنوا أسد منتشرين بصحراء النجف حيث يذكر ابن خلدون في الجزء الرابع من تاريخه انهم كانوا يسكنون أراضٍ شاسعة من العراق فيقول: (كان بنو مزيد هؤلاء من بني أسد وكانت محلاّتهم من بغداد إلى البصرة إلى نجد وهي معروفة. وكانت لهم النعمانية. وكان بنو دُبيس من عشائرهم في نواحي الأحواز العربية في جزائر معروفة بهم).
وتُنسب الأسرة المزيدية الحاكمة إلى مزيد بن مرثد بن الديان بن خالد بن حي بن زنجي بن عمرو بن خالد بن مالك بن عوف بن مالك بن ناشرة بن نصر بن سواءة بن سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد.
عاشت الحلة في زمن المزيديين حياة الأمن والاستقرار والرخاء الاقتصادي. يقول عماد الدين الأصفهاني في كتابه: (خريدة القصر وجريدة أهل العصر) عن أمراء الدولة المزيدية: (ملوك العرب وأمراؤها بنو مزيد الأسديون النازلون بالحلة السيفية على الفرات: كانوا ملجأ اللاجئين وثمال الراجين وموئل المعتفين وكنف المستضعفين تشد إليهم رحال الآمال وتنفق عندهم فضائل الرجال، وأثرهم في الخيرات أثير، والحديث عن كرمهم كثير.....)
الأقلام الملوثة في كل مرة
ولكن أصحاب الضمائر الميتة من ذوي الأقلام الملوّثة أبَوا إلا أن يزّورا الحقائق ويزيّفوا الواقع التاريخي ويتقوّلوا على الأمراء الأشراف المزيديين بما ليس فيهم، ويلصقوا بهذه الدولة بما جُبلت عليه دولهم المتوحشة كالأموية والعباسية والأيوبية والسلاجقة وغيرها من ارتكاب المنكرات والجرائم والفظائع، فأملت عليهم طويتهم الفاسدة بالقول بأنهم: (احترفوا الغارات والنهب خلال فترات الاضطراب والفتن. كما لم يتردد أمراؤها في محالفة الصليبيين فيما بعد)!!.
الله أكبر على هذا الكذب والافتراء الذي لم يجرؤ على القول به حتى مؤرخوهم من الذين عاصروا الدولة المزيدية، ولكن هؤلاء اعتادوا على أن يتقوّلوا بمثل هذه الأراجيف والأباطيل على كل من يمت للتشيع بصلة فأي حقد أعمى يقودهم؟.
إن هذه الوصمة التي ألصقوها كذباً وظلماً على الدولة المزيدية قد وصمتهم هم، فتاريخ أمراء الدولة المزيدية المشرق والمشرّف ينفي كل هذه الأقوال الموضوعة التي كتبت بمداد التزلّف والنفاق والتعصّب الأعمى ووصمتهم هم كما وصمت أسلافهم بدءاً بمعاوية الذي كان يرسل أعوانه المجرمين أمثال بسر بن ارطأة وسفيان بن عوف الغامدي والضحاك المشرقي وغيرهم للإغارة على المدن الآمنة لقتل الأبرياء وهتك الحرمات ونهب الأموال والممتلكات، وسار على هذا المسار الوحشي المجرم (سعيد التكريتي الأيوبي) الملقب ظلماً بـ (صلاح الدين) وعبد الرحمن الداخل الأموي وغيرهم من المجرمين.
إن الممض في الأمر هو ليس قولهم هذا الذي أفرزته ضمائرهم الفاسدة فقط، فقد تعوّدوا على مثل هذه الأكاذيب، ولكن المؤلم هو تحريفهم التاريخ والتنكّر لحقائقه وتزييف أحداثه. وقد ملأوا المواقع الالكترونية بهذه الأكاذيب التي يراد بها الانتقاص من الشيعة وتلويث تاريخهم المشرّف للأجيال وهي جريمة لا تقل عن جرائم الإبادة التي مُورست بحق الشيعة من قبل أسلافهم المجرمين، فقاموا بانتحال كل فضيلة للشيعة ونسبوها لتاريخهم الأسود مرة أو إخفائها أخرى، وقذفوا الشيعة بما ليس فيهم وألصقوا بهم الفضائح والجرائم التي ارتكبها أسلافهم بالشيعة، ولكن رغم ذلك فالحقيقة مهما أخفيت أو زُيّفت فستظهر وسينجلي عنها غبار الزور كالشمس وقد تفرق عنها السحاب، وسيظهر هؤلاء على حقيقتهم المخزية وسيبقى تاريخ الشيعة مشرقاً بأنصع وجه عرفه التاريخ الإسلامي. فما أحق هؤلاء بقول الشريف الرضي فكأنه يخاطبهم بقوله:
و إن مقامَ مثليَ في الأعادي *** مُقَامُ البَدْرِ تَنْبَحُهُ الكِلابُ
رَمَوْني بِالعُيُوبِ مُلَفَّقَاتٍ *** و قد علموا بأنّي لا أُعابُ
وأنّي لا تُدنّسني المخازي *** وأني لا يروِّعني السِّبابُ
فلَمّا لَمْ يُلاقُوا فيّ عَيْباً *** رمُوني من عيوبِهمُ وعابوا
ولم أكن أظن أن يأتي اليوم الذي أسمع فيه أن الدولة الحمدانية ليست شيعية !!
اسمع واعجب أو فلا تعجب ممن جعل الكذب ديناً له ويتلقاه من شيوخ الوهابية المأفونين، وأن كان والله لمن أعجب العجب !!! فصاحبه والله كمن ينكر الشمس
ماذا يفعل هؤلاء ؟ وعلى من يضحكون أعلى القارئ أم على التاريخ ؟ أم على أنفسهم هم قبل غيرهم ؟ وهل وصلت بهم الوقاحة والاستهتار بالاستخفاف بعقول الناس إلى هذا الحد !!
الدولة الحمدانية التي يقول شاعرها وأميرها أبو فراس الحمداني بحق الأئمة المعصومين (عليهم السلام):
لستُ أرجو النجاةَ من كلما *** أخشاه إلا بأحمد وعلي
وببنتِ الرسولِ فاطمة الطهرِ *** وسبطيه والإمام علي
والتقي النقي باقر علم الله *** فينا محمد بن علي
وأبي جعفر وموسى ومولاي *** علي أكرم به من علي
وابنه العسكري والقائم *** المظهر حقي محمد وعلي
بهم أرتجي بلوغ الأماني *** يوم عرضي على الإله العلي
ويقول:
شافعي أحمد النبي ومولاي *** علي والبنت والسبطان
وعلي وباقر العلم والصادق *** ثم الأمين بالتبيان
وعلي ومحمد بن علي *** وعلي والعسكري الداني
والإمام المهدي في يوم لا *** ينفع إلا غفران ذي الغفران
لا إله إلا الله إنهم كأسلافهم من كفار قريش الذين كذبوا بآيات الله فأنزل الله تعالى فيهم: ((وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) إن تزييف التاريخ الإسلامي لا يقل عن هذا التزييف
انموذج الدولة المسلمة
ولنعد إلى الدولة المزيدية فتاريخ هذه الدولة الناصع مدعاة على الفخر والاعتزاز، فقد كانت هذه الدولة منذ تأسيسها وحتى نهايتها انموذجا للدولة المسلمة التي تعمل بمفاهيم الإسلام على أسس من العدل والخير والصلاح، كما كانت انموذجا للدولة المدافعة عن الإسلام والمسلمين ضد الخارجين عليه ومؤدبة لمن سوّلت نفسه الاعتداء على المسلمين وأموالهم وأعراضهم.
فقد عاش الناس في أمان وخير وأمنوا على أنفسهم وممتلكاتهم بفضل هذه الدولة التي كانت اليد الضاربة والمؤدبة للهجمات البدوية التي تقوم بها القبائل من بادية الشام على المدن والمناطق الخصبة في وسط العراق، كما قامت بحماية طريق التجارة من البصرة إلى الموصل وحلب إضافة إلى حمايتها طريق الحج.
كان بنوا ناشر وهم فرع من قبيلة بني أسد، قد استوطنوا في القرن الرابع الهجري منطقة ميسان الواقعة بين واسط والبصرة، ومن المعروف أن بني أسد من القبائل العربية التي حافظت على التشيع في هذه المنطقة منذ القرن الأوّل الهجري وقد حفل تاريخهم بالأمجاد التي سطرها أبناء هذه القبيلة ومن أبرز أبطالهم الشهيد البطل حامل لواء أنصار الحسين (عليه السلام) حبيب بن مظاهر الأسدي وابن عمه الشهيد البطل مسلم بن عوسجة الأسدي (رضوان الله عليهما).
الأمراء الثمانية
وقد أقام بنو مَزيَد الناشري الدولةَ الإمامية المزيدية من سنة (402 هـ/1012م) إلى سنة (545هـ/1150م) وبسطت نفوذها على ميسان والنيل والحلة وهيت وعانة وتكريت والحديثة، وقد تزامن إقامة هذه الدولة ظهور الدولة السلجوقية فجرت بين الدولتين حروباً استطاع المزيديون تأديب السلاجقة ودحرهم وقد حكم الإمارةَ المزيدية طيلة (142) سنة ثمانية أمراء هم:
1 ـ أبو الحسن علي بن مزيد (سند الدولة) (388-408هـ/998-1017).
2 ـ دبيس بن علي (نور الدولة) (408-474هـ /1017-1081م).
3 ـ منصور بن دبيس (بهاء الدوزلة) (474-479هـ /1081-1086م).
4 ـ صدقة بن منصور (سيف الدولة) (479-501هـ /1086-1107م).
5 ـ دبيس بن صدقة (512-529هـ / 1118-1134م) .
6 ـ صدقة بن دبيس (529-532هـ / 1134-1137م).
7 ـ محمد بن دبيس (532-540هـ / 1137-1145م).
8 ـ علي بن دبيس (540-545هـ / 1145-1150م).
وسنتناول تاريخ كل واحد من هؤلاء الأمراء وأبرز أعماله وسياسته:
1 ـ علي بن مزيد بن مرثد الأسدي (سند الدولة):
كان هذا الأمير رجلاً باسلاً جواداً كريماً له مكانة كبيرة ومنزلة عالية عند البويهيين والعباسيين على السواء، وفي سنة (397هـ/1007م) لاحق الأمير علي بن مزيد بن مرثد الأسدي مؤسس الدولة المزيدية قبيلة خفاجة وهزمها إثر تعرضها لقافلة الحجاج فأطلق عليه بهاء الدولة البويهي لقب (سند الدولة) وهو لقب من ألقاب المدح والتبجيل لا يمنح سوى للقادة والشجعان.
وقوي أمر الأمير أبو الحسن علي بن مزيد واتسع نفوذه في منطقته والمناطق المجاورة، وكان لهذا النجاح ثمنه فقد كان بينه وبين أبناء عمومته بني دبيس منافسة على زعامة القبيلة تحولت إلى قتال واصطدام مسلح مع ابن عمه مضر بن دبيس مما حدى به إلى الارتحال مع عشيرته وسائر إتباعه إلى مكان خصب, لتفادي الحرب وحقناً للدماء. فولّاه فخر الدولة البويهي على الحلة الدبيسية الأولى سنة (403هـ), فكان أول من تولى الأمارة من أسرته فحوّل مدينة الحلة من معسكر حربي إلى مدينة متسعة حلت محل المدينة المجاورة المعروفة باسم (أبي معين) وقد أقام هو وعشيرته في ريف النيل الخصب في الحلة سنة (405هـ) واتخذها مركزاً لأمارته وانتشرت عشائره في أرياف الفرات في أرض بابل.
وتعد الفترة التي عاشت فيها الحلة في عهد سند الدولة فترة رخاء وأمن وطمأنينة, وكان من مواقف هذا الأمير المشرّفة التي يشكره عليها الدين والمذهب هو موقفه الشجاع بوقوفه بوجه الخليفة في بغداد ومنعه من تنفيذ أمره بنفي الشيخ المفيد (قدس سره) عن بغداد فحال تهديده للخليفة دون تنفيذ الأمر.
توفي علي بن مزيد سنة (408هـ) وتولى ابنه دبيس الإمارة بعده.
2 ـ دبيس بن علي بن مزيد أبو كامل (نور الدولة):
كان هذا الأمير يبلغ من العمر أربعة عشر عاماً عندما مات أبوه فأقره بهاء الدولة البويهي على ملك أبيه وحكم من سنة (408هـ إلى وفاته سنة 474هـ) فحكم (66) سنة. ونستشف من خلال التاريخ مميزات هذا الأمير حيث قال الذهبي عنه: (كان فارساً، جواداً، ممدحاً، كبير الشأن رثته الشعراء، فأكثروا). وقال فيه ابن الأثير: (مازال ممدحاً في كل زمان ,مذكوراً بالتفضل والإحسان). وفي عهد هذا الأمير انتهت الدولة البويهية في بغداد سنة (447هـ) وحكم مكانها السلاجقة.
فاهتم الأمير دبيس بالأمن في ولايته وعمل على تقوية جيشه المؤلف من عرب وأكراد جاوانيين وتعاون مع البساسيري أحد القادة الأتراك في دولة البويهيين في الثورة على السلاجقة فاشتركا في إلغاء الدولة العباسية في العراق والدعوة للدولة الفاطمية لمدة سنة حتى دخلت جيوش السلاجقة إلى بغداد لتعيد الخليفة إلى بغداد مجرّداً من كل مميزاته سوى اسمه ليكون ذريعة لها في حربها وليضفي شرعية على احتلالها بغداد.
كما شاب دولة دبيس منافسات من قبل أخويه المقلد وثابت تحوّلت إلى مؤامرات وثورات، غير انه تمكن من دحر أخويه وحلفائهما، كما لم يستطع السلاجقة مقاومة هذه الدولة نظراً لقوة جيشها وتماسك جبهتها، حيث التفت حول دبيس القبائل العراقية من عربية وكردية فاضطر طغرل بك إلى المهادنة معها وبقي دبيس حاكماً قوياً مطلقاً على إمارة الحلة حتى وافاه الأجل سنة (474هـ).
3 ـ منصور بن دبيس (بهاء الدولة)
تتجلّى في قول الذهبي أيضاً مميزات ومعالم سياسة هذا الأمير حيث يقول الذهبي عنه: (كان بطلاً شجاعاً وشاعراً محسناً، نحوياً جيد السيرة)، وقال عنه ابن الأثير في الكامل (وكان حسن السيرة مكرماً فاضلاً، وبرع بذكائه في الذي استفاده, وكان قد قرأ على ابن برهان ,وله شعر جيد في منتهى الحسن كقوله:
فإن أنا لم أحملْ عظيماً ولم أقُدْ *** لهاماً ولم أصبرْ لفعلِ معظّمِ
ولمْ أزجرِ الجاني وأمنع حوزةٍ *** فلستُ أنادي للفخارِ وانتمي
هذا قول ابن الأثير والذهبي وهما من مؤرخي السنة وقد توافق قولهما مع أقوال كل المؤرخين في أمراء الدولة المزيدية. فمن أين أتى المبطلون بأقوالهم وعلى أي مصدر اعتمدوا ؟ ولنرَ الآن على من ينطبق قولهم بـ (شن الغارات والسلب والنهب) أعلى الشيعة أم على أعدائهم السلاجقة وغيرهم
نبل الأمير
ولنستمع إلى ابن الأثير وهو يروي لنا هذه القصة في أحداث سنة (477هـ) وفيها يقول: (استولى عسكر السلطان السلجوقي على منازل العرب من بني عقيل واخذوا أموالهم وسبوا نسائهم، فتألم الأمير بهاء الدولة أبو كامل لهذا الحادث فأرسل ولده صدقة للسعي في قضية هؤلاء المنكوبين من بني عقيل لفك أسراهم فبذل للأتراك أموالاً طائلة وافتك الأسرى من بني عقيل ونساءهم وجهزهم وردهم إلى وطنهم بكل مظاهر العز).
الله أكبر لقد أرادوا كيدا فرد الله كيدهم إلى نحورهم (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) فكانوا كما قال الشاعر:
وإذا أرادَ اللهُ نشرَ فضيلةٍ *** طويتْ أتاحَ لها لسانَ حسودِ
لولا اشتعالُ النارِ فيما جاورتْ *** ما كان يُعرفُ طيبَ عرفِ العودِ
لولا محاذرة العواقبِ لم تزلْ *** للحاسدِ النُعمى على المحسودِ
وقد كان لهذا العمل النبيل والموقف المشرف من قبل هذا الأمير المزيدي النبيل صدى كبير في البلاد الإسلامية ومدحه الشعراء وأشادوا بهذه المكرمة الجليلة منهم محمد السنبسي الذي قال مخاطبا الأمير منصور بن دبيس:
كما أحرزتَ شكرَ بني عقيل *** بآمد يوم كظّهم الحذارُ
غداةَ رمتهمُ الأتراكُ طرّاً *** بشهبٍ في حوافلِها ازورارُ
فما جبنوا، ولكن فاض بحرٌ *** عظيمٌ لا تقاومهُ البحارُ
فحين تنازلوا تحت المنايا *** وفيهنَّ الرزيةُ والدمارُ
مننتَ عليهمُ، وفككتَ عنهم *** وفي أثناء حبلهمُ انتشارُ
ولولا أنتَ لم ينفكَّ منهم *** أسيرٌ، حين أعلقه الإسارُ
كما ذكر الحادثة أيضا الشاعر البندنيجي فقال قصيدة عصماء مدح الأمير منصور بن دبيس منها:
ويُمسي له في جيدِ كل متوّجٍ *** صنائعُ لم تخطرْ ببالٍ حسابُها
كيومِ عقيلٍ والرماحُ شواجرٌ *** وبيضُ الظُبى يروي الكُماةَ ضرابُها
غداةَ غدتْ للتركِ في الحي وقعة *** أباحتْ حِمى دارِ عزيزٍ جنابُها
فأقسمُ لولا نخوة مزيَدِيَة *** لباتتْ على حكمِ السبايا كعابُها
ولكن سيف الدولة بن بهائها *** حَمى عرضَها والتركُ يُحرقُ نابُها
تناشده الأرحامَ والنقعُ ثائرٌ *** ولا يُحفظُ الأرحامَ إلا لبابُها
وكم ذادَ عنها المزيديون بالقنا *** سيوفَ العِدا من حيث غصَّ شرابُها
عشيةَ لاذتْ بالفرارِ من الظُبا *** وعاثتْ بأسلاتِ الأسودِ ذئابُها
ولولا عوالي (نورِ دولة) خندفٍ *** لما انجابَ عن تلكَ الشموسِ ضبابُها
إذا نابها خطبٌ فأنتم ملاذُها *** وإن رابها جدبٌ فأنتم ربابُها
ورغم كل هذه الأحداث التي جرت في عهده إلا أن الأمير منصور لم يترك رغبته في العلم والتعلم حيث درس الأدب فاستفاد من دراسته وكتب الشعر حتى برع فيه.
وفي سنة (479هـ) توفي الأمير بهاء الدولة أبو كامل منصور بن دبيس وتولى بعده الإمارة ابنه الأمير صدقة , ولما علم بوفاته الوزير نظام الملك قال مؤبنا له :(مات أجل صاحب عمامة) وقد أكثر الشعراء في رثائه.
4 ـ صدقة بن منصور بن دبيس
(سيف الدولة) يعد هذا الأمير من أعظم أمراء الدولة المزيدية كما يعد المؤسس للدولة المزيدية في الحلة ومنه سميت بالحلة السيفية كما سميت الحلة بـ(الحلة المزيدية) نسبةً إلى بني مزيد قبيلة الأمير صدقة فقد اختطّ وأسس مدينة الحلة سنة (495هـ) حيث أعاد إعمارها وأحاطها بسور كبير واتخذها مركزاً لإمارته، وقد ازدهرت الحلة في عهده ازدهاراً عظيماً واتسعت دولته بعد أن أطاعته قبائلُ خفاجة وعقيل وعبادة وقبيلة الكرد الجاودان والشاهجان، وقدّمت له مراسم الولاء وقد حكم اثنتين وعشرين سنة.
وقد زخر عهده بالأحداث يقول عنه ابن الأثير في تاريخه: (كان جواداً حليماً صدوقاً كثير البر والإحسان، ما برح ملجأ لكل ملهوف يلقى من قصده بالبر والإحسان، وكان عفيفاً عادلاً لم يتزوج على امرأته ولا تسرّى عليها، ولم يصادر أحداً من نوابه ولم يأخذهم باساءة قديمة، وكان أصحابه يودعون أموالهم في خزانته ويدلون عليه إدلال الولد على أبيه. ولم ير رعية أحبت أميرها كحبها له. وكان متواضعاً يبادر إلى النادرة. وكان حافظاً للأشعار، وكانت له مكتبة تحوي ألوف المجلدات وكانت منسوبة الخط شيء كثير، ألوف مجلدات...... لقد كان من محاسن الدنيا).
وقال عنه الذهبي: (صاحب الحلة، الملك، سيف الدولة، صدقة بن بهاء الدولة منصور بن ملك العرب دبيس بن علي بن مزيد الاسدي الناشري العراقي، اختط مدينة الحلة في سنة خمس وتسعين وأربع مئة)
وقال فيه ابن الجوزي في (المنتظم) (ج9ص159): (كان كريماً ذا ذمام، عفيفاً عن الزنا والفواحش, كأن عليه رقيباً، مكن الصيانة، ولم يتزوج على زوجته ولا تسرى, ولم يشرب الخمر، ولا سمع غناء، ولا قصد التسوق في طعام، ولا صادر أحداً من أصحابه وكان تاريخ العرب والاماجد كرماً ووفاء وكانت داره حرم الخائفين)
وقد خضعت له القبائل الفراتية وامتدت إمارته إلى البصرة وواسط والبطيحة والكوفة وهيت وعانه وتكريت والحديثة، وسيطر على أقوى القبائل العراقية لذلك العهد مثل خفاجة وعقيل وعبادة وقبيلة جاوان الكردية.
اهتمّ الأمير صدقة بالشؤون الإدارية والعمرانية والثقافية، كما عمل في سياسته ـ كأسلافه ـ على العدل في الحكم، وتميز عهده بنهضة علمية وفكرية حيث عاش في دولته العلماء والأدباء وأقبلوا على دولته من كل البلاد الإسلامية وأصبحت الحلة حاضرة من أعظم الحواضر الإسلامية.
تمصير الحلة
استغل الأمير صدقة انشغال السلاجقة بالانشقاقات والتناحر فيما بينهم في عهد السلطان بركيارق بن ملكشاه السلجوقي، وفي خلافة المستظهر بالله العباسي، ومصّر الحلة واتخذها عاصمة لدولته سنة (495هـ)، فازدهرت ازدهاراً عظيماً وقصدها العلماء والتجار من البلاد المختلفة، قال ياقوت الحموي في (معجم البلدان) عن الحلة:
( كان أول من عمرها ونزلها سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي، وكانت منازل آبائه الدور من النيل، فلما قوي أمره واشتد إزره وكثرت أمواله لانشغال الملوك السلجوقية: بركيارق ومحمد وسنجر أولاد ملك شاه بن ألب أرسلان بما تواتر بينهم من الحروب، انتقل إلى الجامعين موضع في غرب الفرات ليبعد عن الطالب، وذلك في المحرم سنة (٤٩٥هـ) وكانت أجمة قصب تأوي إليها السباع، فنزل بها بأهله وعساكره وبنى بها المساكن الجليلة والدور الفاخرة، وتأنق أصحابه بمثل ذلك وصارت ملجأ، وقد قصدها التجار وصارت أفخر بلاد العراق وأحسنها مدة حياة سيف الدولة، فلما قتل بقيت على عمارتها، فهي اليوم قصبة تلك الكورة، وللشعراء فيها أشعار كثيرة.....)
الصدام مع السلاجقة
وكان السلاجقة يعيثون في الأرض فساداً ودماراً، وكثرت غزواتهم على المدن الآمنة وانهمكوا بالسلب والنهب، ومارسوا أبشع الجرائم بحق المسلمين الشيعة، وقسموا العراق إلى إقطاعات بين قوّادهم ومحسوبيهم من الأتراك، وعاش الناس في بلاء لم يشهدوا مثله، فرأى الأمير صدقة أن يطهّر البلاد العراقية من هؤلاء الظلمة الجائرين ويحق الحق وينشر العدل، فعزم على قتالهم فخاض حربا مع (ينال بن أنوشتكين) وانتصر عليه ودخل بغداد، واتّسع نفوذه ليشمل أيضاً: واسط وهيت وتكريت والكوفة والبطيحة والبصرة.
واستمرت الحروب بين الدولتين بعد أن رفض الأمير صدقة تسليم جماعة لجأوا إليه فراراً من السلاجقة وفي هذه الحروب انتهت حياة صدقة سنة (٥٠١هـ) قتلاً في حربه مع السلاجقة وأسر ولده دبيس الثاني وأسرته في عهد السلطان محمد السلجوقي، وبعد وفاة هذا السلطان جاء بعده ابنه محمود السلجوقي الذي أطلق دبيساً بن صدقة من الأسر وأعاده إلى الحلة سنة (٥١٢هـ) فأنشأ الدولة من جديد.
5 ـ دبيس بن صدقة (أبو الأغر نور الدولة)
سار هذا الأمير على خطى أبيه في الاهتمام بالعلم وتشييد المدارس العلمية، كما اهتم بتوسيع الدولة والاهتمام بالجيش قال عنه الحنبلي في شذرات الذهب: (دخل خراسان والشام والجزيرة).
وقال عنه ابن خلكان (ملك العرب صاحب الحلة المزيدية, كان جواداً كريماً عنده معرفة بالأدب والشعر وتمكن في خلافة المسترشد العباسي واستولى على كثير من بلاد العراق ...وهو الذي عناه الحريري في المقامة التاسعة والثلاثين بقوله :أو الأسدي دبيس لأنه كان معاصراً له فرأم التقرب إليه في مقاماته ولجلالة قدره، وله نظم حسن. . .)
أعاد دبيس للدولة المزيدية أمجادها فأصبحت في عهده يحسب لها ألف حساب، فقد بسط دبيس نفوذه على البلاد والتفتت حوله القبائل العربية والكردية، ولم تكن الدولة العباسية كفؤاً للمزيدية، فحينما استهان الخليفة المسترشد العباسي وأغضب دبيساً جمع دبيس جيوشه ودخل بغداد وضرب سرادقه بإزاء دار الخلافة وهدد المسترشد، فاسترضاه المسترشد فرجع إلى الحلة.
كما خاض حرباً ضد السلاجقة واستطاع هزيمتهم عند نهر بشير شرقي الفرات سنة (516هـ). قال عنه ابن الطقطقي في الآداب السلطانية: (كان صاحب الدار والجار والحمى والذمار، وكانت أيامه أعياداً، وكانت الحلة في زمانه محط الرحال وملجأ بني الآمال ومأوى الطريد ومعتصم الخائف الشريد. .).
وكان حافظاً للذمار ومن مواقفه أنه رفض تسليم شقيق الخليفة العباسي المسترشد الذي استجار به لائذاً بالحلة سنة (529هـ) معيداً بذلك تاريخ أبيه واستمرت المعارك الطويلة بينه وبين المسترشد العباسي من جهة وبين السلاجقة من جهة أخرى، وفيها اضطر دبيس للجلاء عن الحلة، ثم عاد إليها وتكرر الجلاء والعودة. إلى أن دعاه إليه السلطان مسعود السلجوقي فغدر به وقتله سنة (529هـ) مع المسترشد العباسي في تبريز فتولى إمارة الحلة بعده ابنه صدقة الثاني بن دبيس.
6 ـ صدقة الثاني بن دبيس:-
تولى إمارة الحلة وله من العمر (14) عاماً وذلك حينما قتل أبوه في تبريز فأعاد تهيئة شؤون الدولة وأعد جيشاً منظّماً أثار قلق السلاجقة فاضطر السلطان مسعود السلجوقي أن يزوّجه ابنته ليضمه إلى جانبه بعد أن أصابت الدولة السلجوقية الانشقاقات والتصدعات، واستمر صدقة بالحكم حتى سقط صريعاً في سنة (532هـ) على يد السلطان داوود السلجوقي أحد منافسي السلطان مسعود السلجوقي على الحكم فتولى بهد الحكم أخوه محمد بن دبيس
7 ـ محمد بن دبيس
نصبه السلطان مسعود بعد أخيه صدقة, ولم يعكر صفو الحياة في عهده شيء يذكر سوى انتزاع الملك منه من قبل أخيه علي بن دبيس سنة (540هـ).
8 ـ علي بن دبيس
آخر أمراء الدولة المزيدية (540هـ /545هـ) كان رجلاً شجاعاً طموحا، جمع رجال الدولة من أهل بيته وأتباعه وأصحاب أبيه وضمهم وأعاد تشكيل الجيش، واستطاع أن يهزم جيوش السلطان مسعود ومحمود السلجوقيين أكثر من مرة. ومن مواقفه الغيورة على الدين والمذهب أنه أسقط اسم الحاكم العباسي من الخطبة عندما هاجم بعض السنّة مزار الإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد (عليهما السلام) وعاثوا به.
والغريب أن تجد من المؤرخين من ينكر عليه هذا العمل مثل ابن كثير الذي نعته بالرافضي في (البداية والنهاية) ونحن لا نستغرب من (ابن كثير) فقد عرف بآرائه الشاذة وأقواله المخزية !!
غدر السلاجقة ونهاية المزيديين
وبقيت الحرب مستعرة بين علي بن دبيس والسلاجقة حتى توفي علي في ظروف غامضة في سنة (545هـ) قال ابن الأثير: (إنه مات مسموماً في أسد آباد) ولا يخفى على القارئ معرفة من قتله فقد غدر السلاجقة بجده دبيس وهم لا يتورعون عن ممارسة شتى الأساليب الدنيئة في تحقيق مطامعهم وتصفية خصومهم.
ورغم موت علي بن دبيس استمر حكم بني مزيد الأسديين في الحلة حتى سنة (558هـ/ 1163م)، حتى استولى الخليفة العباسي المستنجد بالله على الحلة بدعم من قبيلة بني المنتفق فأمر (يزدن بن قماج) بقتالهم وإجلائهم عن البلاد فقتل أربعة آلاف أسدي في الحلة فنزح على إثر ذلك الكثير منهم بعد ذلك جنوباً واستقروا أخيراً في منطقة الجزائر (عند الأهوار).
لقد انتهت دولة المزيديين ولكنها تركت آثاراً في التاريخ الإسلامي يقول المؤرخ شاكر مصطفى: (ما من شك في أن بني مزيد قد برهنوا رغم بداوتهم على براعة سياسية ناجحة في تدبير أمورهم في ذلك العهد المضطرب وفي علاقاتهم القلقة مع جميع الأطراف وكانوا في كل مرة يعودون لاستلام إمارتهم في الحلة)
اضف تعليق