لم تشهد طرابلس منذ تأسيسها على يد الفينيقيين حضارة شُيّدت على أسس متينة من العلوم والمعارف كما شهدته في عهد دولة بني عمار الشيعية، ورغم أن ذلك ليس بغريب على دول الشيعة التي أرست أعمدة الحضارة الإسلامية عبر تاريخها الطويل والتي جعلت نصب أعينها منذ تأسيسها الاهتمام بالعلم وإقامة الدور والمراكز الثقافية، وكان رجال الشيعة في طليعة كل علم وأرباب كل فن، إلا أن دولة بني عمار فاقت كل التصورات في هذا الجانب فقد كانت دولتهم عبارة عن دار للعلم كما وصفها المؤرخون حتى ليخيل لدارسي تلك الفترة أن هذه الدولة لم تهتم بأي جانب أو شأن من شؤون الدولة سوى العلم مع أن تأريخها يعد إضافة إلى موقعه العلمي الذهبي رمزاً خالداً للمسلمين في الدفاع عن البلاد الإسلامية ضد هجمات الصليبيين كما يعد من أرقى فترات نموها الاقتصادي والاجتماعي.
إن المشاريع العلمية والإنمائية التي أقيمت في عهد دولة بني عمار قياساً بعمر هذه الدولة الذي لم يتجاوز الأربعين عاماً والتي تخلّلتها حروبهم مع الصليبيين تعد إنجازاً عظيماً لا يمكن أن يتم إلا في دول عظيمة وبفترة أطول بكثير من عمر دولة بني عمار، فرغم أن الصليبيين سعوا إلى إزالة كل معالم هذه الدولة بعد استيلائهم على طرابلس ومحو كل أثر لها إلا أن بعض آثار هذه الدولة لا تزال باقية وشاهدة على جهودهم في سبيل الارتقاء بهذه المدينة حتى أصبحت على أيديهم أعظم مدينة على ساحل البحر المتوسط، ومن مشاريعهم التي لا تزال شاخصة إلى الآن (نهر قاديشا) الذي يؤمّن للمدينة ريّاً منظّماً وقد نظمه أبو علي بن عمار ومنع فيضانه وأمّن الأقنية منه للري ويعرف هذا النهر الآن بنهر (أبو علي) ومن الصناعات التي اشتهرت طرابلس بها في ذلك الوقت هو صناعة الورق التي راجت لكثرة النسخ.
أما الحديث عن الجانب العلمي في دولة بني عمار فهو حديث شيق لا يُملّ حيث لا تفارق القارئ حالة الانبهار والإعجاب بتلك الدولة ومحبة حكامها للعلم الذي يصل إلى حد التولّع، يقول الدكتور مصطفى جواد: (كما كانت حلب في عهد سيف الدولة الحمداني مركزاً للشعر والأدب والعلم كذلك كانت طرابلس في عهد الحسن بن عمار وقد ازدهرت المدينة في عهده فأصبحت مركزاً للحياة الفكرية في بلاد الشام وأنشأ مدرسة كبيرة ومكتبة، ومن هذه المكتبة انتشر العلم في أنحاء المدينة حتى قال المؤرخون: (إن طرابلس جميعها دار علم) وكان في هذه المكتبة مائة وثمانون رجلا لا عمل لهم إلا نسخ الكتب يتناولون مقابل صناعتهم مرتبات ولها أناس مخصصون للبحث عن الكتب وشرائها لجمعها في هذه المكتبة والفضل الأعظم بل الفضل الأول في هذا لأبي طالب الحسن بن عمار(.
وقد سعى بنوا عمار لاستقطاب العلماء من البلاد الإسلامية إلى طرابلس وأجزلوا لهم العطاء ووفروا لهم كل ما يحتاجونه لكي يتفرّغوا للتدريس ونشر العلم فقط ومن أبرز العلماء الكبار الذين وفدوا إلى طرابلس أبو الفتح الكراجكي صاحب كتاب (كنز الفوائد) وقد ألف في طرابلس كتابه (عدة البصير في حج يوم الغدير) وأهداه لأبي الكتائب عمار القاضي والكراجكي هو استاذ ابن بابويه القمي، ومن علماء الشيعة الكبار أيضاً في دولة بني عمار أبو عبد الله أحمد بن محمد الطليطلي، والقاضي عبد العزيز ابن نحرير المعروف بـ (ابن البراج) وخيثمة بن سليمان القرشي الطرابلسي وابن أبي الخناجر الطرابلسي والحسين بن بشر الطرابلسي وأبي الفضل أسعد بن أحمد بن أبي روح وكان لكل من هؤلاء حلقات علمية تعقد للتدريس وقد تولى ثلاثة من هؤلاء العلماء الأعلام النظر على دار العلم وهم الحسين بن بشر الطرابلسي ثم أسعد بن أبي روح وأخيرا أحمد بن محمد الطليطلي أما أبرز من زار دار العلم في طرابلس من الأعلام فقد زارها الفيلسوف أبو العلاء المعري والخوارزمي وأبو علي الفارسي وغيرهم الذين وجدوا في دار العلم في طرابلس ما لم يجدوه في باقي البلاد في هذه المكتبة التي وصفها (ستيفن رنسيمان) في (تاريخ الحروب ج2ص113) بأنها: (أروع مكتبة في العالم).
وقد اختلفت أقوال المؤرخين حول عدد الكتب التي تحتويها مكتبة طرابلس وتباينت الأرقام ما بين مكثرٍ ومقل لكن تلك الأقوال اجتمعت على سعة تلك المكتبة وعظمتها فمنهم من ابتعد عن التحديد واقترب من الوصف مثل ابن القلانسي في (المذيل في تاريخ دمشق) وابن الأثير في (تاريخه) الذين قالا عند ذكر هذه المكتبة وما تحتويه خزائنها من الكتب: (ما لا يحد عدده ولا يحصى فيذكر).
أما أشهر الأقوال في عدد الكتب فهو ما ذكره الأب أغناطيوس الخوري عن رواية ابن أبي طيء التي يقول فيها: (إن عدد الكتب بلغ (3،000،000) ثلاثة ملايين كتاب، ويذكر الأستاذ محمد كرد علي نفس العدد في رواية عن المؤرخ ابن الفرات المصري، وقد اتفقت الكثير من أقوال المؤرخين والباحثين والمستشرقين على هذا العدد منهم: (آرنولد وغروهمان وغيبون) ولم يخالج المستشرق الفرنسي (كاتريمر) أدنى شك في هذا العدد من الكتب في مكتبة طرابلس كما نقل عنه فيليب دي طرازي وأحمد زكي وقال شوشتري في كتابه (مختصر الثقافة الإسلامية): (إن مكتبة طرابلس كانت تحتوي أكبر عدد من الكتب عرف أن مكتبة ما حوته حتى ذلك الزمن، ألا وهو ثلاثة ملايين وهذا الرقم يعني أنه كان بها ثلاثة أرباع ما تحويه مكتبة (بودليان) الآن أو أكثر من نصف ما تحويه جميع مكتبات الهند وباكستان في العصر الحاضر).
وقد أجرى الأستاذ (عمر عبد السلام تدمري) إحصائية لأعداد الكتب الموجودة في مكتبات العالم الإسلامي في ذلك الوقت ومقارنة مكتبة طرابلس مع هذه المكتبات المشهورة فكانت النتيجة:
1ـ مكتبة سابور في بغداد عدد مجلداتها: (10،400) مجلد
2ـ مكتبة الحكم في قرطبة عدد مجلداتها: (600،000) مجلد
3ـ خزائن القصور بالقاهرة عدد مجلداتها: (1،600،000) مجلد
4ـ دار الحكمة بالقاهرة عدد مجلداتها: (100،000) مجلد
5ـ مكتبة مراغة عدد مجلداتها: (400،000) مجلد
6ـ مكتبة طرابلس عدد مجلداتها: (3،000،000) مجلد
ثم يقول: (ومن مطالعتنا لهذه الإحصائية يتضح لنا إن عدد مجلدات الكتب في مكتبة طرابلس كان يفوق عدد جميع الكتب في المكتبات المذكورة مجتمعة).
ثم يقول تدمري عن هذه المقارنة التي أجراها إنها اقتصرت على المكتبات الإسلامية فقط إذ لم تكن هناك مكتبات غيرها لها حجمها في العالم في ذلك الوقت وخاصة في أوربا التي كانت أغنى مكتبة فيها تضم (5000) كتاب فقط وهي مكتبة كنيسة (كنتربري) كما لم يستطع ملك دولة عظمى وهو (شارل الخامس) ملك فرنسا وقتها والذي كان يلقب بـ (الحكيم) من أن يجمع أكثر من ألف مؤلف.
ويعلق تدمري على هذه المقارنة المتفاوتة بقوله: (إن مدينة كان عدد سكانها لا يتجاوز (50،000) خمسين ألف نسمة على أبعد تقدير أثناء حكم بني عمار تحتوي على ثلاثة ملايين كتاب لهي مفخرة حقا لطرابلس العربية الإسلامية الشيعية على مر تاريخها).
وبلغ من اعتناء بني عمار بدار العلم وتوسيعها إلى الحد الذي أطلقت هذه التسمية على المدينة برمّتها فقد أطلق اسم (دار العلم) على مدينة طرابلس من المؤرخين (ابن فضل الله العمري) أحمد بن يحيى (700ـ749هـ/1301ـ1349م) في (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) و(ابن الشحنة) أبو الوليد محب الين محمد بن محمد وقالا إنها سميت قديماً بذلك كما أشار الشاعر شهاب الدين محمود إلى هذه التسمية في قصائده ومنها هذين البيتين من قصيدة طويلة:
وهي أيضاً بـ (دار علم) تسمى *** إنما ليس كالجبالِ الأكامُ
بلدة سالمت حماها الليالي *** وسهت عن ربوعها الأيامُ
وقد أنشأ بنوا عمار هذه المكتبة منذ تأسيسهم لدولتهم حيث أنشأها أمين الدولة أبو طالب الحسن بن عمار أول ملوكهم وجددها بعده ابن أخيه جلال الملك أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن عمار والذي تولى بعده، ويذكر كمال الدين ابن العديم في كتابه: (الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري ص557) عن تجديد المكتبة وبعض ما احتوته من كتب المعري فيقول: (ووقف ابن عمار بها من تصانيف أبي العلاء كتاب (الصاهل والشاحج) ومقداره (40) كراسة و(السجع السلطاني) ومقداره (80) كراسة و(الفصول والغايات) ومقداره (100) كراسة) و(السادن) ومقداره (20) كراسة و(إقليد الغايات) ومقداره (10) كراريس و(رسالة الإغريض) وهو بعض من ديوان الرسائل لأبي العلاء المعري.
وقد حرص أمين الدولة خلال فترة حكمه التي لم تدم أكثر من سنتين على اقتناء الكتب النادرة فكان يبعث من يشتريها من سائر الأقطار بأثمان باهظة وإيداعها في المكتبة كما كان يحث العلماء على التأليف ويستقطب طلاب العلم إلى مدينته حتى أصبحت طرابلس عبارة عن جامعة علمية كبيرة تدرس فيها مختلف العلوم فكانت في عهد جلال الملك الذي جاء بعده تبعث الحكام والقضاة والخطباء والعلماء إلى البلاد التابعة لها مثل جبيل وعرقة وأنطرطوس وجبلة كما تم في عهده بناء جامع كبير في طرابلس.
وذكر المؤرخون في وصف مكتبة طرابلس إنها احتوت على جميع أنواع وفروع المعرفة الإنسانية من طب وفلك وتنجيم وهندسة وفلسفة وأدب وتاريخ وحديث وفقه وشعر كما احتوت على خمسين ألف نسخة من المصاحف الشريفة وقال محمد سليم الجندي في كتابه (الجامع في أخبار أبي العلاء وآثاره) إن التفاسير التي ضمتها المكتبة بلغت ثمانين ألف تفسير.
وقد أرصد بنوا عمار لهذه المكتبة مبالغ كبيرة تصرف على العاملين عليها من المترجمين والمجلدين والوراقين والنساخين الذي يبلغ عددهم (180) ناسخاً والتجار الذين كانوا يبحثون عن الكتب النادرة في مختلف البلاد ومن الكتب النادرة التي كانت تضمها المكتبة إضافة إلى كتب أبي العلاء المعري التي ذكرها ابن العديم كتاب (النحو) لسيبويه و(الإيضاح) لأبي علي الفارسي و(اللمع) لابن نصر السراج و(الجمل) لابن خالويه و(عيون الأدلة في معرفة الله) و(التبصرة في معرفة المذهبين الشافعية والإمامية) و(البيان في خلاف الإمامية والنعمان) و(المقتبس في الخلاف مع مالك بن أنس) و(النور في عبادة الأيام والشهور) و(البيان في حقيقة الإنسان) و(الفرائض) و(البراهين) وكتب أخرى من تأليف أبي الفضل أسعد بن أحمد بن أبي روح الذي كان متولياً لمكتبة طرابلس كما ضمت المكتبة كتب ابن البراج ومنها كتاب (روضة النفس) ومن الكتب أيضاً التي ضمتها المكتبة والتي تشتت عناوينها في بطون التواريخ: (عدة البصير) للكراجكي و(المسائل الطرابلسية) لإبراهيم بن الحسن الأباني الطرابلسي و(التصريح) لابن بركات الراشدي إضافة إلى عدد كبير من الدواوين كما احتوت المكتبة على الكثير من الكتب المترجمة عن اليونانية والرومانية والفارسية فقد عرف ذلك العصر بعصر الترجمة في البلاد الإسلامية وكان لطرابلس اليد الطولى في هذا المجال.
أن مما يؤلم بعد الحديث عن هذه المكتبة العظيمة وما ضمته من نفائس الكتب ودرر العلم وهذه الحركة العلمية التي شهدتها طرابلس في أروع دور حضاري لها عبر تاريخها هو الحديث عما آلت إليه هذه المكتبة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا ولنترك الحديث عن مصير هذه المكتبة لما جاء في كتاب (المكتبات في الإسلام ص134) نقلا عن كتاب (المكتبات العربية في العصر العباسي) ما نصه:
في سنة (502هـ/1109م) دخل الصليبيون مدينة طرابلس بعد أن قاوم بنوا عمار حصارهم عشر سنوات متتالية وقد اندفع الجنوبيون في شوارع المدينة يقتلون وينهبون ويحرقون وعندما وصلوا إلى دار العلم دخلها الكاهن المنقطع لخدمة الكونت (برترام بن ريموند الصنجلي) وأخذ يطوف في أرجائها فوجدها ملأى بالكتب ويبدو أنه دخل القاعة المخصصة للمصاحف الشريفة فأراد أن يتصفح أحدها فوجده قرآنا كريما فألقى به أرضا وتناول نسخة ثانية فإذا بها قرآن كريم أيضا فألقى به وهكذا كلما التقط نسخة وجدها قرآناً كريماً وظل يفعل الشيء نفسه حوالي عشرين مرة فلما وجد أن جميع النسخ التي تصفحها كانت قرآناً كريماً اعتقد بجهله أن المكتبة كلها لا تضم سوى المصاحف الشريفة أو التفاسير ولذلك غضب وتأججت في نفسه الروح الصليبية وحقدها وقال غاضبا: (هذه مكتبة مملوءة بالمصاحف، أحرقوها) فنزل الكونت برترام عند رغبته وهكذا نفذ أمر ذلك الكاهن المتعصب الجاهل وأميره الصليبي وأشعلت النيران في دار العلم التي أتت على جميع ما احتوته هذه المكتبة الثمينة حتى أصبحت أثرا بعد عين).
ويقول سيد أمير علي في (مختصر تاريخ العرب ص288): (لم يقتصر الإحتراق في طرابلس على المكتبة بل تعداه إلى مدرسة الحكمة ومصنع الورق أيضاً).
ويصف (ابن القلانسي) ما جرى على طرابلس وأهلها من قبل الصليبيين فيقول: (إنهم ملكوها بالسيف ونهبوا ما فيها وأسروا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها وحصل في أيديهم من أمتعنها وذخائرها ودفاتر علمها وما كان منها في خزائن أربابها ما لا يحد عدده ولا يحصى فيذكر).
وقال السلامي: (إن مدينة طرابلس كانت مملوءة حينذاك بالعلماء من المسلمين ففني منهم خلق كثير بعد أن فشا الجوع فيها والضائقة والقتل)، وهكذا كانت نهاية هذه الحاضرة الإسلامية الشيعية المشرقة بعد أن تركت في تاريخ طرابلس سجلاً حافلاً بالإنجازات العظيمة ولو قدّر لها أن تبقى لكان لها شأناً آخر.
اضف تعليق