لا غرابة أن تجد بيننا اليوم من يسعى إلى سفك دم الإنسان لأبسط الأمور وأكثرها تفاهة، لأن ما قام به الأقدمون تحول إلى مقدس، وأصبح منهجا للخلف يتبعونه على أنه من تراث السلف، وهم يدركون أن سلفهم ذاك اكثر منهم ضلالا وجهلا، لأنه قبلهم انحرف...
إن الحديث عن الفتوحات الأموية في النصف الثاني من القرن الهجري الأول، يبين أن الدموية المفرطة كانت منهجا عاما في أغلب الأحيان، وان أخلاق الحرب الإسلامية تم التخلي عنها كليا، ولم تعد للهارب ولا للأسير حرمة في حساباتهم، ففي سنة تسعين للهجرة، تم فتح بخارا على يد قتيبة بن مسلم الباهلي، فقال لجيشه بعد أن انهزم العدو من أمامهم: "من جاء برأس فله مائة"(1). وفيها فتحت الطالقان، افتتحها قتيبة أيضا، فقتل من أهلها مقتلة عظيمة، وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في نظام واحد(2).
وفي سنة اثنين وتسعين غزا مسيلمة بن عبد الملك أرض الروم، وغزا طارق بن زياد الأندلس، وغزا قتيبة بن مسلم سجستان، وسالت دماء المسلمين وأعداؤهم في كل هذه الوقعات.
وفي سنة ثلاث وتسعين بعث قتيبة أخاه مالك إلى ملك خام جرد، فقاتله فقتله وقدم منهم على قتيبة بأربعة آلاف أسير، فقتلهم بشكل فيه الكثير من الإفراط، إذ أمر بسريره، فأخرج، وبرز للناس، وأمر بقتل الأسرى، فقتل بين يديه ألف، وعن يمينه ألف، وعن يساره ألف، وخلف ظهره ألف(3).
وفي سنة أربع وتسعين، غزا العباس بن الوليد ارض الروم، وفتح أنطاكية، وفي هذه السنة غزا قتيبة الشاش وفرغانة، ففتحوها، واحرقوا أكثرها(4).
وفي سنة ست وتسعين، غزا بشر بن الوليد الشاتية. وفيها فتح قتيبة كاشغر فسبى منها سبيا فختم أعناقهم (5)، وغزا الصين، وقاتلهم، فدفعوا له فدية عظيمة.
وفي سنة سبع وتسعين، جهز سليمان الجيوش لغزو القسطنطينية، وعين يزيد بن المهلب واليا على خراسان(6)، وفي عام خمس ومائة غزا مسلم بن سعيد الترك من جديد فلم يفتح شيئا(7).
في كل هذه السنين كان البشر من المسلمين وأعدائهم يدفعون ضريبة الدم سوية لمجرد أن يتلذذ القائد بدمويته، وينعم السلطان بما تأتي به الحروب من أموال وعطور وغلمان حسان وإماء وقيان، وكان الذبح في هذه المعارك بلا عدد، حيث تتكرر جملة: "وقتلنا منهم" أو "وقتل الله منهم" تتبعها جملة "عددا كثيرا" مع كل سرد لواحدة من قصص تلك الغزوات. وبين هذه وتلك وقعت عشرات المعارك والحروب وحالات النهب والسلب في كل الأنحاء.
وقبل هذه التواريخ هناك تواريخ الدم الحجاجي، فالحجاج بن يوسف الثقفي والي الأمويين على العراقين (الكوفة والبصرة) لوحده كان أمة من الطيش والرعونة والبطش وسفك الدم، إذ قام سنة سبع وسبعين بإخراج خمسين ألف من مقاتلة الكوفة بإمرة عتاب بن ورقاء لمقاتلة شبيب الخارجي، ولما التقوا به، أوقع فيهم القتل فانهزم من بقي منهم(8).
وفي سنة ثمان وسبعين، في غزوتهم ارض الروم، أصابهم مطر عظيم وثلج، فأصيب بسببه ناس كثير(9).
وفي سنة تسع وسبعين غزا عبيد الله بن أبي بكرة بأمر من الحجاج رتبيل ملك الترك(10)، وكان الحجاج قد أوصاه أن يستبيح أرض رتبيل، ويهد قلاعه، ويقتل مقاتلتهم، فخرج في جمع من أهل الكوفة والبصرة يقدر عددهم بأكثر من خمسين ألفا، وحاصرهم الترك قرب مدينتهم العظمى، حتى فنى أكثر المسلمين، ثم خرج من خرج من الناس صحبة عبيد الله من ارض رتبيل؛ وهم قليل.. وقيل: إنه قتل من المسلمين (أهل الكوفة والبصرة) في تلك المعركة ثلاثين ألفا، ومات بسبب الجوع منهم خلق كثير أيضا.. وقد قتل المسلمون من الترك خلقا كثيرا أيضا، قتلوا أضعافهم(11).
وكان الحجاج قد حارب رتبيل في سنة ثمانين حربا كادت تودي بنظام الحكم، قال ابن كثير: "وفي هذه السنة جهز الحجاج الجيوش من البصرة والكوفة لقتال رتبيل ملك الترك... فجهز أربعين ألفا، من كل من المصرين عشرين ألفا، وأمر على الجميع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث"(12). فتصالح ابن الأشعث مع رتبيل وزحف على الكوفة، ودارت حرب استمرت ثلاث سنوات، قتل فيها بحدود مائتي ألف مسلم من الطرفين المسلمين المتحاربين.
تدلل هذه الأرقام ان القيادات الحاكمة وقيادات الجيوش لم تكن ترقب حرمة سفك الدماء ولا تتحرج من سفك الدم البريء، وإنها كانت تتلذذ برؤية الدم، وتتفنن بطرق القتل، وكانوا ينزعجون إذا ما صمدت مدينة ما بوجههم، فيصبون جام غضبهم على أهلها من النساء والأطفال والشيوخ، وعلى مبانيها الحكومية والسكنية، وعلى بساتينها ومزارعها، وعلى طرقها ومصادر مائها. روى الطبري أن صمود سمرقند، أزعج قتيبة بن مسلم الباهلي، فوقف في الرواق محتبيا بشملة؛ وهو يقول كالمناجي لنفسه: "حتى متى ياسمرقند يعشش فيك الشيطان؟ أما والله لئن أصبحت لأحاولن من اهلك أقصى غاية"، قال سليم ناقل الخبر: فانصرفت إلى أصحابي، فقلت: كم من نفس أبية ستموت غدا منا ومنهم! فأخبرتهم الخبر(13).
فما كانت تدره الفتوح من خير لم يكن بالأمر الهين، والتنافس بين القادة كان على أشده، حيث كانت طاحونة الحرب تدور في جميع الأنحاء، وكافة الاتجاهات، روى ابن قتيبة: أن علي بن رباح نقل خبر فتح الأندلس إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك، فخر الوليد ساجدا، فلما رفع رأسه أتاه فتح آخر، فخر أيضا ساجدا، ثم رفع رأسه، فأتاه آخر بفتح آخر، وخر ساجدا، فقال علي بن رباح: حتى ظننت انه لا يرفع رأسه(14).
وفي الوقت الذي أمر فيه الإسلام ورسوله (صلى الله عليه وأله وسلم) بالحفاظ على سلامة الأسير وإكرامه، وحث على معاملته بالحسنى، كان قتل الأسرى في زمن الفتوح الأموية جزء من المنظومة الدموية، ومن ذلك أنه بعد فشل ثورة عبد الرحمن بن الأشعث، أسر الجيش الأموي عددا كبيرا ممن اشتركوا فيها من القراء وغيرهم: "ولما قدمت الأسارى على الحجاج قتل أكثرهم وعفا عن بعضهم"(15)، وفي رواية أخرى: "فجعل يقتلهم مثنى وفرادى، حتى قيل: إنه قتل منهم بين يديه صبرا مائة ألف وثلاثين ألفا"(16).
ولذا لا غرابة أن تجد بيننا اليوم من يسعى إلى سفك دم الإنسان لأبسط الأمور وأكثرها تفاهة، لأن ما قام به الأقدمون تحول إلى مقدس، وأصبح منهجا للخلف يتبعونه على أنه من تراث السلف، وهم يدركون أن سلفهم ذاك اكثر منهم ضلالا وجهلا، لأنه قبلهم انحرف عن جادة الإسلام!.
اضف تعليق