أثر أدبي نفيس احتوى على قطع أدبية انصهرت فيها البلاغة بالنفس الصادق فعبر مؤلفه عن مدى عقيدته وتمسكه بأهل البيت (عليهم السلام) وهو يصف ما حل بآل الرسول وما جرى عليهم في كربلاء من المآسي بقتل سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) مع أهل بيته وأصحابه وسبي نسائه وترويع أطفاله.
دلت فصول الكتاب على مدى سعة المؤلف وثقافته فقد أحاط بأنواع العلوم من تفسير القرآن إلى معاني الحديث الشريف إلى الفقه والتاريخ والمنطق وغيرها من العلوم ضمنها في تسلسله لأحداث الطف.
كتاب (درر السمط في خبر السبط) للقاضي أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أحمد القضاعي الأندلسي البلنسي المعروف بـ (ابن الأبّار) (العلامة البليغ، الكاتب المنشىء، الحافظ المؤرخ، المقرئ المجود، الناظم الناثر، المؤلف البارع، المؤرخ الكبير) (1199 - 1260م/595هـ - 658هـ)، من أعلام الشيعة المولود في مدينة (بلنسية)، والمقتول ظلماً وعدواناً في تونس، وهذا الكتاب يعد من أهم آثار المؤلف الكثيرة التي شاء الله أن تبقى لنا كنزاً وإرثاً وله ذخراً وذخيرة.
المؤلف
نترك الحديث عن ابن الأبار القضاعي للصّفدي (صلاح الدين أبو الصَّفاء خليل بن أيبك بن عبد الله الألبَكِي الصَّفديّ الدِّمشقيّ (696 ــ 764هـ) والذي ترجم له في كتابه: (فوات الوفيات) فقال ما نصه:
(محمد بن عبد الله القضاعي البلنسي، الكاتب الأديب المعروف بابن الأبّار، ولد سنة خمس وتسعين وخمسمائة، عَنِي بالحديث والرجال في الاندلس، وكتب العالي والنازل، وكان بصيراً بالرجال، عالماً بالتاريخ، إماماً في العربية، فقيهاً متفنناً، أخبارياً فصيحاً، له يد في البلاغة والانشاء، كامل الرياسة، ذا رياسة وافية، وأبهة وتجمل وافر.
وله من المصنفات: (تكملة الصلة) لابن بشكوال، وكتاب (تحفة القادم) وكتاب (ايماض البرق).
قُتل مظلوماً بتونس على يد صاحبها لأنه تخيّل منه الخروج وشق العصا، وقيل: إن بعض اعدائه ذكره عند صاحب تونس إنه ألف تاريخاً، وأنه تكلم فيه في جماعة فلما طُلب وأحسَّ بالهلاك قال لغلامه: خُذ البغلة وامض بها حيث شئت فهي لك وكان ذلك في سنة ثمان وخمسين وستمائة).
إلى هنا انتهى كلام الصفدي الذي ربما راعى مشاعر القراء ولم يذكر الطريقة الشنيعة التي قتل بها، كما لم يذكر حرق كتبه فوق جثته، ويجد القارئ سيرة حياته مفصلة في المصادر كما يجد أسباب قتله التي كان أحدها أو بالأحرى أهمها تشيّعه.
درر السمط في أخبار السبط
شاء الله أن يبقى هذا الأثر الأدبي الكبير من آثار الشيعة في الأندلس لابن الأبّار بعد أن أحرقت كتبه على جثته ولم يبق منها سوى ستة كتب منها هذا الكتاب النادر الذي يعد آية في البلاغة النثرية، وقد نالته يد العناية ليضاف إلى الآثار الشيعية في عصور النهضة العلمية والأدبية التي عاشتها الأندلس في عهد دول الشيعة، كما يبقى شاهداً على تشيّع ابن الأبّار بأبهى صورة.
بقي هذا الكتاب النادر والأثر النفيس مطموراً في زوايا النسيان لقرون طويلة حتى قُيِّض له من يخرجه إلى النور، وتبدأ قصة التعريف بالكتاب والتنبيه عليه من خلال ما نقله المقري في نفح الطيب منه، يقول الأستاذ محمود عبد الجبار عاشور في كتابه (الرثاء الحسيني في الأندلس) (ص223): (وقد وُجِدَت فصول قصيرة من الكتاب طريقها للنور ضمن كتاب (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) للمقري نبّهت الباحثين لأهمية الكتاب وضرورة تحقيقه وقد نُشر الكتاب محققاً أكثر من مرة).
لكن المقري في نفح الطيب لم ينقل من هذا الكتاب سوى مقتطفات وفصول قصيرة كما يذكر الأستاذ عاشور لأسباب مذهبية، وكما ذكر المقري نفسه حيث قال في كتابه: (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) (ج2ص604) بعد أورد بعض الفصول من الكتاب:
(انتهى ما سنح لي ذكره من (درر السمط) وهو كتاب غاية في بابه ، ولم أورد منه غير ما ذكرته لان في الباقي ما تُشمُّ منه رائحة التشيّع، والله سبحانه يسامحه بمنه وكرمه ولطفه).
إذن فقد كانت مهمة المقري هي التعريف بالكتاب من خلال ما نقله من فصول قصيرة منه ولم ينقله إلينا كاملاً فكيف وصل ؟
مخطوطات الكتاب
يشير الأستاذ عاشور إلى وجود نسختين خطيتين من الكتاب نقلاً عن الأستاذ إبراهيم الأبياري في مقدمته لكتاب (المقتضب من تحفة القادم) لابن الأبار حيث يقول: (وقد وصلتنا من الكتاب نسختان الأولى: كاملة في المكتبة الأهلية بمدريد، والأخرى: ناقصة بمكتبة الأستاذ عبد الله كنون).
ويشير الدكتور صالح الأشتر في مقدمته لكتاب (أعتاب الكتاب) لابن الأبار إلى وجود نسخة خطية من كتاب (درر السمط) تعود إلى القرن الثاني عشر الهجري، وقد حققها الأستاذ عامر غديرة وترجمها إلى الفرنسية وأعدها للطبع وقدّمها لنيل دبلوم الدراسات العليا في باريس.
كما يشير السيد جواد شبر في موسوعته (أدب الطف) (ج4ص71) إلى وجود نسخ خطية أخرى للكتاب فيقول (وقد بقي لهذا الكتاب ونزعته الشيعية صدى انتقل إلى المغرب وظل بها زمناً طويلاً فبعد ثلاثة قرون من تأليفه نعثر على شرح له لأحد المغاربة هو الفقيه الأديب سعيد الماغومي الملقب بوجمعة المولود سنة (٩٥٠هـ) ويعتبر هذا الشرح اليوم من المفقودات. غير أن ابن القاضي يخبرنا في كتابه درة الحجال انه كان موجوداً في خزانة المنصور السعدي بمدينة مراكش. وتظهر عناية ملوك المغرب بمثل هذه التأليف فيما قيل من أن شارح هذا الكتاب أخذ مكافأة على تأليفه وزنه ذهباً).
وبعد اكتشاف هذه النسخ الخطية من الكتاب طبع مراراً فطُبع في سلسلة كتب نادرة بتحقيق الدكتور عبد السلام الهراس وسعيد أحمد أعراب عام (1972) بـ (59) صفحة، وطبع بتحقيق الدكتور عز الدين عمر موسى ضمن إصدارات دار المغرب الإسلامي في بيروت عام (1987).
ولكن الدراسات الأندلسية لم تتوقف عند هذا الأثر الحسيني الأندلسي لابن الأبار، إذ أشارت إلى كتاب آخر له من ضمن كتبه التي أربت على الخمسين كتاباً، ولكن هذا الكتاب الآخر لم يعثر عليه.
معدن اللجين في مراثي الحسين
هذا هو عنوان الكتاب الثاني لابن الأبار في سيد الشهداء (عليه السلام) وهو من الكتب المفقودة التي لا يُعرف هل كان من ضمن ما حُرق منها على جثته أم هو مركون في أحدى المكتبات مع المخطوطات التي لم تنلها يد العناية والاهتمام ؟
ويظهر من خلال وصف هذا الكتاب بأنه من أهم كتب ابن الأبار فقد وصفه الغبريني في (الدراية) بما نصه: (لو لم يكن له من التأليف إلا الكتاب المسمى بكتاب اللجين في مراثي الحسين لكفاه في ارتفاع درجته، وعلو منصبه، وسمو رتبته، فكيف لا وله تصانيف وجملة تآليف).
ويظهر من خلال إشارة ابن الأبار إلى هذا الكتاب في كتابه التكملة للصلة إنه من أوائل مؤلفاته وكان في مقتبل العمر فقد أخرج كتابه التكملة عام (631هـ) وفيه يقول عن معدن اللجين في ترجمة أستاذه محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي زاهر البلنسي: (كان معلمي ... وسمعت منه وأجاز لي وسمع مني كتاب (معدن اللجين في مراثي الحسين).
ويظهر جنس الكتاب من خلال قوله: (إنه من تأليفي) إنه نثر يجري فيه مجرى درر السمط ولو كان شعراً لقال من نظمي كما هو معروف وهو نمط أدبي مبتكر في الرثاء الحسيني الأندلسي تعود ريادته لابن الأبار وقد أولاه الغبريني أهمية كبرى واعتنى به عناية خاصة وأشاد به كثيراً.
التنويه بالكتابين
نوّه الأستاذ الدكتور عبد اللطيف السعداني المغربي في محاضرته (حركات التشيّع في المغرب ومظاهره) والتي نشرتها مجلة الهادي الصادرة في إيران باللغة العربية في عددها الثاني (1391هـ) إلى هذا الكتاب حيث قال:
(ونتلمس هذه الحركة فيما بعد عصر مبدع هذه القصيدة الحسينية فنعثر على أثر آخر للفكر الشيعي، حيث نلتقي بأحد أدباء الأندلس في النصف الأول من القرن السابع الهجري هو القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله القضاعي البلنسي (المقتول في ٢٠ محرم سنة ٦٥٨هـ) ونقف على اسم كتابين من مؤلفاته العديدة موضوعهما هو رثاء سيدنا الحسين.
أولهما: (اللجين في رثاء الحسين) ولا يعرف اليوم أثر لهذا الكتاب غير اسمه، وثانيهما: (درر السمط في أخبار السبط) نقل المقري عنه فقرات في كتابه (نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب).وقد اعترف المقري بأنه أغفل نقل بعض الفقرات من الكتاب مما (يشمّ منه رائحة التشيع) ثم إنه اكتفى بنقل جزء من الباقي فقط).
إلى هنا انتهى كلام السعداني المغربي الذي نقله السيد جواد شبر في (أدب الطف) (ج4ص70) وعلق عليه بقوله: (ونضيف هذا القول الواضح والشهادة الصريحة إلى ما أشرنا إليه سابقاً عن علّة سكوت كتب التاريخ وغيرهما من الإشارة إلى آثار التشيع في المغرب والأندلس. ولم يحل عمل المقري مع ذلك من إعطائه حكماً موضوعياً عن هذا الكتاب فقط: (وهو كتاب غاية في بابه) وقد اكتشف هذا الكتاب برمته واستطعنا أن ندرك عن كثب أهميته البالغة في هذا الباب).
كما يصف السيد شبر هذا الكتاب بقوله: (ومهما أطلنا في التنويه بهذا الكتاب وأسلوبه الجميل وبيانه الرائع وتأثيره البالغ في سامعيه بوصفه لتلك الحوادث المؤلمة في تاريخ الإسلام فانه لا يكفي لبيان منزلته في الأدب الشيعي وهو على كل حال يقدم لنا الدليل القاطع على رواج حركة التشيع في الاندلس في هذا العصر).
ثم ينقل بعض فصول الكتاب معرّفاً به بقوله: (ولكي نأخذ فكرة واضحة عن ذلك أنقل بعض الفقرات من هذا الكتاب مما لا يبقى معه شك بتشيّع صاحبه).
التراث المنسي
وعن مؤلفاته الأخرى التي لم تطالها النار التي أحرقت جثته يقول الباحث المغربي الصّديق محمد بنشريفة: (إنّ تراثه الذي أُحْرِقَ في تونس ـ كما ذكر ابن خلدون ـ ظلَ ما بقي منه محفوظاً في المغرب بفضل الخزانة المنصورية الزيدانية الموجودة اليوم في دير الاسكوريال قرب مدريد بالدّيار الإسبانية ، وبفضل الخزائن العامة والخاصَة في المغرب، وإنَ معظمَ ما نُشر من تراث ابن الأبّار يرجع إلى مخطوطات مغربية، ومن المغاربة الذين عُنُوا بآثار ابن الأبار المؤرّخ المرّاكشي أبي عبد الله بن عبد الملك، والرحَالة السَبتي بن رشيد، وكاتب السَلطان المنصور السّعدي الذهبي أبو جمعة الماغوسي، بالإضافة إلى أسماء أخرى وافرة، فضلاً على أنَ ديوانه نُشِر لأوَل مرَة في المغرب).
ما بقي من مؤلفاته
أتحف ابن الأبار المكتبة العلمية والأدبية الإسلامية بتراث ثر تجاوز الخمسين كتاباً في شتى العلوم، فكان من أعظم جرائم الدولة الحفصية هي قتل هذا الرجل وحرقه مع كتبه، ولم يبق من مؤلفاته سوى سبعة كتب وُصفت بأنها من أنفس وأعظم ما وصل إلينا من تاريخ المسلمين في الأندلس هي:
1ـ (التكملة لكتاب الصلة) وهو تكملة لكتاب الصلة لابن بشكوال القرطبي في تراجم الرجال
2ـ (الحلة السيراء في أشعار الأمراء) وفيه استعرض النشاط الأدبي والفكري في الأندلس والمغرب من المائة الأولى للهجرة حتى أوائل المائة السابعة.
3 ـ (المعجم في أصحاب القاضي أبي علي الصدفي السرقسطي) في تراجم علماء الأندلس ممن عرفوا القاضي الصدفي وأخذوا عنه
4 ـ (تحفة القادم) وهو في تراجم الشعراء وقد ضم تراجم أكثر من مائة شاعر وأربع شواعر من الأندلس
5ـ (إعتاب الكتاب) وهو رسالة في عتاب السلطان
6ـ (درر السمط في أخبار السبط) وهو الكتاب الذي نتحدث عنه في هذا الموضوع
7ـ ديوان شعر مخطوط ومحفوظ في خزانة الملكية المغربية بمدينة الرباط وطبع في تونس
التراث الضائع
وقد أشارت الدراسات إلى عناوين بعض كتبه التي لا يعلم هل حرقت معه أم غيبها الزمان منها:
1ـ (مظاهرة المسعى الجميل ومحاذرة المرعى الوبيل) - كتاب في الأدب عارض فيه الشاعر أبا العلاء المعري في رسالته ( ملقى السبيل).
2 ـ (معدن اللجين في مراثي الحسين).
3- (الغصون اليانعة في محاسن شعراء المائة السابعة).
4ـ (الأربعون) في الحديث النبوي.
5 ـ (إيماض البرق في أدباء الشرق).
6ـ (المورد السلسل في حديث الرحمة المسلسل).
8 ـ (المعجم في أصحاب ابن العربي).
9 ـ (المأخذ الصالح في حديث معاوية بن صالح).
10ـ (إفادة الوفادة).
مع درر السمط
لم يخطئ الغبريني في (الدراية) حينما أولى عناية خاصة بكتاب ابن الأبار (معدن اللجين في مراثي الحسين) وخصّه بما لم يخصّه غيره من كتب الأدب، ورغم أن هذا الكتاب مفقود، إلا أننا نستشف أهميته من خلال كتاب (درر السمط في أخبار السبط) الذي يشاركه في الموضوع والمنبع الواحد.
فهذا الكنز الثمين والأثر النفيس هو آية في النثر الفني لم يكن ليجيده في أسلوبه سوى ابن الأبّار الذي جمع فيه غزارة المادة وروعة الإنتقاء وفن العرض والتحليل، فهو بعد أن يسترسل في كل فصل في موضوعه ينتقي آية قرآنية، أو حديثاً نبوياً شريفاً، أو قولاً للإمام الحسين (عليه السلام)، أو قطعة نثرية أو شعرية صغيرة من التراث العربي يضعها في سياق الكلام، حيث يذهل القارئ وهو يسترسل في قراءة هذه الفصول بهذا الخزين اللغوي والأدبي الهائل لابن الأبار.
ضم الكتاب (45) فصلاً استعرض فيها حياة الرسول العظيم محمد (صلى الله عليه وآله)، وحياة أصحاب الكساء علي وفاطمة والحسن والحسين (صلوات الله عليهم) فيصفهم بأنجم الهداية وذرية النبوة ونقتطف هنا بعضا من فصول هذا الكتاب الذي يدل على سعة علم المؤلف بشتى العلوم:
الحسنان
(أولئك السادة أحيي وأفدّي والشهادة بحبهم أوفّي وأؤدّي ومن يكتمها فإنه آثم قلبه.
يا لك أنجم هداية لا تصلح الشمس عن آية، كفلتم في حجرها النبوة فلله تلك النبوة ذرية بعضها من بعض.
سرعان ما بُلي منهم الجديد، وغُري بهم الحديد، نُسفت أجبلهم الشامخة، وشدخت غررهم الشادخة، فطارت بطررهم الأرواح، وراحت عن جسومهم الأرواح، بعد أن فعلوا الأفاعيل وعيل صبر أقتالهم وصبرهم ما عيل).
ويقول في سيدي شباب أهل الجنة وتقاسمهما خلق جدهما وأبيهما (عليهم السلام):
(اقتسم السبطان على رغم أنف الشيطان خلق جدهما النبي، وخلق أبيهما الوصي فرُدي أكبرهما بما أذي به الأكبر ولقي أصغرهما الموت الأحمر:
وإنا لقومٌ ما نرى القتل سُبةً *** إذا ما رأته عامرٌ وسلولُ
تبع الأوّل في ذلك الآخر وخاضا بحر الهول وهو زاخر:
كانت مآتم بالعراق تعدّها *** أموية بالشام من أعيادِها
فكيف توسى الكلام، أو يتأسى الإسلام ؟
وعلى الدهر من دماء الشهيدين علي ونجله شاهدانِ
فهما في أواخر الليل فجران وفي أوليائه شفقانِ
ثبتا في قميصه ليجيء الحشر مستعدياً إلى الرحمنِ
واأسفا ألّب على الرسول أبو سفيان ولاكت كبد الحمزة هند ونازع حق علي معاوية واحتز هامة الحسين يزيد:
لقد علقوها بالنبي خصومة *** إلى الله تغني عن يمينٍ وشاهدِ)
المصيبة العظمى
(أيّة فتنة عمياء وداهيةٍ دهياء ؟ لاتقوم بها النوادب ولا تبلغ معشارها النوائب ! طاشت لها النهى وطارت، وأفلت شهب الدجى وغارت. لولاها ما دخل ذل على العرب، ولا ألف صيد الصقر بالخرب، وقصف النبع بالغرب. فانظر إلى ذوي الإستبصار، خُضَّع الرقاب نواكس الأبصار:
وإنَّ قتيلَ الطفِّ من آلِ هاشمٍ *** أذلَّ رقابَ المسلمينَ فذلّتِ)
الحسين رمز الصلاح ويزيد رمز الفساد
ما عذرُ الأموية وأبنائها في قتل العلوية وإفنائها ؟ أهم يقسمون رحمة ربك ؟ كم دليل في غاية الوضوح على انهم كسفينة نوح من ركب فيها نجى ومن تخلّف عنها غرق، ثم يحبسهم آل الطليق ويطاردهم آل الطريد. وما نقموا منهم الا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد. نساؤهم أيامى أمية، وسماؤهم أرض بني سمية.
من عصبة أضاعت دماء محمد وبنيه بين يزيدها وزيادها
كان الحسين يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا، ويزيد يتلف العمر تبريحاً وعدوانا
عمرك الله كيف يلتقيان.
بنو أمية
ثم يتحسّر ابن الأبّار على ما آل إليه أمر الإسلام من اعتلاء قرود بني أمية على منابر المسلمين وإقصاء أهل الحق من أهل بيت النبوة عن حقهم فيقول:
(الآجلة مدفوعة، والعاجلة متبوعة، والأنفس على حبها مطبوعة، فاتباع تلك ضعفة أمناء واتباع هذه خونة أقوياء، أشكو إلى الله ضعف الأمين وخيانة القوي.
قعد بالحسين حقه، وقام بيزيد باطله، واخلافاه ! فإذا حضر موقد القضاء الخصمان، وعنت الوجوه للرحمن: جاء الحق وزهق الباطل:
إن الإمامة لم تكن *** للئيم ما تحت العمامه
من سبط هند وابنها ** دون البتول ولا كرامه
يسر ابن فاطمة للدين يسمّيه، وابن ميسون للدنيا تستهويه (اعملوا فكل ميسّر لما خلق له)،
فأما هذا فتحرّج وتأثم، واما ذاك فتلجلج وتلعثم، مشى الواحد إلى نور يسعى بين يديه، وعشى الثاني إلى ضوء نار لا يغرو ما لديه:
يا ويح من وارى الكتاب قفاه والدنيا أمامه
كانت بنو حرب فراعنة، فذهب ابن بنت رسول الله ليخرجهم من العراق فانعكس المروم وحُورب ولا فارس والروم:
كأن لم يرج في دنيا *** وآخرة ولم يخفِ
ولم يهلل بتلبية *** ولم ينسك ولم يطفِ
كوتب من الكوفة وقد سار إلى مكة:
يجنح إلى النفر الحائف ويحتج بما أتاه من الصحائف)
مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة
ويقول في فصل شهادة سفير الحسين مسلم بن عقيل ومجيره هانئ بن عروة المذحجي (عليهما السلام):
(قدم مسلم بن عقيل، فأُسلم لعبيد الله بن زياد، والدنيا إلا على الدناءة صعبة الإنقياد:
تفانى الرجال على حبها *** وما يحصلون على طائلِ
جيء به يقاد إليه بعد ما أبلى في القتال عذرا وارتجز لا يستشعر ذعرا:
أقسمت أن أقتل إلا حرا *** أخاف أن أكذب أو أغرا
وثنى بابن عروة هانئ، ما لشأنيهما الكريمين من شانئ فعفرت لمته وأخفرت ذمته وهو الذي رجح إجارته فهنيئاً له ما أربح تجارته:
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري *** إلى هانئ في السوقِ وابن عقيلِ
ترَي جسداً قد غيّر الموتُ لونَه *** ونضحَ دمٍ قد سالَ كلَّ مسيلِ)
الحر وابن سعد.... شتان ما بين الموقفين وصاحبيهما
ثم يشير ابن الأبار إلى خسة ونذالة عمر بن سعد حينما أسر له مسلم بن عقيل سراً وهو أسير وأمره بالكتمان فأقسم له عمر بذلك، ثم باح بسره لابن زياد وكان مسلم يريد من يخبر الحسين بخبره قبل وصوله إلى العراق فيقول:
(وقبل قتل مسلم، حرص على ملمح بخبره معلم، فأسر إلى ابن سعد بن أبي وقاص مقدم الحسين في الخيول القلاص، رجاء أن يرجع أدراجه، ويدفع إلى موقفه استدراجه، فباح لعبيد الله بذلك، وارتاح لإشعاره بما هنالك، وقد أمره بالكتمان، وحذره خون الإئتمان، فمن أجلها أخرجه لقتاله، وجهزه في أربعة آلاف من رجاله)
ثم يقارن ابن الأبار بين هذا موقف عمر بن سعد المخزي الذي دل على أن صاحبه لا يمتلك حتى ذرة من الشرف والرجولة، وبين الموقف العظيم للبطل الشهيد الحر بن يزيد الرياحي الذي تاب وكفّر عن ذنبه باستشهاده بين يدي الحسين فيقول:
(خلافاً لمن توجّع واسترجع، وكان قد حبَس به وجعجع، فانقلب إليه صائراً، حتى قتل معه صابراً، هو الحر كما سمته أمه فلله أبوه، لقد يُسر لليُسرى، وكان بذلك دون الأحرار أحرى، بالأمس كان يقود محارباً ألفاً، واليوم يعود مسالماً ألفا:
إذا أنتَ أعطيتَ السعادةَ لم تُبل *** وإن نظرتْ شزراً إليكَ القبائلُ
وافى السبط في خيل عريت نواصيها من الخير، وذؤبان عربان كأن أسنتهم المقابيس والرايات أجنحة الطير، وقد لجأ إلى ذي حسم متحصّناً، وضرب هناك أخبيته متبيّناً، فما عجل بمحاربة، ولا بعد عن مقاربة، وابن زياد قد أمده بفريقه، وأعده لإشراقه بريقه، وقال لشيطانه: قم إليه فاحبس به الركب، أو جعجع إلى أن هب من نومه، وعاد باللائمة على قومه، داعيا لأمهم بالهبل والعبر، وقال: أدعوتموه حتى إذا أتاكم أسلمتموه ؟ إنها لأحدى الكِبَر وهو في تلك الآلاف والمئين، أوتي وحده اليقين، وأحرز عاقبة المتقين، ما أكثر الشجر وليس كلها بثمر.
باء عمر بن سعد بالخسر العميم، وآب الحر بن يزيد بالفوز العظيم (فريق في الجنة وفريق في السعير).
ثم يشير إلى غرور ابن سعد بالحياة الدنيا ثم قتله على يد المختار بن عبيد الثقفي:
(غني بخضم هذه الدار، فشد ما فني بسيف المختار (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور).
سيد الإباء
ومن أروع فصول الكتاب هو موقف الإباء، موقف الشهادة، موقف الكرامة والحرية الذي جسده الإمام الحسين (عليه السلام)، حينما طلب منه الدعي بن الدعي عبيد الله بن زياد البيعة للفاسق يزيد حيث يصوره ابن الأبّار بهذه الصورة الرائعة:
(وكم رجا ابن مرجانة، أن يجرعه المهانة:
وتلك التي تستك منها المسامع !
قال ابن الطاهرتين: أأنزل على حكم ابن الزانية ؟ متى سلفت أولى فتخلف ثانية
أي عبد آل صخر: أبي سيد ولد آدم ولا فخر، أمني تروم الدنية، كأني أهاب المنية ؟
أكرُّ على الكتيبةِ لا أبالي *** أحتفي كان فيها أم سواها
جاء عنه إنه خطب في ذلك الخطب الجليل، وزهد في عيش كالمرعى الوبيل، وقال: لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل
ليرغب المؤمن في لقاء الله يحمد معاده، فإني لا أرى الموت إلا سعادة (وعجلت إليك ربي لترضى)
هوّن قدر الدنيا وصروفها، وبين إقبال منكرها وإدبار معروفها، ونادى فأسمع، وقد عزم طلاقها وأزمع:
(ألا ترون الحق لا يُعمل به، والباطل لا يُتناهى عنه)
إلى الديّانِ يوم الدينِ نمضي *** وعند الله تجتمعُ الخصومُ)
خير الأصحاب
ثم يتطرّق إلى ذكر أسود الهيجاء، وأبطال الوغى، أولئك الشهداء العظماء الذين جسدوا أروع القيم السامية، والمواقف العظيمة المشرفة في سبيل المبدأ والإخلاص للعقيدة، فكانوا بأعلى درجات الإباء والتضحية وهم يقدمون أنفسهم في سبيل الله بين يدي سيدهم الإمام الحسين (عليه السلام) حتى وصفهم بقوله:
(إني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي)
يقول ابن الأبار عنهم:
(أحب السبط ـ لما أعضل الداء، وكثر أولياؤه الأعداء، أن يجلو الخفية والخيبة، ويبلو ما عند فئة غيها بلية، والكريم لا يوالس ولا يدالس، فجمعهم وهم أزيد من سبعين رجالة وفوارس، ثم أذن لهم في الإنطلاق، وقد عدم التنفيس في الخناق، وقال لبني عقيل: حسبكم لمسلم تحملا، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا.
فأبوا إلّا نيلَ المرام، أو موتَ الكرام، ورأوا أن العيش بعده عين الحرام:
إذا ما أعضلَ الأمرُ *** دفعنا الشرَّ بالشرِّ
وما للحرِّ منجاةٌ *** كمثلِ السيفِ والصبرِ
كان من جوابهم إذ رخص في ذهابهم:
لِمَ نفعلْ ذلك لنبقى بعدك ؟ لا والله وحتى نرد وردك:
إن كان بعدكم في الموتِ لي أربٌ *** فلا قضيتُ إذاً من حبكمْ إرَبا
بُوركوا أشرافا، ونصعوا أوصافا:
أحيوا فرادى ولكنهم *** على صحبة البينِ ماتوا جميعا
عصبوا بأمره أمورهم، وبذلوا دون نحره نحورهم، مستحلين من الحمام، ومستوفين على غاية الكمال والتمام:
عيني إبكي بعبرةٍ وعويلِ *** واندبي إن ندبت آلَ الرسولِ
ستةٌ كلهم لصلبِ عليٍّ *** قد أصيبوا وخمسةٌ لعقيلِ)
سبايا آل محمد
ويسترسل ابن الأبار في فصوله مستعرضاً استشهاد الحسين (عليه السلام) وقطع رأسه مع رؤوس أهل بيته وأصحابه (رضوان الله عليهم) وحملها إلى الطاغية يزيد وتسيير نساءه وأطفاله سبايا في الفلوات فيصف هذه الأفعال بصورة مؤلمة مبكية يتفطر لها قلب المسلم حزنا وألما:
(وهب الرجال تجزّ رؤوسهم وتبيد نفوسهم:
بناتُ زيادٍ في القصورِ مصونةٌ *** وبنتُ رسولِ اللهِ في الفلواتِ
لا ينقضي العجب عبيد الله حملهن على الأقتاب مسافرات، ويقعد هو وبطانته لرؤيتهن بعد أن بعث بالرأس للبعيد والقريب وعبث في قرع الأسنان بالقضيب:
ومقبل كان النبي يلثمه يشفي غرامه
قرعَ ابن هند بالقضيبِ عذابه فرط استضامه
ليضرسنَّ يدَ الندامةِ حين لا تُغني الندامه
نهاية الطاغية يزيد
ونختم نقلنا من فصول هذا الكتاب بما ذكره ابن الأبار من هلاك يزيد اللعين بعد حكم ثلاث سنوات سوداء ذاق فيها المسلمون الويلات والمآسي وتلطخت فيها يده الخبيثة بما لا يحصى من دماء المسلمين والصالحين بدأها بالجريمة التي اهتز لها عرش الرحمن وختمها باستباحة مدينة رسول الله قتلاً ونهبا:
(افتتح بكربلاء أمره، وختمه بعد ذلك بالحرة (إن هذا لهو البلاء المبين)، فقل في أيام تصحيفها: لها مالئ، طاغية هواه له ممالئ، أنهب المدينة ثلاثاً، وقتل أهلها كهولاً وأحداثاً، وما لبث أن قتله الجدري، وأدبره ورأيه الدبري)
اضف تعليق