على مدار سنوات طويلة، ظل المصابون بفيروس نقص المناعة البشرية يتلقون علاجًا مضادًا لفيروسات النسخ العكسي (ART) بهدف خفض نسب الفيروس لديهم إلى أن تصل إلى مستويات غير ملحوظة تقريبًا، ومنع انتقاله إلى أشخاص آخرين. غير أن الجهاز المناعي يحتجز الفيروس في مستودعات في الجسم...
بقلم: سارة ريردون
صُنف رجل يبلغ من العمر 53 عامًا في ألمانيا كثالث حالة على أقل تقدير ينجح شفاؤها من فيروس نقص المناعة البشرية (HIV)، عبر جراحة لنقل خلايا جذعية مُتبرع بها لمقاومة للفيروس، بحيث تحل محل عددًا من خلايا النخاع العظمي.
وتجدر الإشارة، إلى أنه على مدار سنوات طويلة، ظل المصابون بفيروس نقص المناعة البشرية يتلقون علاجًا مضادًا لفيروسات النسخ العكسي (ART) بهدف خفض نسب الفيروس لديهم إلى أن تصل إلى مستويات غير ملحوظة تقريبًا، ومنع انتقاله إلى أشخاص آخرين. غير أن الجهاز المناعي يحتجز الفيروس في مستودعات في الجسم، وحال توقف الأفراد عن تناول هذه العلاجات، يصبح بإمكان الفيروس أن يجدد تكاثره وانتشاره.
من ثمَّ، يُتوقع أن يكون القضاء على تلك المستودعات هو الحل والعلاج الحقيقي الناجع. ويبدو أن هذا كان الحال مع المريض الأخير، الذي لم يُفصح عن هويته، و يُشار إليه باسم «مريض دوسلدورف». فقد توقف عن تناول العلاجات المضاد لفيروسات النسخ العكسي في عام 2018، ومنذ ذلك الحين ظل جسده خاليًا تمامًا من الفيروس.
يُذكر أن تقنية الخلايا الجذعية التي أسهمت في هذا الإجراء الجراحي العلاجي كانت قد استُخدمت أول مرة في علاج تيموثي راي براون، الذي يشار إليه في أغلب الأحيان باسم «مريض برلين». ففي عام 2007، خضع بروان لجراحة استزراع نخاع عظمي، دُمرت فيها خلايا نخاعه العظمي لتحل محلها خلايا جذعية من أحد المتبرعين الأصحاء، بهدف علاج إصابته بسرطان ابيضاض الدم النخاعي الحاد. وقد اختار الفريق المعالج لبراون متبرعًا يحمل طفرة جينية تُسمَّى CCR5Δ32/Δ32، وهي طفرة تحول دون تعبير أسطح الخلايا عن بروتين CCR5، الذي يستخدمه فيروس نقص المناعة البشرية للنفاذ إلى داخل الخلايا المناعية وإصابتها. من هنا، من شأن هذه الطفرة المذكورة أن تجعل الخلايا شديدة المقاومة للفيروس. وبعد هذا الإجراء الجراحي، تمكن براون من التوقف عن تلقي مضادات فيروسات النسخ العكسي، وظل جسده خاليًا تمامًا من فيروس نقص المناعة البشرية حتى وفاته في عام 2020.
وفي عام 2019، أعلن باحثون أن النهج ذاته أسهم على ما يبدو في شفاء «مريض لندن»، آدم كاستيليجو. بعدها، في عام 2022، أعلن فريق من العلماء أنه وجد مؤشرات تدفعه إلى الاعتقاد بأن مريضًا آخر عالجه، من مدينة نيويورك، وظل خاليًا من فيروس نقص المناعة البشرية لمدة 14 شهرًا، ربما يكون قد شُفي بدوره، وإن كانوا قد حذروا أنه من السابق لأوانه الجزم بذلك.
في ذلك الصدد، يقول رافيندرا جوبتا، اختصاصي علم الأحياء المجهرية من جامعة كامبريدج بالمملكة المتحدة، والذي قاد الفريق المعالج لكاستيليجو، إن الدراسة الأخيرة "تدعم الأدلة التي تشير إلى أن بروتين CCR5 هو الطريق الأسهل استهدافه للتوصل إلى علاجٍ شافِ للمرض".
انخفضت مستويات فيروس نقص المناعة البشرية لدى مريض دوسلدورف انخفاضًا كبيرًا، بفضل أدوية فيروسات النسخ العكسي التي تلقاها، عندما ثبت تشخيصه بسرطان ابيضاض الدم النخاعيّ الحاد. وفي عام 2013، نجح فريق بحثي بقيادة عالم الفيروسات بيورن إريك جنسن من مستشفى دوسلدورف الجامعي بألمانيا في تدمير خلايا نخاع العظم السرطانية للمريض واستزراع خلايا جذعية محلها من متبرع يحمل الطفرة CCR5Δ32/Δ32 1.
وعلى مدار السنوات الخمس التالية، تابع فريق جنسن أخذ عينات من أنسجة المريض ودمائه. وعلى مدار هذه الفترة، عثر الفريق باستمرار على خلايا مناعية تستهدف فيروس نقص المناعة البشرية تحديدًا. وهو ما أشار إلى وجود مخزون منها في منطقة ما بجسم المريض. ويشير جنسن إلى أنه لم يكن من الواضح ما إذا كانت تلك الخلايا المناعية قد أُنتجت للتصدي لجسيمات نشطة من الفيروس أم أنها تستهدف التخلص من "جسيمات ميتة" فقط منه. كذلك عثر الفريق البحثي على الحمض النووي والحمض النووي الريبي للفيروس في جسم المريض، لكن لم يبد أنهما تنسخا على الإطلاق في جسم المريض.
وفي إطار السعي لتعزيز فهمنا لتأثير جراحة الاستزراع في الفيروس. أجرى فريق الباحثين مزيدًا من التجارب تضمنت استزراع خلايا مناعية للمريض في فئران عُدلت وراثيًا بحيث تملك أجهزة مناعية شبيهة بأجهزة البشر. وقد عجز الفيروس عن التكاثر في تلك الفئران، وهو ما يشير إلى أنه صار معطلًا. ثم جاء الاختبار النهائي لفاعلية العلاج، بوقف تلقي المريض لمضادات فيروسات النسخ العكسي. في ذلك الصدد، يقول جنسن: "تبين لنا أن إزالة فيروس نقص المناعة البشرية من الجسم ليس في عداد المستحيلات، لكنه بالغ الصعوبة فحسب".
من جانبه، أصدر المريض الذي تلقى العلاج بيانًا ذكر فيه أن عملية استزراع نخاع العظم كانت "خطوة محفوفة بالمخاطر". وأضاف أنه يعتزم تكريس جزء من حياته لدعم جمع التبرعات الموجهة للبحث العلمي.
في هذا السياق، يقول تيموثي هنريش، الباحث في شؤون الأمراض المعدية من جامعة كاليفورنيا في ولاية سان فرانسيسكو الأمريكية، إن الدراسة اتسمت بدقة وإحكام كبيرين. ويرى هنريش أن النجاح في علاج عدة مرضى من خلال الجمع بين استخدام الأدوية المضادة لفيروسات النسخ العكسي وخلايا مُتبرع بها مقاوِمة لفيروس نقص المناعة البشرية يعزز فرص الوصول إلى علاجٍ شافٍ لفيروس نقص المناعة البشرية بين هؤلاء الأفراد.
ويؤيد هذا جوبتا، بيد أنه يضيف أنه في بعض الحالات يتحور الفيروس داخل المريض ويجد حيلًا أخرى للنفاذ إلى الخلايا. كما يضيف أنه ليس من الواضح أيضًا ما إذا كان العلاج الكيميائي الذي تلقاه المرضى لعلاج السرطان قبل زراعة نخاع العظام قد أسهم في القضاء على فيروس نقص المناعة البشرية عن طريق منع الخلايا المصابة بعدوى الفيروس من الانقسام.
لكن يظل من المستبعد استخدام هذا النهج القائم على استزراع نخاع عظم بديل كعلاج لمن لا يعانون سرطان ابيضاض الدم، نظرًا إلى المخاطر الكبيرة المرتبطة بذلك الإجراء الجراحي، لا سيما بسبب احتمالية رفض الجسم للنخاع الذي يتلقاه من المتبرع. وتعكف عدة فرق بحثية حاليًا على اختبار فاعلية استخدام الخلايا الجذعية المأخوذة من جسم المريض ذاته والمعدلة وراثيًا لاكتساب الطفرة CCR5Δ32/Δ323،2، وهو ما من شأنه أن يغني عن خلايا المتبرع.
ويفيد جنسن بأن فريقه أجرى جراحات استزراع لعدد من المصابين بكلٍ من فيروس نقص المناعة البشرية وسرطان ابيضاض الدم، باستخدام خلايا جذعية مأخوذة من متبرعين يحملون الطفرة CCR5Δ32/Δ32. بيد أنه من السابق لأوانه إعلان خلو هؤلاء الأشخاص تمامًا من الفيروس. ويخطط فريق جنسن البحثي لإجراء دراسة تتناول الحالات التي تختزن فيها أجسام المرضى مستودعًا أكبر من فيروس نقص المناعة البشرية وقت إجراء جراحة الاستزراع، ومدى تأثير ذلك في قدرة الجهاز المناعي على التعافي واستئصال شأفة أية فيروسات متبقية من الجسم.
اضف تعليق