في مأوى للخفافيش من نوع الثعلب الطيار في حدائق سيدني النباتية، بيجي إيبي، اختصاصية إيكولوجيا الأحياء البرية من جامعة نيو ساوث ويلز في مدينة سيدني الأسترالية، قالت وهي تنظر لأعلى إلى حيث حط عدد من الخفافيش: "مرحبًا يا أصدقاء، هلا تفتحون أجنحتكم لي لأراها؟"، ثم استطردت قائلة: "أتحدث إلى هذه الخفافيش كثيرًا"....
بقلم: سْمِريتِّي مالاباتي
دراسة بارزة تكشف آلية «الانتشار بين الأنواع» التي يسلكها فيروس «هيندرا» الفتاك في انتشاره من الخفافيش إلى البشر، رغم ندرته.
في مأوى للخفافيش من نوع الثعلب الطيار في حدائق سيدني النباتية، بيجي إيبي، اختصاصية إيكولوجيا الأحياء البرية من جامعة نيو ساوث ويلز في مدينة سيدني الأسترالية، قالت وهي تنظر لأعلى إلى حيث حط عدد من الخفافيش: "مرحبًا يا أصدقاء، هلا تفتحون أجنحتكم لي لأراها؟"، ثم استطردت قائلة: "أتحدث إلى هذه الخفافيش كثيرًا".
تبحث إيبي عن إناث ثعالب طيارة ترضع صغارها حديثة الولادة، لكن الطقس الملبد بالغيوم يبقي الصغار محتمية تحت أجنحة أمهاتها التماسًا للدفء. وقد أخذت إيبي في دراسة هذه الخفافيش، قبل 25 عامًا تقريبًا. فباستخدام منظار مزدوج، تحسب عدد الإناث المرضعة التي توشك على فطام صغارها، وهو مؤشر على ما إذا كانت هذه الخفافيش تتعرض لإجهاد غذائي، يجعلها أكثر عرضة لطرح فيروسات، يمكن أن تتسبب في إصابة البشر بالأمراض، أم لا.
تُثير خفافيش الثعالب الطيارة الأسترالية اهتمام العلماء، لأنها عائل لفيروس «هيندرا» Hendra، الذي يصيب البشر بمرض تنفسي شديد الندرة، لكنه يفتك بشخص من بين كل شخصين يصيبهما. وعلى غرار فيروس «نيباه»Nipah ، وفيروس «سارس-كوف»SARS-COV ، وفيروس «سارس-كوف-2»، الذي تسبب في جائحة «كوفيد-19»، يُعد فيروس «هيندرا» من فيروسات الخفافيش التي انتقلت إلى البشر وانتشرت بسرعة كبيرة بينهم. وتصل هذه الفيروسات عادة إلى البشر عبر حيوان وسيط، وهو ما تنتج عنه عواقب وخيمة في بعض الأحيان. وقد فطن العلماء إلى أنَّ موجات انتشار عدد من الفيروسات ترتبط بتدمير الموائل الطبيعية للحيوانات، غير أنهم واجهوا إلى اليوم صعوبة في الوقوف بدقة على الظروف التي تفجر أحداث الانتشار الفيروسي تلك.
بعد دراسة مفصلة، صار بإمكان إيبي وفريقها البحثي اليوم التنبؤ بالموعد المرجح لفاشيات مجموعات فيروس «هيندرا»، قبل اندلاعها بعامين تقريبًا. تعقيبًا على ذلك، تقول إيميلي جورلي، اختصاصية الأمراض المعدية من جامعة جون هوبكينز في مدينة بالتيمور، بولاية ميريلاند الأمريكية: "اكتشف الفريق العوامل البيئية المحركة لأحداث الانتشار الفيروسي تلك". كذلك توصل الفريق البحثي إلى الكيفية التي يمكن من خلالها الحيلولة دون وقوع هذه الأحداث، وقد نُشِرت نتائج دراسته في دورية Nature (P. Eby et al. Nature https://doi.org/jmr5; 2022).
كشفت نتائج الفريق البحثي بالدرجة الأولى أنَّ فاشيات مجموعات فيروس «هيندرا» تقع بعد السنوات التي تواجه فيها الخفافيش إجهادًا غذائيًا. ويحدث هذا النقص في الغذاء عادةً عقب السنوات التي تشتد فيها ظاهرة «إل نينيو»، وهي ظاهرة مناخية تحدث في المحيط الهادئ الاستوائي، وغالبًا ما ترتبط بحلول جفاف في شرق أستراليا، في حين أن فترات غزارة إزهار الأشجار المُنتجة لغذاء الخفافيش شتاءً في العام التالي لسنوات نقص الغذاء، لا تشهد أحداث انتشار لفيروسات تلك الخفافيش. بيد أن المؤسف، على حد تعبير رينا بلورايت، اختصاصية إيكولوجيا الأمراض، وهي باحثة شاركت في وضع الدراسة من جامعة كورنيل في إيثاكا بولاية نيويورك الأمريكية هو أنه "لم تتبق تقريبًا أي موائل طبيعية شتوية للخفافيش".
في هذا السياق، سارة كليفلاند، الطبيبة البيطرية واختصاصية علم إيكولوجيا الأمراض المعدية من جامعة جلاسجو بالولايات المتحدة، أثنت على هذه الدراسة، قائلة: "إنها رائعة بلا شك. والمثير للاهتمام بدرجة كبيرة فيها أنها قادتنا مباشرةً إلى حلول". وترى كليفلاند أنَّ نهج الدراسة الذي جمع بين تناوُل أثر المناخ، والبيئة، والإجهاد الغذائي، والنظام البيئي للخفافيش، يمكن أن يطرح رؤى متعمقة جديدة فيما يتعلق بدراسة بعض مسببات الأمراض الأخرى، مثل فيروس «نيباه» وفيروس «إيبولا»، والعائلة الفيروسية لكل منهما. حول ذلك، تضيف أليس هيوز، اختصاصية بيولوجيا الحفاظ على الأنواع من جامعة هونج كونج، أنَّ هذه الدراسة تقدم "فهمًا أوضح للعوامل المؤدية إلى هذه المشكلة، وهو ما له دلالات كبيرة فيما يتعلق بعدد من الأوبئة في بقاع أخرى".
تأثيرات التحوُّل إلى الحضر
اكتُشف فيروس «هيندرا» في عام 1994، بعد تفشيه بين الخيول والبشر في منشأة لتدريب خيول أصيلة في مدينة بريسبن الأسترالية. وقد أثبتت دراسات بعد ذلك أنَّ الفيروس ينتقل إلى الخيول من مستودعه في الخفافيش، وعلى الأرجح من خفاش الثعلب الطيار الأسود Pteropus alecto، عن طريق البراز والبول ولب الفاكهة الذي تبصقه الخفافيش على العشب. بعد ذلك، تنقل الخيول الفيروس إلى البشر. وعادة ما تظهر حالات العدوى به، على دفعات، في شتاء أستراليا، وقد تمر عدة سنوات قبل أن تظهر دفعة جديدة من الفيروس بين الخيول، إلا أن أعداد حالات الإصابة به أخذت في الازدياد منذ بدايات القرن الحادي والعشرين.
ولدراسة آلية انتشار فيروس «هيندرا»، جمعت بلورايت وإيبي وفريقهما البحثي بيانات عن مواقع موجات تفش الفيروس، وتوقيتها، ومواقع مجاثم الخفافيش، وحالتها الصحية، إضافةً إلى بيانات عن الأحوال المناخية، ومدى نقص رحيق الأزهار، وتدمير الموائل على امتداد نطاق يبلغ حوالي 300 ألف كيلومتر مربع في جنوب شرق آسيا من عام 1996 حتى عام 2020. بعد ذلك، استخدم الفريق البحثي عمليات نمذجة لتحديد العوامل التي ترتبط بموجات انتشار الفيروس من الخفافيش إلى البشر. حول ذلك، تقول جورلي: "يذهلني ما لدى الفريق من مجموعات بيانات ثمينة فيما يتعلق بهذه المنظومة البيئية".
وعلى مدار الدراسة، لاحظ الفريق البحثي تغيرات ملحوظة في سلوكيات الخفافيش. فقد تحولت في بحثها عن الرحيق من نمط يغلب عليه الترحال، أي من الانتقال في أسراب كبيرة من إحدى غاباتها الطبيعية إلى أخرى، إلى الاستقرار في مجموعات صغيرة في الأماكن الحضرية والزراعية، وهو ما جعلها أقرب إلى المناطق التي تعيش فيها الخيول والبشر. وبوجه عام، تضاعف عدد البقاع التي تحط فيها الخفافيش للسبات ليلًا إلى ثلاثة أضعاف منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، حتى وصل إلى 320 في عام 2020.
وقد وجدت دراسة منفصلة أجراها الفريق نفسه أنَّ المناطق التي ثبت مؤخرًا أن الخفافيش تحط فيها للسبات، تطرح فيروس «هيندرا» كل شتاء، لكن الخفافيش تنشر المزيد من الفيروسات في الأعوام التي تعقب نقص الغذاء D. J. Becker et al. Ecol. Lett. https://doi.org/jmr6; 2022)).
بحثًا عن الرحيق
توضح عمليات النمذجة التي ترد في آخر ورقة بحثية نشرتها بلورايت وإيبي في دورية Nature أنَّ الثعالب الطيارة، انقسمت عند ندرة الغذاء إلى أسراب صغيرة، هاجرت إلى مناطق زراعية قريبة من مناطق تربية الخيول، وأنَّ ذلك النقص في الغذاء قد أعقب اشتداد ظاهر «إل نينيو»، ويرجح أنَّه يعود إلى أن إنبات البراعم في أشجار الكافور بموائل الخفافيش الطبيعية يتأثر بالتغيرات المناخية. وخلال سنوات نقص الغذاء تلك، لم تكن الخفافيش تسافر إلا لمسافات قصيرة حفاظًا على طاقتها، و اقتاتت على الغذاء الموجود في المناطق الزراعية بالقرب من الخيول. وتوضح بلورايت أنَّ موجات انتشار الفيروس من الخفافيش إلى الخيول، تزايد احتمال حدوثها في الشتاء عقب نقص الغذاء. وقد استطاع النموذج أن يتنبأ بدقة بالسنوات المحتمل أن تشهد فاشيات للفيروس.
بعد ذلك، وقعت مفاجأة. أعقب حدوث ظاهرة «إل نينو» في عام 2018 جفاف في عام 2019. وهو ما أشار إلى أنَّ عام 2020 يُتوقع أن يشهد بدوره المزيد من موجات انتشار الفيروس من الخفافيش إلى كائنات أخرى. غير أنَّ ذاك العام لم تندلع به سوى فاشية واحدة في شهر مايو منه، ولم تُرصد أية موجات تفش أخرى منذ ذلك الوقت. عن ذلك، تقول إيبي: "علقنا الحكم على كل ما توصلنا إليه، ونظرنا في جميع العناصر الأخرى التي تنبني عليها فرضيتنا". وفي نهاية المطاف، اكتشف الفريق أن عندما تزهر غابات الخفافيش الطبيعية إزهارًا غزيرًا في فصول الشتاء التالية لشح الغذاء، فإنَّ ذلك يساعد في تلافي اندلاع فاشيات للفيروس. وقد شهد عام 2020، إزهار إحدى غابات الصمغ الأحمر بالقرب من مدينة جيمبي، وهو ما جذب إليها نحو 240 ألف من الخفافيش، وشهدت بعض المناطق الأخرى أيضًا وقائع إزهار مماثلة في عامي 2021 و2022.
ويرى الفريق البحثي أنَّ هذه الهجرات الجماعية تُبعد الخفافيش عن الخيول. ويشير إلى أنَّ إحياء موائل أنواع النباتات التي تزهر في الشتاء يمكن أن يساعد السلطات في تقليل عدد حوادث انتشار الفيروس إلى الخيول، وربما إلى البشر أيضًا.
اضف تعليق