اكتشف فريقٌ بحثيّ من خلال تجربة إكلينيكية صغيرة النطاق إمكانيّة استخدام تقنية التحرير الجينيّ المعروفة باسم كريسبر لإدخال تعديلات على الخلايا المناعيَّة، بحيث تتعرَّف على البروتينات المتطفّرة في الورم السرطاني لدى كل مريض. بعد ذلك، تُطلق تلك الخلايا بصورة آمنة في جسم المريض للبحث عن الورم المستهدف وتدميره...
بقلم: هايدي ليِدفورد
اكتشف فريقٌ بحثيّ من خلال تجربة إكلينيكية صغيرة النطاق إمكانيّة استخدام تقنية التحرير الجينيّ المعروفة باسم «كريسبر» CRISPR لإدخال تعديلات على الخلايا المناعيَّة، بحيث تتعرَّف على البروتينات المتطفّرة في الورم السرطاني لدى كل مريض. بعد ذلك، تُطلق تلك الخلايا بصورة آمنة في جسم المريض للبحث عن الورم المستهدف وتدميره.
وتُعدّ هذه التجربة أول محاولة تسعى إلى التوفيق بين مجالين شديديْ الأهميّة في أبحاث السرطان، وهما استخدام التحرير الجينيّ لتصميم علاجات موائمَة لكل مريض على حِدة، وهندسة الخلايا المناعيَّة التائية بتعديلها وراثيًا لتحسين استهدافها للأورام. وقد اختبر الباحثون فاعلية هذه المنهجيّة في 16 من المصابين بأورام صلبة، ومن بينها أورام الثدي والقولون.
في ذلك الصدد، يقول أنتوني ريباس، الطبيب والباحث، المتخصص في أمراض السرطان من جامعة كاليفورنيا بمدينة لوس أنجلوس الأمريكيّ، والذي شارك في الدراسة: "ربما يعدّ هذا أعقد العلاجات الإكلينيكية التي نجربها على الإطلاق، إذ نحاول حشد جيشٍ من الخلايا التائيّة لدى المريض".
نُشِرَت نتائج هذا العمل البحثي في دورية Nature (S. P. Foy et al. Nature https://doi.org/jk4f; 2022) وطُرحت يوم العاشر من نوفمبر الماضي في اجتماع «جمعية العلاج المناعيّ للسرطان» Society for Immunotherapy of Cancer بمدينة بوسطن بولاية ماساتشوستس الأمريكيّة.
وقد بدأ ريباس وفريقه البحثي تجربتهم بتعيين تسلسل الحمض النوويّ في عينات من الدم وخزعات الأورام، بحثًا عن طفرات تظهر في الأورام وليس في الدم. واضطرّ الباحثون لتكرار هذه الخطوة لكلّ مريضٍ شاركٍ في التجربة. ويعلِّق ريباس على ذلك قائلًا: "تختلف الطفرات في كل نوعٍ من الأورام السرطانية عن الآخر، ورغم وجود طفرات مشتركة بين أنواع الأورام السرطانية، فهي قليلة".
بعد ذلك، استخدم الفريق البحثي خوارزميَّات لتوقُّع الطفرات التي يُرجَّح أنها قادرة على تحفيز استجابةٍ الخلايا التائيَّة، وهذه الخلايا هي من خلايا الدمّ البيضاء التي تجوب الجسم بحثًا عن أية خلايا تظهر سلوكًا غير طبيعيًا. حول ذلك، تقول ستيفاني ماندل، كبيرة المسؤولين العلميين بشركة «باكت فارما» PACT Pharma، بمدينة ساوث سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا الأمريكيَّة، والباحث الرئيس بالدراسة: "إذا اكتشفت [الخلايا التائيّة] أي ما يبدو غير طبيعي بالجسم، فإنها تقتله. لكن في مرضى السرطان الذين نعاينهم إكلينيكيًا، فإن أجهزة المناعة لديهم تخسر معركتها عند مرحلةٍ ما، لينمو الورم السرطاني".
من هنا، بعد أن أجرى الفريق البحثي سلسلة من الفحوص التحليلية بهدف التحقق من صحة توقعاته ومن النتائج التي توصل إليها، فضلًا عن تصميم مستقبلات بروتينية قادرة على اكتشاف الطفرات الورمية، سَحَب عينات دم من كلٍّ مشاركٍ في التجربة، واستخدم تقنية «كريسبر» لإدخال الجينات التي تُشَفِّر هذه المستقبلات إلى الخلايا التائيّة الموجودة في تلك العينات. بعد ذلك، تعين على كلّ المشاركين في التجربة تناوُل عقار يقلل أعداد الخلايا المناعيّة المتكوّنة في أجسامهم، قبل حقنهم بالخلايا التائية المُهَنْدَسَة.
تعقيبًا على ذلك، يقول جوزيف فرايتّا، وهو باحث متخصص في تصميم علاجات قائمة على الخلايا التائيّة من جامعة بنسلفانيا بمدينة فيلادلفيا الأمريكيّة: "تُعد هذه عمليَّة تصنيع هائلة التعقيد"، إذ تجدر الإشارة إلى أنه في بعض الحالات، استغرقت هذه العمليَّة كاملةً أكثر من عامٍ.
وقد تلقَّى كل من المشاركين الستة عشر خلايا تائيَّة مهندَّسة، تستهدف ثلاثة أهداف مختلفة كحدٍّ أقصى. بعد ذلك، اكتشف الباحثون الخلايا المُهنْدسة في عينات دماء المشاركين، وَقد وُجدت قرب الأورام بتركيزاتٍ أعلى من الخلايا التائية غير المهندسة قبل بدء العلاج. وبعد شهرٍ واحدٍ من العلاج، كانت حالة خمسةٍ من المشاركين مستقرَّة، مما يعني أن الأورام السرطانية التي أُصيبوا بها لم يتقدَّم نموُّها، بينما عانى مشاركان اثنان فقط من آثار جانبيَّة يُرجِّح الباحثون أنها ترجع إلى نشاط الخلايا التائيَّة المُهَنْدَسَة.
ويرى ريباس أنه على الرغم من أن فاعليَّة العلاج تبين أنها منخفضة، إلا أن الباحثين استخدموا جرعات صغيرة نسبيًا من الخلايا التائيَّة للبرهنة على أمان هذه المقاربة العلاجية، وأضاف: "في المرة القادمة، علينا إعطاء جرعات أقوى وحسب".
ومع مواصلة الباحثين السعي إلى ابتكار أساليب لإسراع وتيرة تطوير هاتين المقاربتين العلاجيتين، من المتوقع أن تقل فترة بقاء الخلايا المهندسة في المزارع الخلوية، لتصبح أكثر فاعلية عند حقنها في الجسم. وهو ما يبشر به فرايتّا قائلًا: "ستتحسَّن التقنية أكثر فأكثر".
استخدام الخلايا التائيّة المهندسة – المعروفة باسم الخلايا التائية المنتِجة لمستقبل المستضد الخيمري (اختصارًا CAR T) – اعتُمد لعلاج بعض أنواع سرطان الدم والأورام الليمفاوية، إلا أن الأورام الصلبة على الأخصّ ظلَّت آنذاك مستعصية على العلاج؛ إذ لا تظهر خلايا CAR T فاعلية إلا ضد البروتينات التي تعبر عنها أسطح الخلايا الورمية، في حين تشترك أنواع كثيرة من أورام خلايا الدم والأورام الليمفاوية في إنتاج هذه البروتينات، وهو ما يغني عن الحاجة لتصميم مستقبِلات جديدة، توائم الخلايا التائية لكل مريضٍ.
غير أن فرايتا يوضح أنه لم تُكتشف بروتينات تشترك أسطح الأورام الصلبة في إنتاجها. كما أن الأورام الصلبة تشكِّل عائقًا ماديًا أمام الخلايا التائيَّة، والتي يجب أن تنتقل عن طريق الدم إلى الورم ثم تخترقه لتتولَّى قتل خلايا السرطانية. فضلًا عن ذلك، تكبت الخلايا الورمية أحيانًا الاستجابات المناعيَّة، إذ تطلق إشارات كيميائيَّة مثبطة لها، وتستنفد مخزون الجسم الموضعي من العناصر الغذائية لتذكي انتشارها السريع.
يبين فرايتَّا هذا قائلًا: "البيئة المحيطة بالورم تشبه بالوعة تتسلل إليها الخلايا التائية، التي تفقد في المقابل جزءًا من فاعليتها فور وصولها إلى بؤرة الورم".
وبناء على إثبات هذه الفكرة، تَأمَل ماندل وفريقها البحثي في التمكن من هندسة خلايا تائيَّة، لا تستطيع فقط اكتشاف الطفرات السرطانيَّة، وإنما تزداد فاعليتها بالقرب من الأورام. وترى ماندل أن ثمة العديد من الطرق الواعدة لتعزيز فاعلية الخلايا التائيَّة، مثل إزالة المستقبِلات التي تستجيب لإشارات الورم السرطاني المثبطة للمناعة، أو تعديل النشاط الأيضيّ بحيث يسهل بدرجة أكبر لهذه الخلايا التائيَّة تأمين مصدر طاقةٍ داخل بيئة الورم.
ويقول آفري بوسي، الباحث في مجال العلاجات الخلويّة والجينيّة للسرطان من جامعة بنسلفانيا، إن مثل تلك التصميمات المعقدة قد تغدو ذات فاعلية كبيرة، وذلك بفضل التطورات التقنية الحديثة في مجال استخدام «كريسبر» لتحرير الخلايا التائيَّة جنينيًا. ويضيف بوسي: "باتت هذه الطريقة تحقق كفاءة مذهلة، وأتوقع أن نشهد خلال العقد القادم وسائل فائقة التطور لهندسة الخلايا المناعية".
اضف تعليق