وعلى الرغم من انحسار مرض "الدرن" في كثير من دول العالم، إلا أنه ما زال يمثل مشكلةً عالمية، فهو السبب الثاني للوفاة حول العالم بسبب الأمراض المعدية الأشد فتكًا، والسبب الرئيسي الثالث عشر للوفاة بصورة عامة، خاصةً في الدول الفقيرة والنامية...
بقلم: د. أحمد سمير
من بين آلاف الأمراض التي تصيب البشر، حظي قليلٌ منها بسمعة سيئة نتجت في بعض الأحيان عن طريقة انتقال المرض؛ إذ ارتبطت أمراض مثل الإيدز والزهري في ذهن العامة بالعلاقات الجنسية غير المشروعة، وبالتالي صار المصاب بهما موصومًا في العديد من المجتمعات.
لكن السمعة السيئة لم ترتبط فقط بالوصم أو بطريقة انتقال المرض، بل عمَّت بعض الأمراض التي قد تؤدي الإصابة بها إلى مضاعفات خطيرة تصل إلى حد الوفاة.
من بين هذه الأمراض احتل مرض "الدرن" –المعروف أيضًا باسم السل- مكانةً كبيرةً باعتباره مرضًا سيئ السمعة، ونال هذا المرض العديد من الأوصاف السيئة تاريخيًّا مثل "الطاعون الأبيض" و"قائد كل الرجال إلى الموت"، بعدما أودى بحياة مريض من بين كل سبعة أشخاص كانوا يعيشون في الولايات المتحدة وأوروبا في القرن الثامن عشر، ولم تتراجع حدة هذا المرض إلا عندما اكتشف الطبيب وعالِم البكتيريا الألماني "روبرت كوخ" المُتَفَطِّرة السُّلِّيّة في 24 مارس من عام 1882 ونال عنها جائزة نوبل في الطب والفسيولوجيا لعام 1905.
وعلى الرغم من انحسار مرض "الدرن" في كثير من دول العالم، إلا أنه ما زال يمثل مشكلةً عالمية، فهو السبب الثاني للوفاة حول العالم بسبب الأمراض المعدية الأشد فتكًا، والسبب الرئيسي الثالث عشر للوفاة بصورة عامة، خاصةً في الدول الفقيرة والنامية، وتسبَّب في عام 2020 في إصابة 9.9 ملايين شخص بالعدوى، ووفاة مليون ونصف مليون مريض، وفق تقديرات منظمة الصحة العالمية.
المُتَفَطِّرة السُّلِّيّة
تتسبب المُتَفَطِّرة السُّلِّيّة في أغلب الإصابات بالمرض، وتصيب الرئة بشكل أساسي؛ إذ تؤدي إلى الإصابة بـ"السل الرئوي"، لكن البكتيريا قد تصيب أيضًا أي جزء من الجسم، مسببةً مجموعةً من الأمراض تُعرَف إجمالًا بـ"السل غير الرئوي".
وتكوِّن المُتَفَطِّرة السُّلِّيّة ما يُعرف بـ"بالأورام الحبيبية" التي لا تمثل ورمًا كما يبدو في ظاهر الاسم، بل منطقة صغيرة من الالتهاب تحتوي على البكتيريا وتتكون من العديد من الخلايا، على رأسها خلايا البلاعم المناعية، ويمثل الورم الحبيبي ساحة المعركة التي تُحدد على أساسها نتيجة الصراع بين بكتيريا الدرن والجسم، ففي أكثر من 90% من الحالات تنتهي المعركة لصالح الجسم البشري الذي ينجح باستخدام قواته (الخلايا المناعية عامة وتحديدًا الخلايا البلعمية) في إجلاء المعتدي، تاركًا ندبةً صغيرةً من النسيج الليفي علامةً على النصر.
انتشار المرض
لكن النصر لا يتحقق دائمًا لدى الجميع، فأحيانًا تنتصر المُتَفَطِّرة السُّلِّيّة وترتع وتتكاثر داخل البلاعم ثم تقتلها وتنتشر، ويتسبب حدوث النخر (وهو صورة من صور موت أنسجة الجسم التي تحدث عندما يتدفق قليل من الدم إلى الأنسجة) في منطقة الورم الحبيبي داخل الرئة في وصول البكتيريا المسببة للدرن إلى داخل مجرى الهواء، يتسبب ذلك في زيادة شدة المرض وانتقال عدوى المتفطرة السلية من شخصٍ إلى آخر، هذا التطور يتسبب فيه حدوث اضطراب في المناعية الفطرية التي تمثل البلاعم إحدى أذرعتها بشكل أساسي، وهو ما يؤدي إلى زيادة قابلية الإصابة بالمرض وتطوره.
آليات المناعة الفطرية
من أجل فهمٍ أفضل لآليات المناعة الفطرية في مرض الدرن، أجرى فريق بحثي من جامعة كامبريدج البريطانية دراسة نشرتها دورية "سيل" (Cell)؛ إذ قاموا بدراسة المرض في سمك الزرد.
ووفق الدراسة، يتميز سمك الزرد بقابليته للإصابة بنوع من البكتيريا الشبيهة بالمُتَفَطِّرة السُّلِّيّة يدعى المتفطرة البحرية (وهي صنف بكتيري يتسبب بعدوى تظهر على شكل ندبات جلدية منفردة أو متعددة تأخذ شكل العناقيد السطحية)، يؤدي المرض إلى حدوث نخر في الورم الحبيبي الذي ينتج في هذا النوع من الأسماك متسببًا في مرض يشبه كثيرًا الدرن الرئوي لدى البشر.
كما تمثل يرقات أسماك الزرد، التي لم تكوِّن مناعةً مكتسبةً ضد هذا النوع من البكتيريا، نموذجًا ممتازًا للمناعة الفطرية في التعامل مع هذا المرض، ويمكن متابعة تغيرات الخلايا المناعية والبكتيريا بها من خلال جسمها الشفاف خلال الأسابيع الأولى من حياتها.
مقاومة بكتيريا الدرن
من خلال دراسة هذا النموذج الحيواني (أسماك الزرد)، تعرَّف الباحثون على وظيفة مركب يُعرف بـ"هدف الثدييات من الراباميسين" (mTOR)، وتبيَّن لهم أن هذا المركب يعمل كعنصر مهم في مقاومة بكتيريا الدرن من خلال الحفاظ على الخلايا البلعمية، وأنه يحمي الخلايا البلعمية من القتل بواسطة بكتيريا الدرن من خلال زيادة الطاقة التي تنتجها الميتوكوندريا في هذه الخلايا.
ويوضح الباحثون أن "غياب هذا المركب في بعض الأسماك أدى إلى زيادة قابليتها للإصابة بالمرض، وأن التغيرات التي يُحدثها وجود هذا المركب تساعد الجسم على مقاومة البكتيريا من خلال تنظيم إنتاج الطاقة والتمثيل الغذائي، وبالتالي تمكين خلايا المناعة من الاستعداد والتعبئة اللازمَين لمقاومة العدو".
قدرة الميتوكوندريا
تقول لاليتا راماكريشنان -الأستاذ بوحدة المناعة الجزيئية في معهد كامبريدج للمناعة العلاجية والأمراض المعدية، والباحث الرئيسي في الدراسة- في تصريحات لـ"للعلم": تقدم الدراسة دليلًا واضحًا على أن معظم الإصابات بالبكتيريا المسببة للدرن يمكن التحكم فيها ببساطة من خلال إحداث دفعة صغيرة في قدرة الميتوكوندريا الموجودة في الخلايا المناعية على التمثيل الغذائي، وتمثل هذه الدفعة وسيلة المقاومة التي تمكِّن خلايا الجسم من عكس أو إبطال التأثير الذي تقوم به البكتيريا، والذي يمثل عنصر القوة لديها.
من جهته، يقول هشام السمدوني، استشاري أمراض الصدر بمستشفى صدر العباسية ومدرس الأمراض الصدرية بكلية الطب في جامعة نيو جيزة: تقدم هذه الدراسة معلومات مهمة فيما يتعلق بدور مركب "هدف الثدييات من الراباميسين" في تطوير الاستجابة المناعية ضد عدوى الدرن من خلال تعديل وظيفة الخلايا المناعية الرئيسية التي تهاجم البكتيريا المسببة للمرض،
يضيف "السمدوني" في تصريحات لـ"للعلم": تكشف الدراسة أيضًا عن وظيفة جديدة للمستضد المعروف باسم ESAT-6، إذ كنا نعرف أنه يمثل أحد العناصر التي تستخدمها البكتيريا المسببة للدرن في هجومها على الجسم، لكن هذا الدور في مقاومة المناعة لم يكن معروفًا من قبل؛ إذ تستخدمه البكتيريا من أجل تدمير الميتوكوندريا، وبالتالي حرمان الخلية من مصدر الطاقة والتسبُّب في موتها.
مركب هدف الثدييات من الراباميسين
يقوم مركب "هدف الثدييات من الراباميسين" بتنظيم العديد من الوظائف الحيوية في الخلية، وعلى رأسها تنظيم نمو الخلايا وتكاثرها وحركتها وتخليق البروتين.
ولم يكتفِ الباحثون في الدراسة بالتعرُّف فقط على دور مركب هدف الثدييات من الراباميسين في المناعة الخاصة بمرض الدرن، بل عملوا أيضًا على دراسة تأثير الأدوية المختلفة على هذا الدور، فقد استخدموا دواءً يُدعى "راباميسين"، وهو دواء يثبِّط وظيفة مركب هدف الثدييات من الراباميسين، ووجدوا أنه يزيد من قابلية الإصابة بالمرض لدى الأسماك.
وتدق الدراسة ناقوس الخطر ضد استخدام دواء "راباميسين" الذي يتم استخدامه حاليًّا كدواء مضاد الشيخوخة، ويعمل الدواء على تثبيط مركب هدف الثدييات من الراباميسين، ما يساعد على زيادة في الالتهام الذاتي، مقللًا من وجود البروتينات غير السليمة والعضيات التي تأثرت وظيفتها مثل الميتوكوندريا.
ووفقًا لنتائج الدراسة التي أجرتها "راماكريشنان" وفريقها البحثي، قد يؤدي دواء "راباميسين" إلى زيادة قابلية الإصابة بالدرن حتى لدى مَن تحميهم مناعتهم من المرض.
التقنيات الجينية
بدورها، ترى ريم القرشي -أستاذ أمراض الصدر بكلية طب قصر العيني- في تصريحات لـ"للعلم" أن "التقنيات الجينية الحديثة مكَّنتنا من معرفة الكثير عن المرض والبكتيريا المسببة له، خاصةً في المجموعة المحدودة من المرضى الذين يعانون من مقاومة شديدة للعلاجات المتاحة، وهو ما قد يتسبب في وفاتهم".
وتُعد "راماكريشنان" الهندية الأصل من الباحثين الرواد الذين كرسوا حياتهم لدراسة الدرن؛ إذ يصيب المرض الهنود كأعلى معدل في العالم، وتنتمي "راماكريشنان" إلى عائلة علمية، فشقيقها "فينكاترامان راماكريشنان" حصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 2009 بالمشاركة مع علماء آخرين، كما أسهمت أبحاث "لاليتا" في اكتشاف العديد من التفاصيل الجزيئية والخلوية للتفاعلات التي تتم بين بكتيريا الدرن والجسم في كل خطوة من خطوات العدوى، هذه النتائج ساعدت على وضع وتصور طرق جديدة ومختلفة تمامًا لعلاج المرض، ومنها دراسة أكدت أهمية وجود إمدادات كافية من الخلايا البلعمية داخل الورم الحبيبي، مشيرةً إلى أنه "على الرغم من أن الدفعات الأولى من الخلايا قد تموت مسببةً حدوث النخر وانتشار البكتيريا، إلا أن قدوم دفعات أخرى من البلاعم إلى منطقة المعركة يُسهم في إجلاء هؤلاء الضحايا من خلال عملية البلعمة التي تلتهم فيها الخلايا الجديدة بقايا الخلايا الميتة".
تطبيقات علاجية
يقول "السمدوني": التطبيقات العلاجية لنتائج الدراسة الحالية قد تسير في اتجاهين، الأول أن بإمكاننا استخدام أو ابتكار أدوية تحفز مركب هدف الثدييات من الراباميسين، وبالتالي تقوية المناعة، خاصةً لدى المرضى الذين لا يمكنهم التخلص من العدوى بأنفسهم، وعلى جانب آخر، قد يكون للأدوية التي تهاجم المستضد ESAT-6 دورٌ علاجي ضد الدرن نظرًا إلى تأثيره المميت على الخلايا المناعية، وبالتالي القضاء على السلاح الذي تستخدمه البكتيريا في قتل الخلايا البلعمية.
تختلف راماكريشنان مع هذا الطرح، قائلةً: لا أعتقد أننا بحاجة إلى زيادة تأثير مركبات "هدف الثدييات من الراباميسين" من خلال أدوية تعمل على تحسين المناعة ضد بكتيريا الدرن، فالمناعة الطبيعية التي تُسهم فيها هذه المركبات تكفي، وعلى العكس، قد يؤدي استخدام أدوية تدعم وظائف هذه المركبات إلى مضاعفات غير متوقعة، خاصةً فيما يتعلق بزيادة مشكلات الشيخوخة.
توخي الحذر
يعقِّب "السمدوني" قائلًا: لهذا السبب من الضروري توخِّي الحذر عند استخدام مثبطات مركب هدف الثدييات من الراباميسين؛ فعلى سبيل المثال، قد نحتاج بشكل واضح وصريح إلى استبعاد الإصابة بالسل النشط أو الخامل قبل بداية العلاج بهذه المثبطات من خلال عمل فحوص معينة مثل أشعة الصدر لاستبعاد السل الرئوي أو اختبار الحَقن تحت الجلد لاستبعاد السل الخامل، وقد نحتاج أيضًا إلى إضافة دواء مضاد للسل إلى هذه الأدوية في المرضى الذين أصيبوا سابقًا بالسل لتجنُّب حدوث انتكاسات إذا كان من الضروري استخدام هذه المثبطات.
تتفق "القرشي" مع "السمدوني" قائلة: بالإضافة إلى الفحوص التقليدية التي تُستخدم لتشخيص المرض، أصبح لدينا تحاليل تشخيصية تعتمد على استخدام التقنيات المناعية أو التقنيات التي تعتمد علي البيولوجيا الجزيئية، أعتقد أيضًا أن استخدام مثبطات مركب هدف الثدييات من الراباميسين يجب أن يكون محدودًا في المناطق الموبوءة التي ينتشر فيها المرض، حتى لا يزيد هذا الاستخدام من حدة المرض في هذه المناطق.
اضف تعليق