لِمَ نجد صعوبةً بالغةً في اتخاذ القرارات هذه الأيام؟ وفي أعقاب جائحة كوفيد، لِمَ تُشعِر هذه القرارات كثيرًا منا بالذنب، بصرف النظر عن المسلك الذي نختاره؟ يريد معظمنا تجنُّب الشعور بالذنب، بل ثمة ما يدفعنا دائمًا إلى التصرُّف بصورة تنُم عن ميول إيجابية تجاه المجتمع...
بقلم: لين بوفكا
لِمَ نجد صعوبةً بالغةً في اتخاذ القرارات هذه الأيام؟ وفي أعقاب جائحة «كوفيد».. لِمَ تُشعِر هذه القرارات كثيرًا منا بالذنب.. بصرف النظر عن المسلك الذي نختاره؟
يريد معظمنا تجنُّب الشعور بالذنب، بل ثمة ما يدفعنا دائمًا إلى التصرُّف بصورة تنُم عن "ميول إيجابية تجاه المجتمع"، أي عن طريق عمل تصرفات لا يعود نفعها علينا فقط، بل يعُم على بقية الناس أيضًا، ولكن كثيرًا ما تكون الخيارات المطروحة أمامنا متضاربة، فنجد أنفسنا عاجزين عن الفصل في الأمر باستجابةٍ واضحةٍ وصائبة، فقد تجد في بعض الأحيان أن طفلك سيتأذى من قرارٍ من المفترض أنه سيعود بالنفع على شريك حياتك، وربما تعارَض قرارٌ يتَّسق مع مبدأَي الصدق والعدل اللذَين تؤمن بهما مع مبدأ حماية شخصٍ ما في حياتك.
ولقد أضفت التقلُّبات الاجتماعية والسياسية والعلمية الدائمة التي صاحبت جائحة كوفيد حيرةً كبيرةً على عملية اتخاذنا للقرارات؛ فالتساؤل عما إنْ كان الناس سيستعملون كمامات لدى التجمهر، أو عن مدى سهولة انتقال العدوى في ظل انتشار أحدث متحور للفيروس، قد يجعلنا نرتبك إلى درجةٍ تجعلنا نقف عاجزين بلا حراك، وقد أظهرت الجائحة كيف يمكن لتحدياتٍ خارجيةٍ أن تؤثر تأثيرًا عميقًا على أبسط عمليات اتخاذ القرار بالنسبة لنا، لتتحول الرحلة الأسبوعية إلى محل البقالة من مجرد فعل روتيني إلى معضلةٍ أخلاقية.
ومن واقع خبرتي بصفتي اختصاصيةً نفسية، رأيت أن هناك طرائق لإدارة المشاعر المعقدة التي تؤجِّجها عملية اتخاذ القرار في زمن الجائحة، ولكن قبل أن آتي على ذكرها، دعونا نتحدث قليلًا عن المشاعر والسلوك، وعن الطريقة التي قلبت بها الجائحة كثيرًا مما نعرفه رأسًا على عقب.
تُظهر الأبحاث في مجال علم النفس أن جزءًا كبيرًا من سلوكنا يتسم بكونه اعتياديًّا؛ إذْ لدينا عادات يومية تخصّ ما نلبس، وما نأكل، والطريقة التي نختارها للانتقال من مكانٍ إلى آخر، ولكن في ظل جائحة «كوفيد»، اكتسب الناس عاداتٍ جديدةً ومتغيرة، وكثيرًا ما يبدو أن القرارات المصاحبة لهذه العادات لن تكون عواقبها حميدة، فتجدنا نقول في أنفسنا: "قد أتعرّض للفيروس، قد أمرض، قد أنقل العدوى إلى فردٍ من أفراد أسرتي يعاني نقصًا في المناعة"، ومن ناحية أخرى، فالتطعيم لا يقضي تمامًا على خطر العدوى، كما أنه لم يجعل حياة الناس تعود إلى سابق عهدها قبل تفشِّي الجائحة، وعليه، فمن المنطقي أن يَحذر المرء الإصابةَ بالفيروس المعروف اختصارًا باسم «سارس-كوف-2» أو نقلَ عدواه إلى غيره.
في الوقت نفسه، معظمنا قد علِم، عن تجربة، إلى أي مدى يمكن لاتخاذ القرارات أن يكون منهكًا، وأدرك أن طاقتنا العقلية محدودة في وجه هذا الإنهاك، إن القوة المعرفية لعقولنا تُستنزف في كل مرة نُفاضل فيها بين الحذر من خطر الإصابة بالمرض والسيناريوهات السلبية التي قد ترافق هذا الحذر (مثل تقلّص الوقت الذي يمضيه الصغار مع أقرانهم، وتداعيات ذلك على سعادتهم وتطورهم الاجتماعي)، كما تُستنزف هذه القوة أيضًا مع كل محاولة للخروج من المفاضلة بين الأمرين بمواءمات تكفل لنا "قدرًا كافيًا من الأمان"، يأتي ذلك بالتزامن مع أنباء تثير لدينا مشاعر عارمة (بدءًا من الحرب في أوكرانيا، مرورًا بحوادث إطلاق النار العشوائي، وصولًا إلى قرارات المحكمة العليا الأمريكية الصادرة مؤخرًا)، ومن ثَمَّ فإن قدرتنا المعرفية حاليًّا مُستنزَفة إلى آخر قطرة، وفي وقت لم تَـعُـد لدينا فيه عاداتٌ نركن إليها، وبلغت فيه مشاعرنا أوجَها، فكل قرار نضطر إلى اتخاذه يأتي على حساب سلامة عقولنا، ولو أضفنا إلى ما سبق حقيقة أن المعلومات التي نبني عليها قراراتنا تتغير باستمرار، فلا عجب أنه حتى المسائل الهيّنة تبدو عسيرةً في أعيننا.
وبصرف النظر عن الجائحة، فإننا لسنا دائمًا عقلانيين في اتخاذ القرارات، حتى في أفضل الأوقات، وقد أوضحت الأبحاث مرارًا وتكرارًا أن الناس لا يفاضلون دومًا بعناية بين جميع النتائج الممكنة ليتوصلوا إلى "أفضل" قرار ممكن، إن تحيزاتنا، ومعها الحيل المعرفية المألوفة التي تلجأ إليها عقولنا (مثل اتخاذ القرار بناءً على تلك الأمثلة التي تخطر على البال بسهولة بدلًا من دراسة الاحتمالات المعقولة، وهو ما يحدث عندما يتذكر الناس مثلًا حوادث تحطُّم الطائرات بسهولة، متجاهلين حقيقة أن حوادث السير المميتة أكثر منها شيوعًا)، كلها أمورٌ تؤدي بنا إلى إغفال بعض العوامل المهمة (ومن ذلك أن الإصابة بمرض «كوفيد» تنطوي على خطورة لكنها في معظم الأحيان غير مميتة)، ونظرًا إلى أن هذه العوامل لها درجات متفاوتة من الدلالة العاطفية لدينا، فإن للمشاعر -هي الأخرى- دورًا في عملية اتخاذنا للقرارات.
وها نحن ذا، نعاني الأمريّن كي نتخذ قرارات إزاء مسائل لا حلول مُثلى لها، ونواجه حيرةً قد أنهكتنا، ونكدح في فرز المعلومات كالباحث عن إبرةٍ في كومة قش، ونُبسِّط ما يَصعُب فهمه من المعلومات أو نحاول استيعابه، ونبذل أفضل ما في وسعنا يومًا بعد يوم، إننا بصدد التعامُل مع تداعيات قيود الصحة العامة، التي حدّت من انتشار «كوفيد» ولكنها خَلفَّت أثرًا على المجتمعات المحلية، ولدى الأطفال على وجه الخصوص، بصورٍ شتّى.
ماذا عسانا أن نفعل؟
يمكن للشعور المؤقت بالذنب أن يكون مزعجًا وأن يعبث بعملية اتخاذنا للقرارات، أو بعلاقاتنا بالآخرين، أو بجوانب أخرى من حياتنا اليومية، أما الشعور المتغلغل بالذنب، فيمكن ربطه بمشكلاتٍ أطولَ أمدًا، على سبيل المثال، نرى لدى مَن يعانون اضطراب ما بعد الصدمة ارتباطًا بين الشعور بالذنب والحالات الأشد من هذا الاضطراب.
وبالنظر إلى مدى تعدُّد مبادئنا وتنوُّعها، علينا أن ندرك أننا لا نستطيع تلبيتها جميعًا بكل قرار نتخذه: "لا أستطيع تقليص مخاطر التعرُّض لمرض «كوفيد» مع ضمان انخراط أولادي في نشاطات الطفولة المعتادة في الوقت نفسه".
وما الذنب إلا شعورٌ واحد من عددٍ لا يُحصى من المشاعر، غير أن القدرة على تسمية الشعور الذي ينتابنا، وكذلك معرفة الأسباب المحرِّكة له داخلنا، تساعدنا على التحرُّر من قبضة ذاك الشعور، ومن ثَمَّ تسمح لنا باتخاذ قراراتٍ أكثر اتزانًا، كما أنها تسهِّل علينا تقبُّل فكرة أننا نتخذ أفضل خيار ممكن بناءً على المعلومات المتاحة لنا، وأننا نتخذ ذاك الخيار في سياقٍ من الحيرة العارمة، وفي وقتٍ قد تكون عقولنا فيه مرهقةً تحت وطأة عبءٍ معرفيٍّ زائد.
ومن المهم كذلك أن نقرّ بأننا لا نستطيع التنبّؤ بالمستقبل أو التحكم فيه، وما إن يحلّ ذلك المستقبل، حتى نتمنى لو أننا كنا قد تصرَّفنا بطريقة مغايرة، ولكن القرارات (شأنها في ذلك شأن الناس أنفسهم) لا يمكن أن تتصف بالكمال، والشعور بالذنب حيال كل احتمال قبل أن يقع لن يغيِّر من المستقبل في شيء، ومن هنا، يمكننا بدلًا من ذلك تبنّي طريقةٍ في التفكير أكثر نفعًا، وذلك بالتركيز على العواقب الحميدة التي نرجوها، مثل التواصل مع شخصٍ نحبه، لا العواقب الوخيمة التي نخشاها، مثل الموت بمرض «كوفيد»، وسيكون من شأن ذلك أن يساعدنا على التوفيق بين أفكارنا ومبادئنا، وفهم أسباب اتخاذنا للقرارات التي نتخذها.
وماذا لو وقع ذلك الاحتمال المكروه وتسبَّبنا بالفعل في إيذاء أحدهم؟ عندها سيكون علينا الإقرار بما حدث وبدورنا فيه، وطلب السماح، من الآخرين ومن أنفسنا، ورفع بعض الأذى إنْ أمكن، والتعهّد بالتصرّف بطريقةٍ أفضل في المرة التالية، إن التعاطف مع أنفسنا، في الوقت نفسه الذي نراعي فيه ظروف الآخرين بتقبُّل عدم كمالهم، بإمكانه أن يخفف من وطأة شعورنا بالذنب؛ فكُلنا أبطال قصةٍ لم يرفع كاتبُها القلمَ بعدُ، كلنا لم ولن نصل إلى الكمال، وكلنا نسعى إلى فعل أفضل ما في وسعنا.
اضف تعليق