q
من المتوقع، في وقتٍ ما خلال الأسابيع القليلة القادمة، أن يصل العدد الرسمي لحصيلة الوفيات الناتجة عن جائحة «كوفيد-19» بعد عامين من بدايتها إلى مليون حالة وفاة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ففي حين تُعد الولايات المتحدة الدولة الأكثر ثراءً في العالم، ظلت في صدارة الدول من حيث أعداد الإصابات والوفيات بفارقٍ كبير...
بقلم: ستيفن دبليو. ثراشر

من المتوقع، في وقتٍ ما خلال الأسابيع القليلة القادمة، أن يصل العدد الرسمي لحصيلة الوفيات الناتجة عن جائحة «كوفيد-19» بعد عامين من بدايتها إلى مليون حالة وفاة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ففي حين تُعد الولايات المتحدة الدولة الأكثر ثراءً في العالم، ظلت في صدارة الدول من حيث أعداد الإصابات والوفيات بفارقٍ كبير، كما أن معدل الوفاة لكل نسمة بها هو الأعلى بين الدول الغنية.

تقلل وسائل الإعلام من حجم الفجيعة رغم هذا العدد الهائل من حالات الوفاة، ورغم الأسى الواضح الذي انطوى عليه العنوان الرئيس لصحيفة «ذا نيويورك تايمز» New York Times في مايو 2020، والذي جاء كالتالي: «وفيات الولايات المتحدة تقترب من 100 ألف، خسارةٌ لا تقدر بثمن»، يحدث ذلك مع أن الصحيفة خصَّصت صفحتها الأولى بالكامل آنذاك لنشر أسماء عددٍ ممن لقوا حتفهم من جَرَّاء الجائحة، فبرغم كل شيء، يشير لوب بي لوبين على موقع «تويتر» إلى أن العنوان الرئيس الأحدث الذي تصدَّر الصحيفة نفسها اتسم بالقسوة والغلظة؛ إذ جاء على النحو التالي: "900 ألف حالة وفاة، لكن الكثير من الأمريكيين يمضون قدمًا".

ليست صحيفة «ذا نيويورك تايمز» الوحيدة التي اتخذت هذا المنحى؛ فالعديد من الصحف الشعبية الكبيرة ظلت شهورًا تشجع -بالتواطؤ مع سياسيين من الحزبَين الرئيسين- على "عودة الحياة إلى طبيعتها"، ونتيجةً لذلك، نشأت حالة من القبول الزائف للكارثة بتصوير طوفان الوفيات ومعاناة المجتمع الأمريكي على أنهما شيءٌ عادي، مما أوحى للأمريكيين بطريقة خفية أنهم يريدون المضي قدمًا.

تُسهِم وسائل الإعلام الإخبارية في تهيئة الرأي العام لعودة الأعمال والأنشطة التجارية إلى الظروف ذاتها التي تسببت في حدوث هذه الأزمة الحالية من الأساس؛ فثمارُ العودة إلى الحياة الطبيعية ستكون من نصيب الأشخاص الذين يعملون بأمان ٍنسبي من منازلهم (وهم الجمهور الذي تستهدفه الكثير من الشركات المعلنة بالمؤسسات الإخبارية)، وذلك على حساب الأشخاص الذين يذهبون إلى العمل أو الدراسة بأنفسهم، والذين هم أكثر تعرضًا للإصابة.

منذ أسابيع قليلة، طرح ديفيد ليونهارت، المختص بكتابة الرسالة الإخبارية «ذا مورنينج» The Morning بصحيفة «ذا نيويورك تايمز»، سؤالًا على مايكل باربارو مذيع بودكاست «ذا دايلي» The Daily بالصحيفة، جاء فيه: "إذا كان «كوفيد-19» في طريقه لأن يصبح فيروسًا تنفسيًّا عاديًّا، فهل من المنطقي أن يُعامَل على أنه شيءٌ مختلف تمامًا وأن يُعطِّل حياتنا على هذا النحو الرهيب؟".

شعرت بالانزعاج مما سمعت؛ فهذا الخطاب المُوجَّه مألوفٌ لي، رجلان من ذوي البشرة البيضاء يُزيِّنان ما يريانه منطقيًّا، وينعتان أي تشكيكٍ في وجهة نظرهما باللامنطقية.

وعلى الجانب الآخر، فقدَ نحو 140 ألف طفل في الولايات المتحدة أحد القائمين على رعايتهم، بمعدل 1 لكل 500 طفل تقريبًا، هذه خسارةٌ فادحة، وبطبيعة الحال، هؤلاء الأطفال -على الأرجح- ليسوا من الكثيرين الذين هم على استعداد "للمضي قدمًا" (ناهيك بقرابة مليون مواطن أمريكي آخرين غير قادرين على المضي قدمًا لأنهم قضوا نَحْبهم بالفعل)، في أثناء هذه الجائحة، حصد الفيروس أرواح أشخاصٍ من السود بأعدادٍ غير متكافئةٍ مع الوفيات من البيض؛ إذ تُوفي نحو 50 ألف شخص من السود شهريًّا بسبب «كوفيد-19»، وهذا معناه أنه في أثناء قراءتك لهذا سيصير الكثير من الأطفال السود أيتامًا بسبب «سارس–كوف-2» في هذا الشهر.

إذًا هل من المنطقي الدعوة إلى إنهاء الجهود الرامية إلى الحد من حجم الخسائر في الأرواح، والادعاء بأنها تُلحق ضررًا بالأطفال، بينما أصبح الكثير منهم في الولايات المتحدة وفي جميع أنحاء العالم يعانون مرارة اليُتم؟

هل من المنطقي أن يستمر الديمقراطيون والجمهوريون والكثير من وسائل الإعلام الإخبارية في الدفع باتجاه ما سمَّاه الكاتب توم سكوكا سياسة «كوفيد-19» "غير المحدود"؟ اتخذت حكومات الولايات التي يهيمن عليها الحزب الديمقراطي -وهي كاليفورنيا، ونيوجيرسي، ونيويورك، وكونيتيكيت- إجراءاتٍ لإلغاء تعليمات ارتداء الكمامات في الأماكن المغلقة بعد بضعة أيام فقط من الرابع من فبراير، وهو اليوم الذي فيه كادت أعداد وفيات «كوفيد-19» تسجل الرقم القياسي لوفيات اليوم الواحد؛ إذ بلغت 3958 حالة وفاة، بل إن البيت الأبيض نفسه -وفق تقارير- "بدأ في التلميح إلى فرض واقعٍ طبيعي جديد قريبًا، وهو ما يُعد تحوُّلًا واعيًا في الرسائل المُرسلة إلى الشعب يهدف إلى جعله أكثر استعدادًا لتقبُّل سيناريو مواصلة الفيروس انتشاره بمستوياتٍ يمكن التعامل معها بشكلٍ أفضل"، عندما يصبح عدد الوفيات الشهرية من جرَّاء الإصابة بمرض «كوفيد-19» مساويًا لذروة عدد الوفيات الناجمة عن الإصابة بمرض الإيدز في أسوأ أعوامه (ما يقرب من 50 ألف حالة وفاة في عام 1995)، هل يُعقَل أن نتعامل مع فيروس كورونا المستجد باعتباره "فيروسًا تنفسيًّا عاديًّا"، وأن يُنظَر إلى ارتداء الكمامة والتهوية على أنهما المشكلة الأساسية التي تُثير القلق وليس ما شهدته البلاد من إنهاكٍ وخسائر في الأرواح؟

هل يُعقَل أن نتجاهل ارتفاع الحمل الفيروسي الجماعي في المجتمع الأمريكي ولا نبذل المزيد من الجهد لخفضه بهدف تقليل أعداد الأشخاص الذين يكونون عرضةً للعدوى ويصابون بالمرض وينشرونه وقد يموتون في نهاية المطاف؟

هل يُعقَل أن تُروِّج صحيفة «ذا نيويورك تايمز» لفعالية ستُعقد في شهر مارس باستضافةٍ من الصحفي ليونهارت تحت عنوان «الوضع الطبيعي الجديد، ندوة افتراضية حول الحياة والحب بعد «أوميكرون» Omicron»، والتي قد تتزامن مع بلوغ أعداد الوفيات بين الأمريكيين من جرَّاء الإصابة بمرض «كوفيد-19» مليون حالة رسميًّا؟

حسنًا، يتوقف الأمر على الإجراء الذي تحاول جاهدًا إضفاء المنطقية عليه.

فإذا كنت تحاول إقناع الناس بأن الإجراءات التي تتخذها الدولة حاليًّا سليمة، وبأن وقوع 50 ألف حالة وفاة شهريًّا شيءٌ طبيعي، فعندها سيبدو الأمر منطقيًّا.

وإذا كنت لا تريد أن يتساءل الناس عن سبب بلوغ حصيلة الوفيات من جرَّاء الإصابة بمرض «كوفيد-19» خلال عامين فقط 130% من حصيلة الوفيات من جرَّاء الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية HIV المُسبِّب لمرض الإيدز على مدار أربعة عقود في الولايات المتحدة الأمريكية، في حين أن الوفيات الناجمة عن «كوفيد-19» عالميًّا كانت أقل من 20% من إجمالي الوفيات الناجمة عن الإصابة بالإيدز في العالم، فعندها سيبدو الأمر منطقيًّا.

إذا كنت تريد التأثير في الرأي العام من أجل الموافقة على تخفيف تدابير الجائحة في الولايات المتحدة بدلًا من فرض تدابير أكثر شمولًا وفق ما تقتضي معدلات انتشار الفيروس في المجتمع، فعندها تبدو هذه الادعاءات منطقية.

لكن من غير الأخلاقي صناعة ما أسميه الطبقة المهمشة في أثناء تفشِّي الجوائح الفيروسية، ومن الخطأ التظاهر بأن وسائل الإعلام الإخبارية لم يكن لها يدٌ في خلق هذه الطبقة أو في إقناع الجمهور بحتمية وقوع أعداد هائلة من حالات الوفاة.

إنه لشيءٌ مُخزٍ أن تنخرط منافذ إخبارية كبيرة في الحديث عن المضي قدمًا، والعودة إلى الحياة الطبيعية بدلًا من نشر المزيد من التقارير وبث المزيد من البرامج التي تدعو إلى زيادة الجهود المموَّلة حكوميًّا الهادفة إلى التخفيف من الأعباء (مثل توفير المزيد من الكمامات المجانية عالية الجودة، وإتاحة المزيد من الاختبارات، وتحسين وسائل التهوية في مواقع العمل والمدارس) للحد من تصاعُد أعداد الوفيات.

كما أن الظواهر التي باتت معتادةً في الشارع الأمريكي (انتشار الاعتقالات، والطرد من السكن، والتشرد، وقلة الرعاية الصحية، وسوء التهوية، وغياب العدالة الاقتصادية) لا تزال إلى حدٍّ كبير بالمستوى ذاته من السوء.

في دورية «ذا نيشن» The Nation، كتب جريج جونسالفز -اختصاصي علم الأوبئة- يقول إن الاستعجال في "استعادة الحياة الطبيعية" ما هو إلا "أضغاث أحلام"، لقد صارت «استعادة الحياة الطبيعية سريعًا» عبارة تتردد كثيرًا في الآونة الأخيرة، سواءٌ بقصدٍ أو دون قصد، وهي تُعيد إلى الذاكرة عبارةً استخدمها مارتن لوثر كينج الابن في خطابه الذي ألقاه عام 1967 بعنوان «ما بعد فيتنام» Beyond Vietnam بكنيسة ريفرسايد حيث كان يعظ الحضور بشأن حالة من "الإلحاح الشديد الآن":

"نحن مضطرون في الوقت الحالي إلى التعامل مع الغد كأنه اليوم، فلقد أصبحنا في مواجهة حالةٍ من الإلحاح الشديد الآن، ففي هذا الجزء المُلغز الآخذ في التكشُّف من الحياة والتاريخ، ثمة أشياءٌ يُخشى من فوات أوانها، فلا يزال التسويف هو اللص الذي يسرق الوقت".

لو كان كينج لا يزال على قيد الحياة، فهل كنت تظن أنه كان سيقاتل من أجل استعجال العودة إلى الحياة الطبيعية التي كانت سببًا وراء هذا العدد الهائل من حالات الوفاة؟

اضف تعليق