السلالة المتحورة أوميكرون تكشف النقاب عن ضرورة التعايش مع مرض لا يكف عن يفاجئنا بتحديات تتغير يومًا بعد يوم، ففي الوقت الذي كان يأمل فيه كثير من الناس أن يشهد عام 2021 نهاية الجائحة، أبَتْ السلالة أوميكرون، المتحوِّرة من فيروس كورونا، إلا أن تذكرنا بقسوةٍ بأننا لم نُفلت بعدُ من براثنه...
السلالة المتحورة «أوميكرون» تكشف النقاب عن ضرورة التعايش مع مرض لا يكف عن يفاجئنا بتحديات تتغير يومًا بعد يوم، ففي الوقت الذي كان يأمل فيه كثير من الناس أن يشهد عام 2021 نهاية الجائحة، أبَتْ السلالة «أوميكرون»، المتحوِّرة من فيروس كورونا، إلا أن تذكرنا بقسوةٍ بأننا لم نُفلت بعدُ من براثنه. فبدلًا من أن يشهد العام 2022 إعداد خطط العودة للحياة "المعتادة" التي ألفناها قبل الوباء، بات حريًا ببلدان العالم أن تدرك أن فيروس «سارس-كوف-2» SARS-CoV-2 أضحى جزءًا من حياتها، وعليها التعايش معه.
إذن، ينبغي للدول أن تقرر كيف يمكنها التعايش مع المرض، والتعايش هنا لا يعني، بالطبع، تجاهل هذا الفيروس؛ إذ بات على كل منطقة أن تتدبر كيفية الموازنة بين ما تكبَّدته من وفيات وما تسببت فيه الجائحة من حالات إعاقة، فضلًا عن اضطراب الحياة العامة، من جهة، وبين ما تتحمله من تكلفة مالية ومجتمعية لاتخاذ التدابير الرامية للحد من انتشاره، على غرار تعليمات ارتداء الكمامات، وإغلاق الشركات والمحال التجارية، من جهةٍ أخرى. ويختلف تحقيق هذا التوازن من مكان لآخر، ويتفاوت بمرور الزمن، مع توافر المزيد من العلاجات واللقاحات، ومع ظهور سلالات متحورة جديدة أيضًا.
كما أن السلالة المتحورة «أوميكرون»، التي ظهرت في أواخر شهر نوفمبر الماضي، قد سلَّطت الضوء على التحديات الحياتية المستمرة التي يواجهها الكثيرون في ظل انتشار هذا الفيروس في صوره المتعاقبة. كانت بعض البلدان تواجه بالفعل ارتفاعًا في عدد الحالات المُصابة بالسلالة «دلتا» المتحورة شديدة الانتشار، بيد أن اللقاحات والإصابة السابقة تؤمِّنان مستوياتٍ مرتفعة نسبيًا من الحماية ضد تلك السلالة، لا سيّما في مواجهة الأعراض الشديدة للمرض.
وكان من المتوقع أن تُضعِف الطفرات التي تنتاب الجينوم الفيروسي تلك المناعة شيئًا فشيئًا، وبالأخص قدرتها على منع انتقال عدوى الفيروس، غير أن الصفعة التي سددتها «أوميكرون» للمناعة فاقت تلك التوقعات سرعةً وقوة؛ فبدا واضحًا، في الوقت الحالي، أن حالات تجدّد الإصابة بعدوى فيروس «سارس-كوف-2» أصبحت أكثر شيوعًا، وأن فعالية بعض لقاحات «كوفيد-19» الأكثر استخدامًا وانتشارًا قد تداعت في مواجهة السلالة المتحورة. ومن ثم، فقد أصبح من الضروري توفير جرعات معزِّزة للقاحات، التي طُورت خصيصًا لصد هجمات سلالة متحورة سابقة، من أجل توفير مستوى من الحماية يحول دون الإصابة بعدوى.
"الآمال التي كان يعقدها البعض على قدرة اللقاحات والإصابة السابقة على تحقيق مناعة القطيع قد تلاشت جميعها تقريبًا"، ومع ذلك، ثمة أخبار ربما تدعو للتفاؤل. فيبدو أن اللقاحات، لا سيّما عند تعزيزها بجرعة إضافية، ما زالت قادرةً على توفير قدر كبير من الحماية ضد الأعراض الشديدة للمرض، والوفاة. وتشير بيانات لدراسات كانت قد أجريت على الحيوانات، في أعقاب ظهور المتحوّر «أوميكرون»، إلى أن هذا المتحور قد يتسبب في حالات وأعراض مرضية تختلف عما كانت تنشأ جراء سابقاته من السلالات المتحورة؛ إذ تصيب المجاري التنفسية العليا أكثر من الرئتين. وفضلًا عن ذلك، تشير البيانات الصادرة عن العديد من الدول إلى انخفاض حدة أعراض الإصابة بالمرض، إلا أن الوقوف على ما إذا كان ذلك راجعًا للسلالة المتحورة نفسها أو نتيجة اكتساب الكثير من الناس لمناعة سابقة ضد الفيروس يتطلب إجراء مزيد من الدراسات.
ومع ارتفاع معدلات الإصابة في جميع أنحاء العالم، وعجز الكثير من البلدان عن الحصول على ما يكفيها من اللقاحات، يُتوقع أن تستمر المزيد من متحورات الفيروس «سارس-كوف-2» المثيرة للقلق في الظهور. وبالنظر إلى ما نشهده في حالة السلالة «أوميكرون»، فقد بات توقع المسار الذي ستسلكه هذه السلالات المتحورة أكثر صعوبةً، أخذًا في الحسبان التعقيد الذي يميز تطور الفيروسات، والمناعة السابقة ضد الفيروس، وهو ما يُصعِّب دراسة النماذج التي سبق استخدامها في توقع مسار الجائحة، ويزيدها تعقيدًا؛ إذ سيحتاج واضعو النماذج، في هذه المرحلة، إلى مراعاة الآثار المترتبة على اللقاحات، والإصابات السابقة، وضعف المناعة بمرور الوقت، والجرعات المعزِّزة، والسلالات المتحورة من الفيروسات؛ كما سيكون عليهم أيضًا، مع مرور الوقت خلال هذا العام، أخذ تأثير العلاجات الجديدة المضادة للفيروسات بعين الاعتبار.
ولكن يبدو جليًّا أن آمال البعض في قدرة اللقاحات والإصابة السابقة على تحقيق مناعة القطيع ضد «كوفيد-19»، وهو احتمال مستبعد منذ بداية الجائحة، قد تلاشت جميعها تقريبًا. ويعتقد الكثير من الباحثين بأن فيروس «سارس-كوف-2»، سيصبح متوطنًا، ولن يندثر؛ ذلك أن اللقاحات تمكنت من توفير الحماية في مواجهة الأعراض الشديدة للمرض والوفاة الناتجة عن الفيروس، دون أن تتمكن من القضاء عليه تمامًا.
وبحسب ما تبين لنا عند تفشي السلالة «أوميكرون»، وغيرها من السلالات المتحورة، فإن ذلك يذكّرنا بضرورة توصيل اللقاحات إلى البلدان التي تعاني نقصًا في إمداداتها في الوقت الحالي. وثمة الكثير من الجهود والمساعي التي يُتوقع أن تؤتي ثمارها في تعزيز إنتاج اللقاحات في بلدانٍ عدة، لم تُعرف يومًا بأنها مركز لصناعة اللقاحات، ومنها جنوب إفريقيا. مثل هذه الجهود، الرامية لدعم فرص الحصول على اللقاح على مستوى العالم، ستعود بالنفع على جميع البلدان؛ إذ ربما تظهر سلالات متحورة فتاكة، على أغلب الظن، وتتفشى في المناطق التي ينخفض بها معدلات التطعيم، ثم سرعان ما سوف تمتد آثارها إلى البلدان التي تنخفض بها مستويات الفحص والرصد الجينومي للسلالات.
فصلٌ جديد
لحسن الحظ، فقد أعدَّ العلماء عدتهم ليشهد عام 2022 تعزيز خطوط دفاعنا في مواجهة الجائحة. فمن المقرر طرح لقاحات جديدة على نطاقات أكثر اتساعًا، منها اللقاحات القائمة على البروتين، التي قد تنخفض تكلفتها وتحظى بشروط تخزين أقل صرامةً، قياسًا إلى اللقاحات القائمة على الحمض النووي الريبي المرسال (mRNA). وخلال شهر ديسمبر، اعتمدت منظمة الصحة العالمية اللقاح البروتيني – بعد طول انتظار – الذي أنتجته شركة «نوفافاكس» Novavax، التي يقع مقرها في مدينة جايثرسبيرج بولاية ميريلاند الأمريكية، لأغراض الاستخدام في حالات الطوارئ. ويُزمع أن تحدد التجارب الإكلينيكية الحالية ما إذا كانت اللقاحات الواعدة قيد المراجعة، التي تستهدف سلالات متحورة بعينها من فيروس كورونا، أو التي تؤخذ عن طريق الاستنشاق أو الفم؛ عوضًا عن الحقن، ستجدي نفعًا أيضًا. وتخضع العديد من اللقاحات المُستنشَقة الواعدة للاختبارات الإكلينيكية، ومن بينها عقار أنتجته شركة «كانسينو» CanSino، الكائنة في مدينة تيانجين الصينية؛ وآخر طورته شركة «أسترازينيكا» AstraZeneca، التي يقع مقرها في مدينة كامبريدج بالمملكة المتحدة.
وفي هذه الأثناء، ظهرت عقاقير جديدة مضادة للفيروسات، تُعطَى في هيئة أقراص، مما يجعل استخدامها سهلًا منذ بداية الإصابة لتقليل فرص تفاقم حدة الأعراض أو الوفاة، لتتبنى بذلك نهجًا مختلفًا ضمن جهود مكافحة مرض «كوفيد-19». وقد أجازت بعض البلدان، خلال الأشهر القليلة الماضية، استخدام عقارين من هذا القبيل: وهما عقار «مولنوبيرافير» Molnupiravir، الذي طورته شركة «ميرك» Merck الواقعة في كينيلوورث في ولاية نيوجيرسي الأمريكية، بالتعاون مع شركة التقنيات الحيوية «ريدجباك» Ridgeback، ومقرها مدينة ميامي بولاية فلوريدا الأمريكية؛ وعقار «باكسلوفيد» Paxlovid من إنتاج شركة «فايزر» Pfizer، ومقرها ولاية نيويورك. ومن المتوقع ظهور بيانات لتجارب إكلينيكية بالغة الأهمية، أُجريت على عقاقير واعدة أخرى، خلال العام المقبل.
ستعزز جميع هذه المساعي والجهود من قدرة بلدان العالم على السيطرة على تفشي فيروس «سارس-كوف-2»، وتبعث بارقةَ أمل ودعوةً للتفاؤل. لكن إذا تسنى لنا أن ننظر من منظور الواقع، سندرك أن الفيروس سيستمر في الانتشار والتطور، وأن الحكومات ما زال عليها اتباع توجيهات العلماء ومشورتهم. وإذا أُضيف إلى ذلك أننا لن نتمكن دومًا من التنبؤ بمسار الفيروس، تتبدَّى لنا أهمية التكيف مع هذا الواقع الجديد.
اضف تعليق