في الحديث عن أنظمة الحكم، أسهب المفكرون والباحثون في الحديث عن الدولة ومؤسساتها ووظائفها وسبل تحقيق اهدافها في استتباب الامن والاستقرار سياسياً والازدهار اقتصادياً، فيما يبدو الإقلال في الحديث عن الحاكم، ومواصفاته وشروط النجاح في شخصيته وعمله، وربما مردّ هذا التوجه الملحوظ في المؤلفات المترجمة -على الاغلب- أن البلاد التي صدرت منها هذه المؤلفات والافكار، في مرحلة متقدمة من تشكيل نظام الحكم، متجاوزة شخصية الحاكم، إذ كيفما تكون الدولة يكون الحاكم، فهو يكون رئيساً للجمهورية في النظام الفيدرالي الاميركي، كما يكون رئيساً للوزراء في نظام برلماني، كالذي نراه في فرنسا وبريطانيا، أما وظيفته الاساس فهي؛ الحفاظ على المصالح؛ السياسية للبلاد، والتجارية لأصحاب الرساميل، بقطع النظر عن نوع الوسائل وحجم التكاليف.
بينما النظرية الاسلامية في الحكم، فانها تبحث بالتفصيل في أمر الحاكم او القائد، وبما أن نظام الحكم والدولة بشكل عام، يغلب عليها البعد الانساني، فمن المنطقي البحث عميقاً في أمر الحاكم المتمخّض من رحم المجتمع والامة.
ويأتي القرآن الكريم في طليعة النصوص الدينية التي تبلور نظرية متكاملة لشخصية الحاكم والقائد، وتحدد له مواصفات للنجاح، كما تبين مكامن الانحراف نحو الخطأ والفشل، لذا نقرأ مفردات مثل "الطغيان" و"الاستكبار"، التي تأتي عنواناً لنماذج قيادية فاشلة لم تقدم للشعوب سوى الدمار وسفك الدماء، وهذا المآل بحد ذاته، كان المقبرة لهم، سقطوا فيها طوعاً وهم لا يشعرون.
هذه العناوين المنتجة للفشل، تأتي من نزعة قديمة في البشر بشكل عام، وهي؛ الاستقواء على الآخر، ظناً من البعض أنه بقدر تحقيق نسبة أكبر من الاستقواء او "التغوّل" – إن جاز التعبير- سيحظى بأكبر قدر من المقبولية من عامة الناس، وهي القاعدة التي وضع بعض الفلاسفة نظرياتهم على اساسها، فظهرت "جمهورية" افلاطون، ثم جاء المتقفي أثره والعالم المسلم؛ ابو نصر الفارابي ليقدم "المدينة الفاضلة" بأن الحكم للأقوى، وأن نظام الحكم في مدينته إنما هي مثل جسم الانسان، فيه الاطراف والبطن والكتف والرأس، وايضاً القلب، ولأن القلب مصدر الحياة، فانه اكثر شرفاً وفضلاً على سواه، فليس أي شخص بامكانه ان يكون قائداً ورئيساً استعاره من استاذه اليوناني افلاطون.
هذه الرؤية، انتجت من قبل حكاماً مثل فرعون ونمرود واسماء اخرى يشير اليها القرآن الكريم، كما انتجت اسماء قريبة على الفلاسفة والمفكرين المسلمين، ومن بعدهم وحتى يومنا هذا، كما لو أن ثمة استساغة غريبة لحالة قدرية كامنة في النفوس، علماً اننا نقرأ الفجائع المريعة من هؤلاء، كما نشهد اليوم ونلمس بكامل حواسنا، صنيع نظرائهم واسلافهم؛ الحكام في زماننا المعاصر، ولعل أقربهم مثالاً؛ صدام، ولكن؛ مع ذلك، نلاحظ – وبشكل مذهل- تكرار تجربة سحيقة في التاريخ، مثل تجربة قوم نبي الله صالح، عليه السلام، في يومنا هذا مع هذا الشخص (صدام) الذي عاش طفولته طريداً محملاً بالعقد النفسية، ثم وجد نفسه وسط القصر الجمهوري في شبابه محملاً بكل وسائل القوة، من سلاح، واموال، و افراد منظمين على يد حزب هو الآخر يمتلك عناصر القوة الكافية للحكم بكل الوسائل.
ولكن؛ ما علاقة قوم ثمود بالشعب العراقي؟!
أولئك الناس في إطار المجتمع البشري، طالبوا من نبيهم بأن يعيّن عليهم قائداً عسكرياً ذا مالٍ، ربما كان المال معيار القوة آنذاك، من اجل ان يخوضوا القتال ضد طاغية يؤذيهم ويعذبهم دائماً (جالوت)، بينما نبيهم عرض عليهم ملكاً بمواصفات أخرى؛ {بسطةً في العلم والجسم}، ولم ينضوي تحت لوائه إلا قليل. وبعد عدة آلاف من السنين العجاف، وتعاقب مراحل تاريخية على البشر والانسانية، نلحظ المقبولية الواسعة لصدام، الرجل الذي ظهر امام الشعب العراقي كرجل قوي في سرعة سيطرته على مؤسسات الدولة والحزب وسحب البساط من تحت ارجل الذين أتوا به الى الحكم بالحديد والنار.
إن ابرز صفة في هكذا حكام يكسبوا من خلالها المقبولية وحتى الشرعية، تطبيقهم مبدأ "العصا والجزرة"، والعمل بقوة وبشكل منظم ومدروس لتكريس الاطمئنان النفسي بواقع آمن على لقمة العيش والمواصفات الجيدة لحياة مرفهة بشكل او بآخر، فضلاً عن التغرير أكثر – احياناً وحسب الحاجة- بمزيد من العطاء، من امتيازات وعقارات واموال وغيرها تؤكد سلامة الحاضر وحسب، فيما يتم حجب المستقبل وآفاق المرحلة التي يعيشها الناس، فقد ثبت عبر التاريخ أن العطاء المادي والتعبئة المعنوية، تخفي ورائها اندفاع سريع نحو هاوية حرب او كارثة ما، فذاك هتلر الذي خاطب شعبه الذي انتخبه وكاد يعبده، أن ينحدر من أرقى جنس في العالم، لذا فان الالماني هو سيّد على من سواه في جميع انحاء العالم، وهكذا فعل صدام عندما عرّف العراق بأنه "البوابة الشرقية للوطن العربي" وأنه سليل أولئك الفاتحين و... وان الجندي العراقي والجيش الذي يقاتل في صفوفه، أرقى وأعظم جيش في العالم، كما تحدث عن الانسان العراقي بشكل عام، ومن يكون...؟!
وعندما نبحث اليوم عن نظام الحكم الناجح والدولة الناجحة والرشيدة، ما علينا إلا إعادة النظر، ليس في شخصية الحاكم ومنشئة ومواصفاته، وحسب، وإنما في تلك الثقافة التي تنتج الحاكم ذو المواصفات السيئة، فالقدح غير النظيف ليس بوسعه ان يقدم لك ماءً نظيفاً سائغاً للشرب، فمادامت ثقافة القوة والاستقواء تضرب بجذورها في اعماق النفوس لن ينمو ولا موظف بسيط لدينا، فضلاً عن أن نربي وزيراً او مديراً او رئيساً، نرجو نزاهته وحكمته وعدالته.
اضف تعليق