ويتجلى في هذا البند من وثيقة الصلح ميل الإمام الحسن إلى سياسة اللاعنف إذ يشير إلى ان الناس أمنون ولا يتحقق الأمن إلا بالقضاء على كل عوامل الخوف على النفس والمال، ويؤكد ان هذه الغاية عامة شاملة للجميع بمختلف ألوانهم أو أشكالهم فالناس كما يقول النبي الأكرم سواسية...
بعد سلسلة من الأحداث الأليمة التي مرت بها الأمة الإسلامية عقب الخداع الذي مارسه معسكر معاوية ابن أبي سفيان في حرب صفين وانقسام الجيش الذي بمعية أمير المؤمنين علي عليه السلام إلى عدة أقسام، أبرزها الخوارج الذين فتحوا الباب مشرعاً لفتن وتداعيات خطيرة حاقت بالدولة الإسلامية، انتهت إلى مقتل الخليفة الشرعي علي عليه السلام في مسجد الكوفة، فبدأت بذلك مرحلة مختلفة تماماً في حياة المسلمين، حيث بايع الناس الإمام الحسن (عليه السلام) بالخلافة، بيد ان الأخير ورث تلك تركة ثقيلة جداً متمثلة بمجتمع غير متماسك ومنقسم إلى أحزاب وفئات عدة وأهم تلك الفئات:
1- الخوارج: ممن خرجوا عن طاعة الإمام علي عليه السلام وأوغلوا بالعدوان على أنصاره فاضطر لحربهم وكان الكثير منهم أو من المتعاطفين معهم في جيش الإمام الحسن فهم معروفون بإثارة القلاقل ويتعجلون بالحكم.
2- الأمويون أو من سار على نهجهم: وهم على درجات:
- فئة من الطامعين ممن وجدوا في عدل الإمام فرصة لتأليب الناس واستمالتهم نحو عسكر معاوية الذي وعدهم ومناهم بالعطاء بلا أدنى مراعاة للعدل أو الإنصاف.
- فئة المتربصين بأهل البيت لأحقاد قديمة وضغائن في نفوسهم إزاء النبي الأكرم وأهل بيته الأطهار.
- الفئة النفعية وهم المترقبون لطرفي النزاع للذهاب إلى معسكر المنتصر طمعاً بالمغانم.
3- الغوغاء: وهم فئة كبيرة من الناس كانوا بلا هدف أو هدى بل هم يميلون مع الريح.
4- المؤمنون: وهم القلة الخيرة في جيش الإمام الحسن عليه السلام وبسبب ندرة هذه الفئة كانوا غير مؤثرين في مسار الأحداث.
أدرك الإمام الحسن هذه الخارطة المشوهة لجيشه مبكراً وخاطبهم في المدائن قائلاً: ((وكنتم في مسيركم إلى صفّين، ودينكم أمام دنياكم، وأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم، وأنتم بين قتيلين: قتيل بصفّين تبكون عليه، وقتيل بالنهروان تطلبون منّا بثأره، وأمّا الباقي فخاذل، وأمّا الباكي فثائر)).
ولعلم معاوية بنقاط ضعف جيش الإمام الحسن لم تتوقف دسائسه عند حد معين وساعد على ذلك وجود المنافقين وقلة الوعي إذ أخذت الشائعات مأخذها من الجيش وبدت مراسلات معاوية تأخذ طريقها إلى قادة الجند والمؤثرين في جيش الحسن وأخذ يمنيهم بالأمرة والمال والزواج من بناته فاجتهد الكثير منهم في محاولات لا أقلها الشروع بقتل الإمام الحسن نفسه ليصل الأمر إلى استسلام ابن عم الإمام الحسن وقائد الجيش عبيد الله بن عباس للعدو ومعه عدد كبير من القواد والجنود، حيث بلغ عدد الفارّين والمستسلمين ثمانية آلاف من أصل جيش تعداده عشرون الفاً، مقابل ستين الفاً هو جيش الشام.
وبعد المسار المعقد للأحداث تم الصلح بين الطرفين رعاية وحماية لوحدة صف المسلمين وخوفاً من الإمام الحسن على أنصاره وشيعته من الهلاك واشترط في الصلح العديد من الشروط التي يمكننا ان نقرأها في سياق اللاعنف الذي يربينا عليه أهل البيت عليهم السلام ومنهم كريم هذه الأسرة الطاهرة الحسن عليه السلام وفق الآتي:
أولاً: نظام الحكم ودستور الدولة:
حيث اشترط الإمام ان يؤول الأمر في البداية إلى معاوية على ان يحكم بين الناس بكتاب الله العزيز وبسنة النبي الكريم وبسيرة الخلفاء الصالحين، ونقرأ في هذا البند حرص الإمام على عدم سفك الدماء والحفاظ على الدولة الإسلامية بدستورها الخالد القرآن الكريم وبسنة النبي وسيرة من صحب النبي من الصالحين ليكون ما تقدم معيار لإسباغ الشرعية من عدمها على حكم معاوية وفق ما تقدم، ونشير إلى دقة انتقاء الإمام الحسن عليه السلام لمفردة التسليم والتي تقودنا في النهاية إلى السلم والسلام، وتعني ان انتقال السلطة من الحاكم الشرعي (الإمام الحسن) إلى الحاكم المقبل بشكل هادئ وبلا أي عنف أو سفك للدماء أو انتهاك للحرمات، بشرط ان يتم ذلك بالسير وفق القيم ذاتها التي انتهجت في صدر الحكم الإسلامي وهي العمل بكتاب الله وسنة النبي امتثالاً لقوله تعالى "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ".
ثانياً: طريقة اختيار الحاكم الإسلامي بعد الصلح:
إذ أشارت وثيقة الصلح إلى ان الأمر بعد هلاك معاوية يكون إلى الإمام الحسن أو الإمام الحسين عليهما السلام لضمان عودة الحق إلى أهلة وهذا البند يشير إلى فراسة الإمام ومعرفته بالخصم وما ينوي ان يقوم به من تغيير في شكل وأسلوب اسناد السلطة بالدولة الإسلامية من الشورى واختيار الأنسب والأصلح إلى الوراثة وانتقال السلطة إلى عقب معاوية، والسبب في تثبيت هذا البند ليؤسس الإمام الحسن عليه السلام لقاعدة إسلامية أصيلة ألا وهي الالتزام بالمواثيق والعهود والذي ينكثها يكون قد خالف الله وسنة النبي وحقيق بعدم الطاعة إذ يقول تعالى "وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا".
ثالثاً: منهج الحكم الحق هو الاعتدال والإنصاف:
حيث تضمن الصلح شرطا يتضمن ترك سب أمير المؤمنين علياً على المنابر وذكره بسوء في قنوت صلوات ممثلي الدولة في الصلاة العامة، فهذه السياسة كانت قد تسببت بتضليل الرأي العام وتكوين رأي مناهض لأهل البيت ما مهد الطريق إلى نشوء مذاهب إسلامية معادية للخط الإسلامي الأصيل والنهج القرآني القويم فكانت وبحق السبب في ضعف الأمة ووهن إرادتها، وكانت بداية الانهيار الحتمي للحكم الإسلامي فيما بعد، ففعل السب لوحده يتضمن ولا شك عنفاً لفظياً موجها للنيل من مشاعر كل المسلمين وبخاصة من شيعة أهل البيت بغية إلحاق الضرر النفسي بهم، والنيل من أحد أهم الرموز الإسلامية التي نذرت نفسها وكل ما تملك لخدمة الدين والإنسان قال تعالى "وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ" وقال تعالى أيضاً "وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا".
رابعاً: العدالة الانتقالية:
إذ حرص الإمام الحسن على تحقيق العدالة بين الناس ممن تحملوا أعباء الحروب السابقة تحت راية الإمام علي عليه السلام حيث اشترط الحسن عليه السلام في الصلح ان يفرق مبلغ لا يقل عن ألف درهم في أولاد ويتامى قتلى المسلمين في تلك الحروب، فمن مقاصد العدل والمساواة ان يتحمل كل فرد في المجتمع جزء من الأعباء العامة ومن أخص الأعباء دفع الأعداء ولما يتصدى مجموعة من الأفراد للعدو فيقتلوا أو يصابوا بعوق أو عاهة فلابد من تعويضهم وأسرهم وهذا ما حرص الإمام الحسن على تضمينه في بنود الصلح ليضمن حق هذه الأسر المسلمة ولتجنيب المجتمع مخاطر ان يحوق بهؤلاء الظلم والفقر والفاقة فيكونوا عرضة للتهميش أو يتعرضوا لمخاطر اجتماعية، وإلى هذا المعنى يشير القرآن الكريم حين يعد ان إحياء نفس واحدة يعدل عند الله إحياء الناس جميعاً "مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ"، وفيما تقدم التفاته كريمة للإمام تنم عن حرص على المجتمع الإسلامي ومحاولة لبناء الثقة بين الحاكم والرعية وفق منهج الاعتدال.
خامساً: وظيفة الدولة الأساسية في تحقيق الأمن والعيش الكريم:
إذ ورد النص في وثيقة الصلح على: ((أنّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله، في شامهم، وعراقهم، وحجازهم، ويمنهم، وأن يؤمن الأسود والأحمر، وأن يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع أحداً بما مضى، ولا يأخذ أهل العراق بإحنّة، وعلى أمان أصحاب علي (ع) حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة علي (ع) بمكروه، وأن أصحاب علي (ع) وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وأن لا يتعقب عليهم شيئاً ولا يتعرض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كل ذي حقّ حقه، وعلى ما أصاب أصحاب علي حيث كانوا)).
ويتجلى في هذا البند من وثيقة الصلح ميل الإمام الحسن عليه السلام إلى سياسة اللاعنف إذ يشير إلى ان الناس أمنون ولا يتحقق الأمن إلا بالقضاء على كل عوامل الخوف على النفس والمال، ويؤكد ان هذه الغاية عامة شاملة للجميع بمختلف ألوانهم أو أشكالهم فالناس كما يقول النبي الأكرم سواسية كأسنان المشط يقول تعالى "فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ" ويقول أيضاً في مورد أخر "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ"، وان على الحاكم الإسلامي العفو عما يبدر من بعض الأفراد فليس غريباً عن الحسن عليه السلام مثل هذه الالتفاتة فمن قبله أمير المؤمنين علي عليه السلام يوصي عامله على مصر فيقول ((وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك. وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم. ولا تنصبن نفسك لحرب الله فإنه لا يدي لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته))، فالعفو زينة المتقين نعم وهو من تجليات ثقافة وسياسة اللاعنف التي سار بنهجها الحسن عليه السلام.
اضف تعليق