في بيروت تسبب تفاقم أزمة النفايات وانتشارها بشكل كبير في تلك العاصمة الجميلة؛ في خروج حراك شعبي ليصطدم برجال الأمن، مظاهرات خرجت عن الحدود ربما، فقابلتها القوات الامنية بالغاز المسيل للدموع لتفريقها ولكن الاصرار لدى الشعب اللبناني موجود وسيستمر لحين تحقيق مطالبهم التي تجاوزت النفايات الى النفايات السياسية، حسب ما اعترف به السيد تمام سلام رئيس الوزراء اللبناني حينما قال "موضوع النفايات هو القشة التي قصمت ظهر البعير لكن القصة اكبر بكثير من هذه القشة هذه قصة النفايات السياسية"، طلعت ريحتكم، شعار تلك المظاهرات ويبدو أن الرائحة المقصودة هي ليست رائحة تعفن النفايات في شوارع المدينة فقط؛ بل يتعدى ذلك الى النفايات السياسية التي تتمثل بالفساد.
في العراق، لدينا كل أنواع الروائح، منذ زمان بعيد، بالنسبة للنفايات التي تملأ الشوارع فحدث ولا حرج ورائحتها منذ سنين تزكم انوفنا بقوتها، وكل يوم لنا نوع جديد وبتوليفة حديثة، حين تتجمع النفايات الغريبة لأيام عديدة دون أي إكتراث من الدوائر البلدية، الغافية على نغمات الفساد الشيطانية تعبث بقلوب رجالها نوازعهم الفاسدة، روائح نتنة ندمن شمها عن طيب خاطر لإعتيادنا عليها وعلى مناظرها في كل محلة من محلات، أم الحضارات بغداد، وكل زقاق وكل شارع عام عودت فيه الامانة اصحاب المطاعم والمحلات أن يضعوا، زبالتهم بما فيها من فضلات الاطعمة، على الجزرات الوسطية للشوارع التي صرفت عليها مليارات لإنجازها، بل في كل زاوية ونستغرب إذا لم نجد فيها كومة من الازبال على اختلاف انواعها لأننا كشعب لم نسطع خلال 12 سنة من الخروج في ثورة على النفايات كما حدث في بيروت، أما لماذا ذلك ؟ فلأننا بمرور الوقت استسلمنا لهذا القدر وآمنا به، بعدما أخذ منا القتل مأخذاً عظيماً أبان الفترة السوداء من تأريخ الطائفية البغيض، فلقد أرونا الموت فرضينا مكرهين بالحمى، كما يقال، ولم تعد تلك النفايات مصدر ذي قلق، فحياتنا أهم من ذلك بكثير.
وإزاء تفكيرنا هذا، استمرت الدوائر البلدية في استنزاف المليارات على مشاريع صغيرة تافهة كأن تشتري المئات من الشتلات لأشجار لاتنمو إلا في المناطق الباردة المثلجة لتزرعها في مثلث في منتصف الطريق لتموت بعد اشهر أو لتزرعها في أحواض صغيرة، أو لوضع إنارة "ديكورية"،ـ تتقاذفها الرياح لتسقط أو ليذهب جمالها لرخصها بعد ايام، أو بتعليق أزهار بلاستيكية في أعمدة النور !، مشاريع الكل كان يعلم، علم اليقين، أنها لم تكن سوى باب فساد مشرع على مصراعيه أمام من تسول له نفسه، وما أكثرهم، أن ينهب ما يقع بين يديه، المختص بالمجاري ينهب، والمختص بالزراعة ينهب، والمختص بالنظافة ينهب، كلٌ ينهب من موقعه، الكل تحول الى أداة بيد الشيطان، والشعب ينظر بألم أمام قوتهم التي تتعاظم بنسبهم انفسهم لتيارات وجهات سياسية لا طاقة للعُزّل في مواجهة آلتها.
رضينا بالنفايات حتى لو دخلت بيوتنا، وفي غرف نومنا، لا نكترث بذلك، المهم كان لدينا أن نحافظ على ارواحنا وارواح فلذات اكبادنا وأعراض بناتنا، لم نكن نمتلك الجرأة على مواجهة الفساد، كأفراد وكمواطنين حتى، اختفت غيرتنا على الوطن وأضحى سياج المنزل الخارجي هو حدها الاقصى، وبذلك استمكن الفساد من كل شيء فيها حتى موتانا أشركوا في صفقات الفساد والمرضى والارامل والأيتام كلهم تم إدخالهم عنوة في عناوين الفساد، وانتشرت الحيتان وعمت رائحة ليس لها نوع محدد ولم يألفه كل العالم من قبل، رائحة عفنة، نجسة، تجوس في فضاء وطننا لا تنفع معها حتى كمامات الاسلحة الجرثومية، هي رائحة اجسادنا التي كانت تلقى مجهولة الهوية في المزابل، حتى استخدمت المزابل في زرع العبوات الناسفة التي ما أن تنفلق حتى تطيح بثلة من شعب الطيبين وتريق دمائهم، الرائحة التي نشمها اليوم من الفساد السياسي وخراب الذمم وغياب المروءة، حينما يغطي غزلنا السياسي لدول الجوار على عطش اهل الجنوب الكرماء، وحينما يترح الاغنياء في دول الجوار وتمتلئ ارصدتهم في البنوك العالمية على وقع تحطم عظام ابنائنا تحت وقع الارهاب وصليل رماح المرض وشدة قسوة الفقر الذي عم البلاد وسبى العباد في وطن ثري.
ما أقبحها من رائحة حينما يتجشأ الفاسدون من اصحاب المشاريع الخبيثة في الوطن، رائحة دماء ابناء شعبهم، ممن حرمهم الفساد من الدواء اللازم لشفائهم أو أن يمنحهم الامل في المستقبل حينما سرقوا لقمة من فاه طفل مصاب بالسرطان، أو عجوز تنتظر الاجل عاجلوها بسرقة حتى كفنها، أو شاب توفي اليوم غريقاً وهو يحاول الفرار من الوطن ليكابد الغربة بعيداً عن أيد المفسدين.
الرائحة اليوم قوية لدرجة أنها تعمي حتى العيون، وياويلنا من أيام ستأتي، نستجدي خبز اطفالنا وقوت يومنا من أمام قصور الدجالين ودعاة الوطنية الكاذبة وسوف لن نتجرأ على المساس بهم لأن ضعفنا وعدم خروجنا اليوم منحهم تلك القوة الجبارة، ولا قوة إلا بالله.. حفظ الله العراق.
اضف تعليق