سياسة - الحكم الرشيد

حرية الناخب ودورها في تحقيق الحكم الرشيد

قراءة في بيان المرجعية بشأن الانتخابات البرلمانية

نستطيع قراءة الخطاب المرجعي على أنه دعوة صادقة للمدنية والتمدن والتنافس الحر الشريف على أساس البرامج الحقيقية القائمة على حل المعضلات وتقديم الخدمات وإيثار المصلحة العامة على الخاصة، وحين يتم التأكيد على ضرورة الاشتراك بالانتخابات وذلك قطع الطريق على الفاسدين لإعادة إنتاج أنفسهم...

رغم كون المرجعيات الدينية في العراق بالأصل تمارس مهمة دينية تتصل بالفرد وعلاقته بالله وبالناس وتهذيب النفس والعمل، وإنها أي المرجعية نأت بنفسها وبرجالها المقربين عن العمل السياسي طوال السنوات الماضية إلا في بادئ الأمر عند وضع اللمسات الأولى في لجنة كتابة الدستور، وتمثل سلوكها فيما بعد بالنأي بالنفس عن التدخل الصريح والمباشر وهي سياسة حكيمة بتقديري لكي لا ينسب الفشل إليها فتهتز صورتها وتتزعزع أركانها ويطمع من في قلبه مرض فيها، لذا اقتصر دورها في الأعم الأغلب على النصح والإرشاد والتذكير بأهمية السير وفق نهج العدالة والمساواة واعتماد معايير الوطنية والنزاهة.

وحين لاحظت النهج المتقلب لبعض الساسة وتغليبهم للمصالح الضيقة على حساب الوطنية منها انتهجت المرجعية نهجاً جديداً تمثل بالدرجة الأساس برفض استقبال السياسيين والاكتفاء بتوجيه الخطاب المباشر لهم عبّر منبر الجمعة أو البيانات المتتالية ذات الصلة، ومما لا يراوده الشك أن المرجعية كانت ولا تزال تلعب دوراً محورياً في الحفاظ على السلم الاجتماعي والتعايش السلمي والحفاظ على الدولة ومؤسساتها والمال العام وتكريس كل جهودها في السر والعلن لبناء دولة عادلة ومؤسسات محايدة، وان ذلك لا يتحقق إلا باعتماد معايير الكفاءة والنزاهة في إسناد الوظائف والمناصب العليا.

وما فتوى الجهاد الكفائي قبل أكثر من عامين إلا دليل واضح على الرغبة الحقيقية في الحفاظ على وحدة الدولة والشعب وطرد الشر والفساد عنهما، ولقد ذكرت المرجعية الجميع بهذا الدور في النقطة الأولى من بيانها الذي ألقي من منبر الجمعة يوم (17 شعبان 1439 الموافق 4/5/2018)، إذ أظهرت المرجعية بمواقفها ومنذ الأيام الأولى التي أعقبت سقوط النظام الدكتاتوري المباد عشية يوم (9/4/2003) وإلى اليوم نضجاً سياسياً إذ فشلت أغلب مكونات الطبقة السياسية في التمتع بشيء من ذلك وظهرت المرجعية بوصفها الناصح الأمين انطلاقاً من دورها الإرشادي والإصلاحي.

ولعل المتتبع لما صدر عن المرجعية يكتشف وببساطة ومنذ اليوم الأول الرؤية الإستراتيجية الواضحة التي كشفت عنها المرجعية إبان إصرار الحاكم المدني لسلطة الائتلاف المؤقتة المنحلة السفير بول بريمر على إنفاذ قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية (2004) لأمد غير محدد فكان الموقف الحازم والرأي السديد مدوياً بضرورة الركون لإرادة الناس في تحديد ذلك وتمت دعوة الناس للتظاهر والوقوف بالند لإرادة المحتل، ولا تزال إلى اليوم تصر المرجعية على ضرورة تغليب إرادة الشعب وان لا صوت يعلو على صوت الجماهير وهذا بالحقيقة يتفق مع المنطق والقانون والدين فالكل متفق على ضرورة خدمة المخلوق الذي شرفه الله جل وعلا.

لقد مرت مواقف المرجعية بشأن الانتخابات بمراحل متعددة إذ كان من بواكيرها الرفض المطلق للقائمة المغلقة والقائمة الواحدة التي تبناها قانون الانتخابات رقم (96) لسنة 2004 وتكللت جهودها بالنجاح رغم الممانعة من جل القوى السياسية العراقية التي بدأت تتذوق آنذاك ثمار استئثارها بالسلطة وبدء مرحلة جديدة متمثلة بسعيها الحثيث للتمسك بها والتشبث بأطرافها بأي ثمن فكان قانون الانتخابات رقم (16) لسنة 2005 الذي أقرته الجمعية الوطنية المنتخبة يحمل بعض الإصلاحات للنظام الانتخابي في العراق وبذا أثمرت الضغط الذي مارستها المرجعية.

ورغم ان القانون كان يعتمد نظام القائمة المغلقة عندما صدر أول الأمر إلا أنه أخذ بنظام الدوائر المتعددة وهكذا تم الانتقال تدريجيا إلى أنظمة انتخابية أكثر عدالة وتمثيلا لإرادة الناخب عبر التعديل الأول لقانون الانتخابات رقم (26) لسنة 2009 حيث سمح باعتماد نظام القائمة المفتوحة، وبعد ذلك صدر قانون الانتخابات الحالي رقم (45) لسنة 2013 المعدل إذ ستجري انتخابات يوم 12/أيار وفق أحكامه ويبدو انه لم ولن يحظ بقبول المرجعية رغم تعديله مرتين في هذا العام بدليل إن البيان المرجعي أشار بوضوح إلى القانون الانتخابي العادل.

إن البيان الأخير للمرجعية يكشف وبوضوح عن وثيقة مدنية لممارسة الحقوق السياسية في العراق لكل العراقيين بمختلف انتماءاتهم ومشاربهم لاسيما بعد الانتصار على قوى الشر والظلام والإرهاب في شمال وغرب العراق مما مهد الطريق نحو العدالة الانتخابية الحقيقية ولنا أن نقف عند بعض مضامين البيان الأخير وكالآتي:

أولا// حدد البيان شروط المسار الانتخابي في العراق التي من شأنها أن تؤدي إلى نتائج مرضية وهي:

1- القانون الانتخابي العادل والذي من شأنه أن يرعى حرمة صوت الناخب العراقي ولا يسمح بالالتفاف عليها.

2- أن يكون التنافس على أساس البرامج بأبعادها الاقتصادية والتعليمية والخدمية القابلة للتنفيذ والابتعاد عن التنافس الشخصي أو القائم على الأساس القومي والطائفي.

3- منع التدخل الخارجي في الانتخابات عبّر الأموال أو غيرها وضرورة تشديد العقوبة على من يركن إلى الاستقواء بالخارج لنيل الأصوات.

4- الوعي الشعبي بقدسية أصوات الناخبين ودورها المحوري في رسم حاضر ومستقبل البلاد وان يتم منحها للمرشحين المؤهلين لا أن تمنح مقابل ثمن بخس أو نتيجة العصبية والعواطف والأهواء.

وذكر البيان بان الإخفاقات الحكومية والبرلمانية السابقة لم تكن إلا نتيجة طبيعية لعدم الاعتداد بالشروط أعلاه ما تسبب بتسنم أشخاص غير مؤهلين للمناصب العليا وهم من أسهم في نشر الفساد وتضييع المال العام وميزوا أنفسهم برواتب وامتيازات غير مسبوقة في البلاد، بل وأنهم فشلوا فشلاً ذريعاً في أداء واجبات وظائفهم في خدمة الشعب وتوفير الحياة الحرة الكريمة لأبنائه.

وفيما تقدم تشخيص موضوعي وحقيقي للواقع العراقي كون الطبقة السياسية والأحزاب السياسية دأبت على تقاسم المغانم والامتيازات وتقاذف الاتهامات بالفشل والفساد والكل منها نصيب منه، بيد أنها تتنصل منه وتحاول أن تقنع الرأي العام إنها تحارب الفساد وتقدم برامج انتخابية صالحة أو إنها لا تستقوي بالخارج وقرارها وطني وواقع الحال يكذب تلك الادعاءات، وهي بمعرض السباق الانتخابي تطلق الآلاف من الوعود الانتخابية والتي ما تلبث أن تتنصل منها بعد انتهاء الانتخاب وبدء الحياة البرلمانية بدليل ان الساسة العراقيين تمكنوا خلال الاثني عشر سنة الماضية من الاتيان بالعديد من البدع التي لم ينزل الله بها من سلطان ولم يكن للمصلحين والفلاسفة ليهتدوا إليها كونها من حبائل الكذب والافتراء على الناس كالديمقراطية التوافقية وحكومة المشاركة الوطنية وضرورات العملية السياسية والمصالحة الوطنية والى ما سوى ذلك من تعبيرات استنزفت موازنة البلاد وأنهكت العباد.

ثانياً// حدد البيان في النقطة الثانية رؤية المرجعية للانتخابات بوصفها حق لمن توافرت فيه الشروط القانونية وان ليس على إرادته في هذا الصدد أي إلزام إلا ما يتصل بقناعته الشخصية وتقديره لمكامن المصلحة العليا للبلد، وفي ذلك حث على المشاركة الواسعة والتعبير عن الإرادة الشعبية الحقيقية للوصول إلى التمثيل الحقيقي لتلك الإرادة ولسد الطريق أمام الانتهازيين والفاسدين والنفعيين ممن يتصيدون الفرص المتمثلة بالعزوف عن الانتخاب من قبل شريحة كبيرة من أبناء البلد لدفع مؤيديهم وبكثافة إلى الإدلاء بأصواتهم ما يحقق لهم الحضور في الساحة البرلمانية مستقبلاً وبذا يحافظون على امتيازاتهم ومنافعهم الذاتية. وبهذا المقطع من البيان نكتشف بوضوح الذهنية المنفتحة للمرجعية التي تحترم وقبل كل شيء عقل الإنسان العراقي وتثق به كل الثقة ولا تمارس دور الوصي أو الولي أو ما اصطلح عليه بالأبوية، بل إنها كمرجعية دينية تريد تمهد الطريق وبقوة إلى ترسيخ الديمقراطية والحريات العامة والخاصة وتسهم في إنضاج الإرادة السياسية الشعبية التي تمثل السلطة التأسيسية لكل السلطات العامة تشريعية كانت أو تنفيذية وفق ما رسم دستور العراق لعام 2005 في مادته الخامسة (الشعب مصدر السلطة وشرعيتها يمارسها بالاقتراع العام السري المباشر)، وحين يتم التأكيد إن الانتخاب حق فهذا ناتج عن إدراك مقتضاه إن الناخب يملك حقاً ذو بعد تأسيسي فلا مناص من الاعتراف إن المواطن له سلطة قانونية تتمثل في رسم خارطة سلطات الدولة وان تضييع هذه السلطة عبر الإحجام أو الخطأ في الاختيار يمثل الخطر الأكبر والذي من شأنه أن يقود إلى ما تم التحذير منه أعلاه.

ثالثاً// وضعت المرجعية حداً لكل الممارسات المنحرفة لبعض المرشحين والقوائم والذين مارسوا التدليس على الناخبين في السابق ولعلهم اليوم يعيدون الكرة بالادعاء إنهم حازوا على ثقة المرجعية وتأييدها لذا بين الخطاب بوضوح حياد المرجعية الدينية إزاء الجميع ووقوفها بمسافة واحدة من الكل كمرشحين وقوائم، وتم التحذير من استغلال اسم أو عنوان المرجعية أو أي عنوان أخر يحظى بالمكانة السامية في نفوس العراقيين للحصول على مكاسب انتخابية آنية وان العبرة بالكفاءة والنزاهة والالتزام بالقيم والمبادئ والحياد بالابتعاد عن تمثيل الأجندات الأجنبية واحترام سلطة القانون والاستعداد للتضحية في سبيل إنقاذ الوطن وخدمة المواطنين وتنفيذ برنامج واقعي لحل الأزمات والمشاكل المتفاقمة.

هذا الخطاب المباشر يتسم بالواقعية لاسيما إن أخذنا بنظر الاعتبار الظرف الحالي الإقليمي والوطني الذي نمر به وهو يلامس أفكار كل المصلحين وفلاسفة ودعاة الديمقراطية الحقة وكان النص مصوغ من قبل زعيم سياسي ضالع في الأفكار المدنية كونه وبحق يؤسس لحكم مدني أساسه إرادة الناخب ووسيلته الانتخابات والممارسة الديمقراطية وغايته النهائية سعادة الشعب فقط لا غير، فأمام العراقيين فرصة تاريخية لتصحيح المسار وبلوغ العدالة الاجتماعية المنشودة والمساواة المدنية في الخدمات وتكافؤ الفرص في تسنم المناصب العليا على أسس موضوعية قوامها الإيمان المحض بحقوق الشعب ومصلحة الوطن، فالنائب الذي نريد هو من يصل إلى كرسي النيابة بفضل محاسنه ومؤهلاته لا بفضل الادعاء غير الحقيقي بتمثيل المذهب أو الدين أو القومية.

بعبارة أخرى نستطيع قراءة الخطاب المرجعي على أنه دعوة صادقة للمدنية والتمدن والتنافس الحر الشريف على أساس البرامج الحقيقية القائمة على حل المعضلات وتقديم الخدمات وإيثار المصلحة العامة على الخاصة، وحين يتم التأكيد على ضرورة الاشتراك بالانتخابات وذلك لكون المرجعية تستهدف أمرين الأول قطع الطريق على الفاسدين لإعادة إنتاج أنفسهم من جديد بتغيير أسماء القوائم التي رشحوا بها أو بتغيير المحافظة التي تنافسوا سابقا من خلالها، والثاني هو وضع الناخب أمام مسؤولية عظيمة تتمثل في حسن الاختيار لأن الخطأ سيكلف العراق المزيد من المال العام الذي ضيعه الفاشلون والمفسدون.

رابعاً// رسم البيان الطريق إلى حسن الاختيار من قبل الناخبين بالإطلاع على السيرة العملية للمرشح ورئيس القائمة لاسيما منهم من كان في مواقع المسؤولية لتفادي الوقوع في شباك المخادعين والفاشلين والفاسدين من المجربين أو غيرهم. نعم هذه الرؤية تمثل بداية الحل لمشاكل العراق المتراكمة فالانتخاب الصحيح وفق أسس علمية وتشخيص دقيق للمرشحين بما تبنوه من برامج واقعية وما يحملوه من مؤهلات علمية واجتماعية وثقافية ودينية من شأنه أن يفرز برلماناً صالحاً ينتج حكومة رشيدة يعملان بطريق التعاون والتكامل والتوازن بما يحقق مصلحة العراق والعراقيين بالسير في طريق الإصلاح والصلاح، وبهذا يكون كل من مجلس النواب والحكومة مصداق لما ورد في عهد الأمام علي عليه السلام إلى مالك الاشتر النخعي رضوان الله تعالى عليه "إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شركهم في الآثام! فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه ولا آثما على إثمه. أولئك أخف عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفا، وأقل لغيرك إلفاً، فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك وحفلاتك".

.....................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2018

هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

هـ/7712421188+964
http://ademrights.org
ademrights@gmail.com

اضف تعليق