كل الأخطار تبدأ صغيرة لتصبح مدمِّرة، وكل الأوبئة تنمو رويدا لتصبح كاسحة، وكذا الحال بالنسبة للفساد في العراق، بدأ خجولا، ثم ما لبث أن أصبح غولا يأكل كل شيء يقع في طريقه، جذوره ضاربة في الحكومات السابقة ومخلفاتها، واليوم تزدهر حالة من اللامبالاة، تحيل الفساد الى خطر فتاك بعد أن تجعل منه زلزالا جاهزا للانفجار في أية لحظة، فيهشّم البناء الهش أصلا للدولة والمجتمع.
لمَ يحدث هذا التغاضي، ومن الذي يستفيد منه، لماذا لم تكن أذرع الدولة والسلطة التنفيذية قوية بما يكفي، أليس مطلوبا دراسة الأسباب والوصول الى تشخيصها حتى يكون بالإمكان وضع العلاج اللازم لها؟ إن الفساد في حقيقة الأمر يعد من الملفات الكبيرة التي تحضر بقوة في المشهد الإخباري الراهن، بل يمتد تداول هذا الملف الى الشارع العراقي بشقيه المدني والريفي، لدرجة أن جميع العراقيين يتحدثون عن صفقات الفساد واستشرائه في مفاصل الدولة، وخطورته الكبيرة على الاقتصاد وسواه، وهكذا فإن الكل يتحدثون عن الفساد ويدينونه، ويدينون الرؤوس التي تقف وراءه، لكن على الرغم من ذلك، تشير الوقائع الى تزايد وتيرة الفساد تصاعديا، وتناسل الحيتان اكثر من اي وقت مضى، حتى باتت تمهد لحدوث الزلزال الذي يختلف عن ذلك الذي أحدثه الإرهاب الداعشي.
وبعد أن قارب الدواعش لفظ أنفاسهم في آخر مناطق تواجدهم في الموصل، صار على أولي الأمر أن يستعدوا لنوع آخر من الإرهاب الذي ينخر بكيان الدولة ويفتك بالقيم ويدمر النسيج المجتمعي، لاسيما أن جميع العراقيين، سائلين أو مسؤولين، يتحدثون عنه ويحذِّرون منه ويدينونه، لكن مع هذا كله، لا يزال هذا الزلزال مستعدا للحدوث في أية لحظة قادمة، طالما لم تظهر حتى اللحظة، الإرادة السياسية والتنظيمية القادرة على مواجهته، ومن الغرابة بمكان، أن الدولة العراقية تمكنت من تجفيف الإرهاب وقطع دابره، لكنها حتى اللحظة تقف عاجزة إزاء غيلان الفساد.
صفقات كبيرة تزكم الأنوف
من الملاحظات التي تم تثبيتها في هذا الشأن، أن هناك وعيا جماهيريا رافضا للفساد، فالكل يعرف مخاطر هذا الوباء، ويتنبأ العراقيون بحدوث هذا الزلزال المدمر إذا ما بقي التعامل مع وباء الفساد مستمرا بهذه الوتيرة المتراخية، فالحقيقة الجميع يرفض الفساد ويقف بالضد منه، ولكن لم يتم اتخاذ الخطوات العملية الرسمية الدقيقة لكبح حالة التنمّر التي يشكلها الفساد ويديمها تلك الرؤوس الفاسدة التي تقف وراءه، لهذا لا يمكن للكلام الرافض وحده أن يضع حدا لخطر هذا الزلزال القادم.
المطلوب في هذا الإطار عمل منظّم جاد وحازم، يضع حدا لهذا الخطر الماحق، فهنالك فارق كبير بين أن نرفض الفساد لفظا، ونعجز عن مواجهته عمليا، وثمة قول مأثور يؤكد على أن الكلمات الجيدة لا تعبر بالضرورة عن صدق النوايا وطبيعة الافعال، فأنت أو أنا أو هو، حين نتحدث بكلام جميل، يمكننا أن نخفي وراءه ما هو أسوأ من النوايا والافعال التي نريد أن نُقْدِم عليها أو نمارسها، وهكذا يمكن القول أننا ندين الفساد ونمارسه في وقت واحد طالما أن نقارعه بالكلام فقط، ولا شك أن هذه الازدواجية ليست غريبة علينا، خاصة في غياب القانون الحقيقي الرادع للفساد وأصحابه، بالإضافة الى أسباب اجتماعية ثقافية وسياسية كثيرة، تجعل من هذا الوباء واقعا لا يمكن تجاهله، علما أن الدولة اليوم مشغولة في مواجهة الإرهاب الأول ممثلا بداعش، لذا من الصعب كما يقال أن تواجه نوعين من الإرهاب المتآخي في وقت واحد.
وكلما تم الإعلان عن صفقة فساد تزكم الأنوف، وتصم الأسماع، سارع الإعلام الى عرض تفاصيلها كأنها لقمة سائغة يلوكها، وبعد أيام قلائل تُنسى كما تُنسى اللجان التحقيقية التي تبحث في تفاصيلها ومن يقف وراءها، وفي جميع الأحول يتم حفظ الصفقة على ذمة مجهول، لدرجة أننا مع ضخامة صفقات الفساد وتعددها واستمرارها، إلا أننا لم نسمع يوما أن رأسا كبيرا من رؤوس الفساد قد واجه المصير الذي يستحق ليكون درسا لمن تسوّل له نفسه في مد يده الى المال العام، أو تلويث يده بالسحت الحرام.
وكلنا نسمع هذه الأيام وقبلها بصفقات الطعام الفاسد (كالرز) ومن قبله الشاي واللحوم الفاسدة، ولكن يبقى الأسلوب العاجز عن محاسبة الفاسدين هو وحده الحاضر في الساحة، فلا أحد تتم معاقبته، ولا لجنة تعلن الى أين انتهى عملها، ما يعني أن جميع اللجان التي يتم تشكيلها لمقاضاة الفاسدين وتنتهي الى الصمت، فهذا يعني أنها شريكة في هذه الصفقة بعد أن تمتد أيدي الفساد وتغرق جيوب أعضائها بالسحت الحرام.
انشغال الحكومة في ملف الحرب
لذا فإن مكافحة الفساد يستدعي آليات عمل مخطط لها، ولابد من حضور الخبرات العملية والإدارية الداعمة لهذا المشروع، خاصة أننا أصبحنا نعرف مسبقا بأن تشكيل اللجان التحقيقية يمكن أن يُعطى صفة التأجيل والمراوغة، من أجل التهدئة التدريجية لكي ينسى الناس هذا الملف أو ذاك، وهذه الكارثة أو تلك، ليواصل المفسدون والفاسدون دورهم التخريبي في إجهاض التجربة العراقية الجديدة، وكثيرا ما تحدَّث مسؤولون كبارا عن الفساد واعتبروه القوة المعاضدة للارهاب، لكن عندما نبحث عن الخطوات الرادعة لهذا الملف، فإننا لم نلحظ حتى اللحظة أية إجراءات فعلية رادعة للفساد، حتى بات الجميع يستشعرون الزلزال القادم في ظل انشغال الحكومة في الخطر الداهم للإرهاب الداعشي.
كذلك هنالك أسباب أخرى غير انشغال الحكومة في ملف الحرب، منها كما يقول بعض المراقبين، تلك المحاولات المتواصلة لتسييس ملفات الفساد، والتلويح بالتعامل بالمثل، فإذا فضحتني في هذا الملف سأفضحك في ذاك، والنتيجة سنخسر نحن الاثنان، فالأفضل أن نغض الطرف وننسى الأمر، وهكذا تتم عملية تغاضي وصمت وتسويف متبادلة، نتائجها السيئة تقع على عموم الشعب، بالإضافة الى استمر نخر الهيكل الإداري والاقتصادي والمؤسساتي للدولة.
قد تكون هناك بعض الخطوات فاعلة في إطار مكافحة الفساد، منها مثلا تحريك وتعضيد دور مفوضية نزاهة لمؤسسة قضائية يمكنها أن تتحرك بقوة وحرية في إطار وقف زلزال الفساد، واعتقال ومحاسبة الرؤوس الكبيرة التي لا تعبأ بالمخاطر التي يمكن أن تعصف بالبلاد، فالمهم بالنسبة لهؤلاء ما يجنونه من فوائد مادية مالية كبيرة وليذهب البلد والعب الى الجحيم.
ومع كل هذا السلوك الشائن، ومع انتشار حالات اليأس من معالجة دقيقة وحاسمة لهذا الملف الشائك، إلا أن العراقيين لم يفقدوا الأمل بقصاص عادل للمتجاوزين عليهم حتى هذه اللحظة، وإن كان هذا الأمل ضئيلا، حيث لا نزال نتطلع الى الخطوات الفعلية التي تُخرج ملف الفساد من قبضة الفاسدين، ولا نزال نأمل خيرا بالقضاء العادل ومفوضية النزاهة، فالزلزال بالنتيجة لا يتهدد مصير الشعب وحده ولا كيان الدولة العراقية وحدها، إنما الغرق سوف يشمل الجميع بلا استثناء، والخسارة في هذه الحالة سوف تكون شاملة، ما يتوجّب أن يكون التعامل مع الفساد أشبه بالتعامل مع خطر ماحق لزلزال قادم لا يستثني أحدا بما في ذلك أصحاب السلطة والمتصدين لها.
اضف تعليق