عند الساعة الخامسة عصراً توجهت الى بيت العم كريم حيث توجد المكتبة، بين دهاليز المكتبة التراثية يأخذني العم كريم الى الكتاب الذي ارغب بقراءته، وكنه يعلم ما اريد، العم يرفض بيع الكتب، ولكنه يسمح بالقراءة والاستعارة، كثيرا ما اتردد الى المكتبة واستمع الى بلاغته وثقافته، وان تأخرت عن زيارة المكتبة يتصل ليطمئن علي، قانون العم كريم غريبا نوعا ما!، فهو يمنع استخدام الهاتف في المكتبة والانترنت.
يعانق الكتب وينظف الاوراق كما لو كانت بقية عائلته، يقرا كثيرا ويعرف تاريخ الامة العربية كما لو كان باحث تاريخي، منعكف في مكتبة طيلة اليوم، يتأمل كعادته تلك المخطوطات القليلة، والتي تمكن من حفظها، يجلس يشعل سيجارته ويبدأ بالقراءة، وحينما سالته عما يقرأ قال كتاب "الارشاد " لشيخ المفيد.
طلبت منه ان يتركني انا ابحث بين الكتب، فكل مرة هو من يختار لي، فسح لي المجال واشار بيده نحو الرفوف، هذا قسم المخطوطات النادرة، وهذا قسم لغة العربية وهو يشمل الكتب العربية والإسلامية والأجنبية القديمة جداً.
ما إن تطأ قدمي تلك المكتبة حتى يتوقف الزمن، اكملت رحلة البحث بين الرفوف الخشبية وانا لم انتخب بعد كتاب يناسب الموضوع الذي ارغب الكتابة عنه، ذهبت نحو العم ابتسم وقال لي خالية يدك؟، لا عليكِ يا ابنتي عن ماذا تبحثين!، قلت اود ان اكتب عن علماء الشيعة وسيرة حياتهم.
دفع لي كتابه الذي بين يديه وهو يقول: اين انتِ عن الشيخ المفيد، اخذ يلم كل ما يراه امامه من الكتب حتى كدت اسقط من ثقل الكتب، افترشت الكتب على الارض وبدأت القراءة على ضوء سراجا خافت.
الشيخ المفيد هو: محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام بن جابر بن النعمان بن سعيد بن جبير بن وهيب بن هلال بن أوس بن سعيد بن سنان بن عبد الدار بن الريان بن قطر بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كعب بن علة بن جلد بن مذحج بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، ولد في قرية عكبرا على بُعد عشرة فراسخ من بغداد سنة 336هـ، وقيل سنة 338هـ.، نشأ منذ صغره في بغداد وفيها ترعرع وتلقى علومه وقم فيما بعد في التعليم فيها، ولذلك يلقب أحياناً بالبغدادي، وقد كان مركز إقامته على الأغلب في الكرخ أحد قسمي مدينة بغداد الذي يشكل المسلمون الشيعة فيه الغالبية العظمى من قاطنيه. ولذلك يلقب أيضاً أحياناً بالكرخي.
كان الشيخ المفيد من المسلمين من الموالين للأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، عاش الشيخ المفيد في فترة كان أتباع أهل البيت (عليهم السلام) يتمتعون بحرية نسبية نظراً لسيطرة البويهيون على زمام الحكم في بغداد والذين كانوا لا يخفون ميلهم للتشيع. وينحدر البويهيون من منطقة ديلم في إيران وقد تمكنوا من الاستيلاء على بغداد سنة 334 للهجرة.
درس الشيخ المفيد أصول الكافي على يد العلامة الكبير ابن قولويه القمي الذي كان من أشهر رواة الحديث عند المسلمين الشيعة في القرن الرابع الهجري، ومن أساتذته كان أيضاً العلامة الكبير الشيخ الصدوق أيضاً، وكان من تلامذة الشيخ المفيد الإخوان الشريف الرضي وأخوه الشريف المرتضى وكان العلامة الشيخ الطوسي أيضاً أحد تلامذة الشيخ المفيد.
الشيخ المفيد كانت له كتب معروفة ومشتهرة عند العلماء، فبلغت كماً هائلاً حيث أنها تفوق 200 مؤلف من مختلف الأحجام في الكثير من العلوم الفقه، نذكر منها كتاب "الإرشاد" الذي ترجم إلى عدة لغات ومنها اللغة الألمانية "والمسار" لمواسم الأعياد، لدراسة أصول الدين والمقنعة لدراسة فروع الدين وتصحيح الاعتقاد بصواب الانتقاد والفصول العشرة في الغيبة مسار الشيعة والكلام في وجوه إعجاز القرآن وغيرها.
وعن فهرست شيخنا أبي جعفر الطوسي الذي كان هو يضأ من جملة تلاميذه الكبار: محمد بن محمد النعمان يكني ابا عبد الله، المعروف بابن المعلم من أجلة متكلمي الامامية، انتهت رياستهم في وقته إليه في العلم، وكان مقدما في صناعة الكلام، وكان فقيها متقدما في حسن الخاطر: إلى أن قال: وكان يوم وفاته يوما لم ير أعظم منه من كثره الناس للصلاة عليه، وكثرة البكاء من المخالف له ومن المؤلف المفيد ورسائل الامام الحجة.
ذكر يحيى بن البطريق الحلي فيما نقل رسالته (نهج العلوم إلى نفي المعدوم) قال إنّ لنا طريقين في تزكية هذا الشيخ الجليل، أحدهما صحّة نقله من الأئمّة الطاهرين(عليهم السّلام)، بما هو مذكور في تصانيفه من (المقنعه) وغيرها، إلى أن قال: أمّا الطريق الثاني في تزكية ما يرويه كافة الشيعة وتتلقاه بالقبول، من أن مولانا صاحب الأمر صلوات الله عليه وعلى آبائه كتب إليه ثلاثة كتب، في كل سنة كتابا، وكان نسخة عنوان الكتاب إليه للأخ السّديد والولي الرشيد، الشيخ المفيد أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان أدام الله اعزازه، ثمّ ذكر بعض ما اشتملت عليه الكتب المتقدّمة، ثمّ قال وهذا أو في مدح وتزكية وأزكى ثناء وتطرية بقول إمام الأمّة، وخلف الأئمّة عليهم السّلام.
وفي (الاحتجاج) توقيعات من الصاحب في جلالته، منها للأخ السّديد والولي الرّشيد الشيخ المفيد أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان أدام الله إعزازه من مستودع العهد المأخوذ على العباد : بسم الله الرّحمن الرّحيم سلام عليك أيها الولي المخلص فينا باليقين، فانا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله الصلاة على سيدنا ومولانا ونبينا محّمد وآلة الطيبين الطاهرين، ونعلمك أدام الله توفيقك لنصرة الحّق، وأجزل مثوبتك عن نطقك عنا بالصّدق، انه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة إلى آخر.
ومنها من عبد الله المرابط في سبيله إلى ملهم الحق ودليله: بسم الله الرّحمن الرّحيم سلام عليك أيها الناصر للحق، الداعي إليه بكلمة الصّدق، إلى أن قال: كنا نظرنا مناجاتك عصمك الله بالسّبب الذي وهبه الله لك من أوليائه، وحرسك به من كيد أعدائه إلى آخر.
وحكي انه وجد مكتوبا على قبره بخط القائم عليه السّلام:
لا صوّت الناعي بفقدك انه ... يوم على آل الرّسول عظيم
إن كان قد غيبّت في جدث الثرى ... فالعدل والتوحيد فيك مقيم
والقائم المهدي يفرح كلما ... تليت عليك من الدّروس علوم
قصه الشيخ المفيد والفتوى
عن كتاب روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات للعلامة السيد محمد باقر الموسوي الخونساري
جاء ذات يوم احد مقلدي الشيخ المفيد الى الشيخ يستفتيه في امر مهم ويقول له ان لنا امراه قد توفيت الان وهي حامل والجنين يضرب في بطنها فماذا نصنع بها مع انا نعلم بان الجنين حي بعد في رحمها!
اجاب الشيخ المفيد المستفتي قائلا اذهبوا وادفنوا المرآه على حالها. ذهب الرجل ومرت اعوام وسنين وفي يوم والشيخ متكئا على اريكة التدريس وهو يتأهب لألقاء الدرس واذا بشاب وسيم يدخل المجلس ويشترك في الدرس.
وبعد انتهاء الدرس قال الشاب للشيخ: آنا ذلك الذي افتيتم في حقه بفتويين، وكانت فتواكم الثانية هي التي انقذتني من الموت فلكم حق الحياة علي اذ حياتي مرهونة لكم ، تعجب الشيخ من كلام هذا الشاب وقال له لو فصلت لي قصتك فاني بعيد العهد عنها؟ فبدا يقص الشاب قصته قائلا :لقد ماتت امي وانا حمل في بطنها وبي رمق في الحياة فارسلوا الى جنابكم من يسالكم عن المسالة فأفتيتم بان تدفن المرآه مع الجنين الذي في بطنها، ولما جهزوا المرآه وارادوا وضعها في القبر جاء رسول من قبلكم وقال ان الشيخ يبلغكم السلام ويقول لكم: ان كان الجنين حيا يضرب في بطن امه فلا تدفنوا الام حتى تشقوا بطنها وتخرجوا الجنين منه.
فلما جلس الشيخ المفيد في داره وأغلق عليه بابه جاءه كتاب يحمل توقيع الناحية المقدسة يعني :عن الامام الحجه عليه السلام وفيه ( أيها الاخ السديد الشيخ المفيد منك الفتوى ومنا التسديد)وما ان وقع نظر الشيخ المفيد على هذا التوقيع وفهم ما فيه أجهش بالبكاء شوقا الى امامه وشكرا له على عنايته وألطافه الخاصة به ثم قام وفتح باب داره واشتغل بما كان مشتغلا به من التدريس.
توفي الشيخ المفيد رضوان الله عليه سنة 413 هجرية (1022 ميلادي) عن عمر يناهز 75 سنة، ليلة الجمعة لثلاث خلون من شهر رمضان، وقد شارك في جنازته كماً هائلاً من الناس وأمّ صلاة الميت عليه تلميذه الشريف المرتضى، دفن الشيخ المفيد بادئ الأمر في داره و فيما بعد نُقل إلى الكاظمية ليدفن بالقرب من الإمام محمد الجواد (ع) إلى جانب شيخه العلامة جعفر ابن محمد ابن قولويه.
قال فيه الذهبي: "وكان خاشعاً متعبداً متالها"
وقال الشريف الجعفري- وكان قد تزوّج بنت المفيد (رحمه الله)-: ما كان المفيد ينام من الليل إلاّ هجعةً ثم يقوم يصلي أو يطالع أو يدرس أو يتلو وقال ابن النديم: في عصرنا انتهت رئاسة متكلمي الشيعة إليه، مقدم في صناعة الكلام على مذهب أصحابه، دقيق الفطنة ماضي الخاطر، شاهدتُه فرأيته بارعاً، فسلام عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعثُ حياً.
اضف تعليق