حتى الإيمان بالحقائق ربما يتعثر في طريق المعرفة عندما لا يكون القلب سليماً معافى مما أشرنا اليه، فقد شهدت البشرية المعاجز الباهرة على يد الانبياء، ثم حصل الإيمان بها، وأنها من الله –تعالى- لكن لا يلبثوا فترة من الزمن إلا وينقلبوا على ا الاعقاب خاسرين معتقداتهم وإيمانهم، بل حتى تضحياتهم...
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}.
سورة الأنعام- الآية:2
في طريق المعرفة يكون الشكّ محموداً للوصول الى الحقائق، مع نبذ العلائق النفسية- الذاتية، ولا الاجتماعية الموروثة، لأن المراد ليس مجرد التوصل الى فكرة او نسج نظرية لفهم الواقع والحياة بما يعبر عن طموح فردي ضيق، بقدر ما يكون هذا الطريق لتحقيق التطابق بين الفطرة الانسانية الصديقة للحقيقة، وما يتوصل اليه هذا الانسان من حقائق في الحياة، ومن ثمّ فإن هذا التطابق يضفي المصداقية على "أحقية" ما يكتشفه ويتوصل اليه.
وهكذا كانت تجارب الناجحين العظام من تاريخنا مثل أبوذر الغفاري وقصته المشهورة مع صنمه الحجري، وكيف أن ثعلباً بال عليه، فكبُر عليه الموقف أن يرى إلهه يتعرض لهذا الانتهاك؟! فنظم أبياتاً بعفويته المعهودة والرائعة:
أ ربٌ يبول الثعلبان برأسهِ
لقد هان من بالت عليه الثعالبُ
فلو كان ربّاً كان يمنعُ نفسهُ
فلا خيرَ في ربٍ نأته المطالبُ
برئت من الأصنام في الأرض كلها
و آمنت بالله الذي هو غالبُ
هذا التشكيك قاد أبوذر وآخرين كُثر في مطلع بزوغ الرسالة للإيمان بالتوحيد وبرسالة النبي الأكرم، ونبذ عبادة الأوثان والتخلّي عن قيم وثقافة الجاهلية بشكل عام.
ومن تاريخ الرسالات السماوية، جدير بنا استذكار تجربة نبي الله ابراهيم، عليه السلام، وكيف توصل الى توحيد الله –تعالى- كما يرويها لنا القرآن الكريم، في وصف دقيق للانسان المُحب لكل شيء كبير مثل الشمس والقمر، بل وحتى طلبه من الله –تعالى- بأن يريه كيفية إحياء الموتى، وكان حينها نبياً مرسلاً منه –جلّ وعلا- في إشارة واضحة من القرآن الكريم الى النزعة الحسيّة والطبيعية لدى الانسان بما لا يجعله ملاماً بالمرة، والدليل؛ استجابة السماء له، والقصة مفصلة في سورة البقرة الآية (261).
الشك عندما لا يكون دليل صحّة
ثمة اعتقاداً بأن الشك عملية ذهنية بدوافع عقلية بدعوى عدم التسليم بكل شيء دون التحقق بوسائل علمية وحسّية، بيد أن للدين كلمته في هذا المجال يؤكد فيها على أن الشك غير المعرفي –الجدلي- يُعد مشكلة نفسية مصدرها القلب –الفؤاد- وقد بحث علماء الدين في هذا التشخيص عميقاً حاملين معهم أدلتهم وبراهينهم التي لا تتقاطع مع العقل والمنهج التجريبي، ومن أبرز هذه الأدلة، تجارب الشعوب والأمم في التاريخ البشري، وكيف أن التشكيك أودى بهم الى الدمار والضياع والخسران المبين.
ومن أبرز البراهين ما يتحدث عنه القرآن الكريم في عديد آياته عن أمراض القلب التي قال المفسرون أنها تسبب في ايجاد "الرين" على القلب، فتحول دون الوصول الى "البصائر"، ومنها؛ العُجب، والمماراة، والحسد، والقسوة، فتكون البداية بالتشكيك والمراء، والجدل، ثم التكذيب، وفي نهاية المطالف التصفية الجسدية، كما حصل مع الانبياء والمرسلين منذ آلاف السنين.
ومن تجارب الماضين يتضح لنا التأثير المباشر للقلب على السلوك والاختيار أكثر من العقل ذو الدور الميكانيكي –إن جاز التعبير- لتشخيص الصواب عن الخطأ، ووضع الاشياء في محلها، بينما يكون للقلب والنفس دور البوصلة لتحديد الهدف، فالطائرة ليس لها إلا أن تحلق في الجو بما أوتيت من قدرات تقنية عالية، وما تحويه من عناصر وأدوات مترابطة بشكل دقيق لا يحتمل الخطأ، يبقى مسار الطائرة ومقصدها هو ما يحدده الطيار لا غيره.
حتى الإيمان بالحقائق ربما يتعثر في طريق المعرفة عندما لا يكون القلب سليماً معافى مما أشرنا اليه، فقد شهدت البشرية المعاجز الباهرة على يد الانبياء، ثم حصل الإيمان بها، وأنها من الله –تعالى- لكن لا يلبثوا فترة من الزمن إلا وينقلبوا على ا الاعقاب خاسرين معتقداتهم وإيمانهم، بل حتى تضحياتهم، كما حصل في قصة بني اسرائيل الخارجين للتوّ من قاع البحر المنفلق نصفين معجزة من الله خصّها لهم دون سائر البشرية، ولم تمض سوى أيام حتى يتفاجأ نبيهم باتخاذهم العجل، وهو حيوان صغير، رباً لهم من دون الله في موقف تاريخي مثير للاستغراب، وفي تاريخنا الاسلامي نجد العديد من الشواهد، لعل أبرزها؛ تشكيك الحسن البصري بأحقية أمير المؤمنين في قتاله أصحاب الجمل، فلما أفحمه، عليه السلام، عقلياً، لجأ الى المِراء، فقال له: -مضمون الرواية- إن لم تكن مؤمناً بالقتال في معسكري، لماذا لم تلتحق بمعسكر اصحاب الجمل؟ أجاب الحسن البصري بأني "لدى خروجي من بيتي سمعت هاتفاً يقول: القاتل والمقتول في النار"، فقال له الإمام: "صدق الهاتف، إنه أخوك ابليس! يقول لك: القاتل والمقتول منهم في النار".
التسليم العملي أمام التشكيك النظري
يعد البعض عملية التشكيك، او ربما يسميه البعض "التحقق" من أحكام وعقائد ونظم، على أنها ضرورية لمواكبة تطورات الحياة، وأن الالتزام بالمسلّمات ذات العمق التاريخي يسبب لهم "التخلف عن ركب الحضارة والتقدم العلمي"، بينما واقع الحياة، ليس اليوم، وإنما منذ فجر الخليقة يقوم على ثوابت وسُنن وضعها الله –تعالى- لا تقبل التغيير والتبديل، فكما الظواهر الطبيعية ثابتة مثل؛ شروق الشمس نهاراً، وظهور القمر ليلاً، وتبخر الانهار والبحار لانتاج الامطار، فان الظواهر الانسانية هي الاخرى ثابتة مثل؛ الحياة والموت، والتكاثر، ثم التعاون بين افراد البشر، وأن الظلم لن يدوم، والحق يعلو على الباطل، لذا فالتشكيك بهذه الحقائق واستبدالها بحقائق أخرى مثلاً؛ النظرية البرغماتية، وتفرعاتها المستحدثة مثل؛ النفعية والذرائعية التي تسود معظم انحاء العالم –إن لم نقل جميعها- لن تقدم للبشرية سوى الخسران والتخلف، رغم أن البعض يعتقد اليوم أنها البديل العملي لقيمة التعاون والتكافل والإيثار بدعوى أنها تفرض حياة خاصة على افراد البشر من الصعب تقبلها او ممارستها بشكل متقن للحصول على النتيجة المرضية، بينما النظرية أعلاه، تتبناه أنظمة سياسية ومؤسسات مالية وشركات عالمية تفرض نظاماً يتبعه الجميع دونما حاجة الى تفكير أو إيمان، فهم يؤمنون بها في ممارساتهم اليومية دون أن يشعروا!
ولكن لم يتحدث لنا اصحاب هذه النظرية وأشباهها عن اصطدامها بالقيم الانسانية التي تدخل بين فترة واخرى في اختبارات تطور الفكر البشري ليجد حاجته اليها، لاسيما القيم الأخلاقية، ولا أدلّ مما يذهب اليه المشاهير من المطربين والرياضيين وعارضات الازياء الى الاعمال الخيرية ومساعدة الاطفال والمرضى، وهو ما لم نكن نسمعه في السنوات الماضية، فعدم وجود الثوابت بسبب التشكيك "سبب للإنسان نوعاً من الحيرة في حياته، ويقول علماء النفس أن بقاء الانساسن في حيرة من أمره يسبب له الاضطراب في حياته". (خطوات نحو النجاح- السيد جعفر الشيرازي).
إن التسليم يقف مقابل التشكيك، وهو مدعاة لليقين وطريقاً للإيمان القلبي والعملي بحقائق الحياة وحقائق الدين، وهي منظومة معرفية متكاملة تجيب على كل سؤال حائر لدى افراد البشر على طول الخط، وهي مهمة الانبياء والمرسلين على مر التاريخ، فلم يؤخذ عليهم مطلقاً حصول أي تعارض او تناقض او نقصان بحاجة الى مزيد من التجارب للتكامل، فهي متكاملة بالاساس، وذات قابلية على مواكبة تطورات الزمن، يبقى على الانسان مهمة تكييفها من خلال ممارساته العملية في حياته المتطورة دائماً.
و أروع ما حاجج به القرآن الكريم المشككين والمشركين في مكة في عهد رسول الله، ما ذكرهم بحقيقة ملموسة طالما أرّقت البشرية وهي الموت: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ}، مما يعزز لدينا الإيمان في النفوس، ويوفر لنا المزيد من الاطمئنان القلبي ليكون منطلقاً لمزيد من العمل والعطاء والتقدم بخطوات ثابتة وثقة عالية.
اضف تعليق