ان الشريحة المتصدّية للتجربة الإسلامية مدعوةً اليوم، ودائماً، لأن تستجيب لنداء النقد البناء والخروج الى آفاق التجديد، وتقويم ما حصل، للتخلص من نقاط الضعف، ومعالجة اسباب الفشل، وتكريس نقاط القوة، والاستفادة من تجارب النجاح، ثم التشجيع على الابداع والعطاء من الجيل الجديد لتستمر المسيرة محققة نتائج أفضل...
كل شيء له نصيب من التطوير والتغيير نحو الافضل لابد وان يمر بمراحل من النقد والمراجعة تستبين فيها الثغرات بغية معالجتها ويكون المنجز دائم الحضور بقوة أكثر من ذي قبل، وأكثر تأثيراً في حياة الناس.
وعندما يتعلق الامر بمصير الأمة، كما هي "التجربة الاسلامية" في الساحة الشيعية، فان النقد يكتسب أهمية خاصة تستوجب توفير الادوات وتحديد المنهجية العلمية والاسلوب الموضوعي الدقيق المفضي الى نتائج دقيقة من شأنها تغيير الواقع الذي تشكو منه الامة طيلة عقود مضت.
وبما أن النقد في هذا السياق يتخذ –بالضرورة- طابعه الايجابي (البنّاء)، فلابد وأن تكون أدواته ومعاييره الصحيحة بما يتطابق مع المنطلقات الفكرية والعقدية لهذه التجربة، لاسيما ونحن أمضينا عقوداً من الزمن اختزلت قرابة جيلين كاملين (ستين عاماً) في خوض "تجربة إسلامية" أحدثت نقلة نوعية في مضمار التطبيقات العملية لأحكام الدين والمنهج الذي نؤمن أنه متكاملٌ ومفيد لحياة البشر، بل للحياة بشكل عام.
وربما تكون مفردة "إسلامية" مستحدثةّ اصطلاحاً، ومشتقة من مفردة "الاسلام"، ومن الناحية اللغوية هنالك قاعدة في النحو تسمى؛ المصدر الصناعي الذي يعطي صفة ومعنى لأي اسم لم يكن لديه قبل إلحاق الياء والتاء عليه، فالاسلام يكون "إسلامية"، كما في "إنسان"، وعندما يُلحق به الياء والتاء، ويكون "إنسانية"، فتتغير دلالاتها تغييراً كبيراً، لتشمل مجموعة من الصفات التي يختصّ بها الانسان؛ كالحلم، والعلم، والعمل، والإيثار وغيرها كثير. ولذا فصار ممكناً إطلاق هذا المصطلح (الإسلامية) على الثورات، او الحركات، او المؤسسات، وكل ما يمكن ان يحمل سمات الإسلام بما يتضمنه من قيم وأحكام وعقائد.
الحنين الى التراث أم الحرمان من التجديد؟
ثمة شعورٌ بالخطر ينتاب بعض المفكرين والعاملين في شتى الفعاليات الإسلامية، عندما تلوح امامهم علائم التغيير او الإصلاح لما قاموا به وانجزوه من مؤلفات، وتشييد مؤسسات، وتنظيم وتعبئة على رقعة جغرافية واسعة ولجماهير عريضة، فهم يرغبون أن تبقى منجزاتهم ماثلة أمام الاجيال القادمة، يستذكروها بخير، وربما يتخذون اصحابها قدوات ومصادر إلهام في حياتهم.
وهذا ما يشكل حافزاً لدى البعض في تكريس هذه الحالة، بل واتخاذها شهادة يواجهون بها دعاة النقد، مهما كان بنّاءً وايجابياً، ولذا نجد استمراءً غريباً لظاهرة غير حضارية بالمرة في اوساط الأمة طيلة العقود الماضية، ولنقُل؛ الجيلين الماضيين؛ وهي التوقف عند أسماء مفكرين، وعلماء، ومصلحين من الدرجة الاولى، وعناوين لمؤلفات علمية رصينة، وايضاً؛ اسماء لخطباء مفوهين ومبدعين، بل وصل الأمر الى مؤسسات ثقافية ودينية، مثل؛ الحوزات والحسينيات والمكتبات، بينما من يراجع التاريخ، يلحظ المفارقة في "التجربة الاسلامية" التي كانت تشهد تنافساً شريفاً في ميادين التأليف والتعليم والتأسيس والخطابة وغيرها، فنحن نسمع بأسماء لامعة وقامات سامقة في ميدان العلم والمعرفة، مثل الشيخ الطوسي –مثلاً- ثم نقرأ في فترة لاحقة؛ أسماء لا تقل عنه بريقاً، جاءت فيما بعد مثل؛ الشيخ المفيد، ثم لم تمض سنوات على غيابه حتى ظهر الشريف المرتضى، بعلمه الغزير وأدبه الرفيع، مع شقيقه؛ السيد المرتضى (علم الهدى)، وتواصلت المسيرة بظهور عباقرة ليس من بقعة محددة، وإنما من بغداد، ثم الحلّة، ثم النجف الأشرف، ومن قم المقدسة، ومن كربلاء المقدسة، قدموا للأمة نماذج راقية في العلم والمعرفة والأدب والفكر والثقافة، أفادوا الأمة في حاضرها ومستقبلها بنشر الوعي الديني وثقافة الإصلاح والتغيير في شتى جوانب الحياة.
لفت نظري ما التفت اليه أحد هؤلاء المتصدّين للتجرية الإسلامية، وهو من المعاصرين، وهو المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي، عندما كتب في مقدمة كتابه "الفكر الاسلامي مواجهة حضارية"، للطبعة الثانية، وذلك عام 1975 ما نصّه: "حينما اقترحت عليّ دار الجيل الجديد لإعادة طبع الكتاب، كان أسفي بقدر سروري، لماذا؟! لان هذا الكتاب الذي طبع قبل أربع سنوات لم يزل كتاباً يستحق إعادة الطبع، علماً أن الكتاب الذي يعالج مثل هذه المواضيع الحساسة ينبغي ألا يظل سائداً على السوق اكثر من عام واحد وبعده يجب أن تأتي كتب جديدة تنسخ الكتاب، وتنتزع منه السيادة على الموضوع...".
هذه الروح الحضارية هي التي بعثت الأمل والتفاؤل في النفوس أيام زمان، فكانت الغالبية تفهم النقد، على أنه تطبيق عملي لما أوصانا به أهل البيت، عليهم السلام، لنحقق النجاح، فجاءت الروايات بلغة رفيعة وأدب خالص أبرزها ما جاء عن النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله: "المؤمن مرآة أخيه المؤمن"، والحديث الشريف الآخر: "من حق المؤمن على أخيه المؤمن النصيحة"، فأيّ درجة يكون فيه النقد البناء، عندما يرقى الى كونه "حقّ" لابد من استيفائه!
ولذا فان نقد التجربة الاسلامية لن يكون بأي حال من الاحوال، عملية إلغاء للماضي، او التنكّر للمنجزات والاعمال، بقدر ما هو محاولة لمزيد من الإثراء والتقويم وإضفاء الحيوية بغية الاستمرارية في العطاء، فربما يكون النجاح في جانب، بينما يكون التلكؤ في جانب آخر، لاسيما ما يتعلق بالجانب الاجتماعي المعني به جميع العاملين، من علماء وأدباء وخطباء وكتاب ومثقفين، فالحرص مطلوب على أن تكون النتائج مرجوة بأعلى نسبة ممكنة، وأبرز مثال على ذلك؛ الجدل الدائر حول التفاضل بين العقل والعاطفة في الساحة الشيعية، ولاسيما ما يتعلق بالشعائر الحسينية، وايضاً ما يتعلق بتراث أهل البيت، عليهم السلام، بشكل عام، فما هو المطلوب، وما هو المرفوض؟ وما هي نقاط الالتقاء؟ وكيف يكون التوازن؟ وكذا الحال بالنسبة لمفهومي؛ السلم والعنف في التعامل مع الواقع السياسي، وتحديداً مع الحكام الذين تفرضهم ارادات ومصالح خارجية.
الأدوات والمعايير
سلامة الادوات وصحّة المعايير لها مدخلية مباشرة في نجاح النقد، ليكون الصورة الجديدة والمفضلة لما هو موجود. وإلا استحال الأمر نوعاً من التراشق بالثغرات والاسقاطات، وربما تتجه العملية نحو التسقيط –لا قدر الله- ولذا يوصي أهل البيت، عليهم السلام، بالتزام الخلق الرفيع وعدّه من الادوات الرئيسية للنقد، بل وإعدادها قبل التفكير بالنقد، ربما أبرزها؛ محاسبة الذات قبل محاسبة الغير، ثم التحلّي بقدر غير قليل من التواضع ونكرات الذات وخلع رداء الكِبر والعُجب بالنسبة الى الشخص المتعرض للنقد، مهما كبرت أعماله، واتسعت رقعتها الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية.
أما عن المعايير فلا نحيد عن الحق، كمبدأ اساس ينطلق منه النقد لاعمال كبيرة ربما انطوت على تضحيات وبطولات وجهود جبارة، فقيم الحق هي التي تعطي النقد ضرورتها الحضارية، فالقضية ليست رغبة شخصية، او مزاجاً نفسياً من شخص إزاء شخص آخر، إنما هي استجابة لحاجة تئن من وطأتها الامة في ثقافتها وعقيدتها، وفي طريقة تعاملها مع الحكام والساسة، وفي طريقة حياتها بشكل عام.
وعليه؛ فان الشريحة المتصدّية للتجربة الإسلامية مدعوةً اليوم، ودائماً، لأن تستجيب لنداء النقد البناء والخروج الى آفاق التجديد، وتقويم ما حصل، للتخلص من نقاط الضعف، ومعالجة اسباب الفشل، وتكريس نقاط القوة، والاستفادة من تجارب النجاح، ثم التشجيع على الابداع والعطاء من الجيل الجديد لتستمر المسيرة محققة نتائج أفضل وأحسن.
الجمود على الحالة يؤدي: تكرار الاخطاء، اليأس والاحباط، ثم انتاج واقع قائم على الاخطاء.
عند النزول الى الشارع اتضح: خطأ الاعتقاد بمبدأ الحق، والقصور الكبير في لغة الخطاب والطرح البعيد عن واقع الامة.
اضف تعليق