كانت أمي قبل رحيلها، تحرص على أن تقيم صلاة الفجر في حديقة البيت، تنهض مبكرا، تتوضأ، تخطو الى الحديقة الخضراء، تفرش سجادتها باتجاه القبلة، وتحرص على أن تتوسط الزهور بقامتها الموشاة بالبياض، دائما كانت تطالبني بوضع شموع حولها بألوان متنوعة، وعندما تنقطع الكهرباء ويسود الظلام بغياب القمر، تصنع أضواء الشموع مع أغصان الأشجار لوحات ظل معبّرة بعضها لا ينسى بسبب جماله الأخّاذ، يرافق ذلك عطور متداخلة مع بعضها، وصوت حنون يتلو آيات تزرع في الروح أماناً لا حدود له، وحين تنتهي أمي من صلاتها، كانت تعرف أنني بانتظارها، كنت أقف عند نافذة غرفة الجلوس في الطابق الأرضي وأنظر لها خلسة من وراء الزجاج، وأكثر شيء كنت أنتعش به هو قسمات وجهها وملامحها وهي تنظر الى السماء رافعة كفيها، في دعاء قد يستغرق وقتا أكثر من وقت الصلاة كلها، كنت أحاول أن أقلّد أمي في هذا الطقس الروحاني الملهم، فعلتُ بالضبط ما كانت تقوم به، لكنني شعرت أن ما أقوم به شكلي ظاهري تقليدي لا ينبع من أعماقي، فكنت أقوم بالصلاة داخل الغرفة في أداء روتيني أو آلي، أما أمي فأستطيع أن أقول أن نفحات الإيمان كانت تحيط بها كالهالة الكبيرة وتنطلق منها أمواج عطرية الى جميع الجهات ومنها ما يصل إليّ فأستنشق ذلك العطر الربّاني وأتوه في سحره وجماله وتفرده، بعد الصلاة تعرف أمي أنني أجلس في غرفة الجلوس بانتظارها، فأنا أرفض أن أتناول الفطور أو الطعام إلا من يديها، لا أقبل الأكل من زوجة أخي الأكبر ولا من أختي التي تكبرني بسنتين ولا من غيرها، حتى أبي كان يغريني بطبخه الفريد لكنني كنت أرفض ذلك، أمي وحدها هي التي تطهو لي طعامي، وعندما كانت تغيب عن البيت ليومين أو ثلاث لأي سبب، فإنها تحرص أن تطبخ لي وجبات طعام كافية وتخبرني بها بالتفاصيل، وتحفظها لي في مجمدة كبيرة.
أنهت أمي صلاتها ودعاءها وجاءت الى الداخل تحيط بها هالة الورد والعطر وتنعكس على جسدها أضواء الشموع التي قلّ ضوؤها بعد أن صافح شعاع الشمس، كانت أمي عندما تنهي صلاتها تُقبلُ نحوي، تقبّلُ رأسي وتسألني هل صليت؟ أقول لها نعم، تشكرني ثم تذهب الى المطبخ تعدُّ لي ما أرغب من طعام وهي تعرف ذلك بدقة كأنها تعيش في أعماقي وتعرف ما أشتهي.
عندما هاجرتُ بحثا عن الرزق في أرض الله، لم تودعني أمي، اجتمع أعمامي وأخوتي وأخواتي وجميع أقاربي في بيتنا، أبي أيضا حرص على توديعي، أمي هي الوحيدة التي بقيت في غرفتها وأغلقت قفلها من الداخل في حالة احتجاج على سفري غير المدروس، هكذا كانت تقول دائما، استغرب الناس عدم توديع أمي لي، كانت غرفتها في الطابق العلوي من البيت، وكانت نافذة الغرفة تطل على الشارع، وعندما اقتربت سيارة الوداع التي ستنقلني الى بلاد الغربة، كان الجميع يحيط بي، بعض الوجوه حزينة وأخرى مشعة بالأمل وأخرى ينام فيها الحزن، إلا وجه أمي فقد كان غائبا عني، شعرت بالألم والارتباك، ليس من المعقول أنني سأغادر الى المدن المجهولة الى ما وراء البحار وقد لا أعود سنوات وسنوات، لابد أن أرى وجه أمي، أريد أن احتفظ بوجهها في قلبي وهي راضية عني، طلب مني سائق السيارة أن أصعد كي ينطلق بي الى المطار، رفضت ذلك، أبي كان يعرف السبب، اقترب مني وقال بيأس، أمك أقفلت عليها الباب، أنت تعرف بأنها ترفض سفرك رفضا قاطعا، فأما أن تلغي هذه المغامرة، وأما أن تغادر دون أن ترضى عليك أمك، كنت في حيرة من أمري، فمشروع السفر هو الباب الوحيد المفتوح نحو مستقبلي الذي أرغب به، عملتُ على ذلك سنوات وأعددت للأمر، لكن الخطأ أنني لم أكن أخبر أحدا من عائلتي بما خططتُ له، كنت أعمل وأستعد بصمت للهجرة، وها قد حان وقتها وعندما أخبرت أهلي صدمتهم الفكرة، أما أمي فقد جنّ جنونها، وكنتُ أراها وهي تصلي في حديقتها كيف تشرع كفيّها بوجه السماء وكيف يتهدج صوتها بنبرة خاشعة متوسلة مرتجفة، لم تكن الأدعية كافية لإلغاء سفري، وها أنا محاط بالمودِّعين في باب البيت، باب السيارة الأمام مفتوح ولم يبق سوى ارتقاء السيارة والانطلاق الى المطار، فكرتُ أن أصعد الى غرفة والدتي وأحاول معها للمرة الأخيرة، لكن أبي رفض هذه المحاولة وقال لا فائدة من ذلك، إمضِ في طريق السلامة يا ولدي وأنا سأجبرُ خاطر أمك فيما بعد، شعرت بالألم وغصة كبيرة في قلبي، كان بصري مثبّتاً على نافذة غرفة أمي في المطلة على الشارع، احتويت بعينيّ كامل النافذة، كنت أتمنى أن تفتح أمي النافذة وتودعني، لكن كان الصمت يحيط بكل شيء، قبلتُ جبين أبي وودعت أخوتي وأقاربي وارتقيت المقعد الأمامي للسيارة وفي لحظة الانطلاق رأيتُ النافذة تُفتَح ويطل منها وجه أمي طلبت من السائق أن يتوقف، كان وجه أمي أبيض مشعا بضوء ملائكي، وانطلقت السيارة من جديدة، لا أدري لماذا تأخذنا الأقدار بسرعة مضاعفة الى المجهول، حملتُ في صدري وجه أمي وحديقتها الفجرية وعطر الزهور، ومضيتُ الى ديار الغربة.
الآن وأنا أقف عند سور حديقة أمي، بعد أن عدتُ من الغربة، وبعد أن قضيت ثلاثين سنة فيها، أحاول أن أستعيد تلك اللحظات العظيمة، لحظات صلاة أمي في الفجر، وتلك الورود الريّانة التي تستدير حولها وتبث عطرها في كل الجهات، وتلك الشموع التي تتعانق بأضوائها مع أغصان الأشجار والظلال الهادئة، أستنشق عطر أمي التي غادرت الى رحاب الله، وأدعو لها بالرحمة، فحتى هذه اللحظة منذ ثلاثين سنة لم أذق طعاما مثل طعامها ولا حنانا مثل حنانها، ولا عطرا مثل عطرها ولا نورا مثل نورها، لم أكن أعرف هل أنها راضية عني الآن بسبب هجرتي رغم معارضتها، ولكنني بالفعل وجدتُ فرصة أفضل للعيش بكرامة، أكملتُ دراستي العلمية وانفتحت لي آفاق النجاح، وكنت أعرف أن أمي تدعو لي بالتوفيق في صلاتها كل يوم.
الآن ها أنا أقف عند الحديقة، أنظر الى مكان أمي الفارغ، أسمع صوتها وهي ترتل آيات الفجر، أشعر بحنانها، أسترق السمع لنبرة صوتها وهي تدعو لي عند الله، ولكن ما هو مؤسف حقاً وما أصابني بالحزن، أن الورد أصابه الذبول، فكأنه بذلك ينبئ برحيل أمي الى الأبد، وبقاء مكانها خاليا في حديقة الورد، إلا أن ذكراها وصوتها وشذا زهورها وشموعها ستبقى قائمة بيننا الى الأبد، بادرتُ من جديد الى سقي الورود والأشجار وقررتُ أن أعيد الروح الى حديقة أمي.
اضف تعليق