يميل الانسان الى ما هو صحيح، ويحاول أن يتجنب الخطأ، والصحيح هو الجدية في العلاقات والانتاج والابداع عموما، وعكسه التسويف والمماطلة، ومحاولة التملص من الضوابط التي ينبغي أن يخضع لها الانسان الجاد حتى يحقق الربحية المبتغاة، ولا أحد يعترض على ما يذهب إليه علماء النفس والاجتماع أيضا، عندما يؤكدون النزعة العفوية عند الانسان نحو التفوّق، وبلوغ أعلى المراتب في المجالين المادي والمعنوي.
ولا شك أن هناك دوافع خفية تحث الانسان دائما، على المضيّ قُدٌما الى الأمام وتحقيق النجاح والربحية من خلال الجدية في التعامل مع شؤون الحياة كافة، إذ حتى لو كان الانسان كسولا أو تسيطر اللامبالاة على سلوكه، أو يميل الى التسويف والمراوغة، لكن في جميع الحالات، يبقى الانسان يحلم ويتحرك وفق دافعية التفوق على أقرانه وعلى غيرهم أيضا، وهذا من سنن الحياة المعروفة للجميع.
وحتما أن هذا البحث المستمر عن النجاح والتفوق، طبيعة أساسية تكوينية في الانسان لا يمكن إهمالها، ولعلها تشكل حالة خطيرة فيما لو كان الدافع وراءها، غير محكوم بالضوابط الانسانية، عند ذاك سوف يتحول الدافع الى حالة مرضيَّة أطلِقَ عليها تسمية كالطمَع، والجشَع، فالانسان الجشِع هو الذي لا توجد بينه وبين التقدم الى أمام حدود وضوابط اخلاقية او دينية او عرفية، أي أنه انسان منفلت، تقوده غرائزه ومآربه الى ما يبتغيه، لذلك سوف تغيب عنه المبادئ الحاكمة و الضابطة للسلوك، فيميل الى التسويف على حساب الجدية، من دون أن يعرف أو يؤمن بأن المراوغة تقود الى خسائر معنوية ومادية حتمية.
بين التخطيط و العفوية
إن الحاجة للانسان الجاد الصادق والعفوي مهمة، كونه عنصر بناء للذات وللمجتمع، لذلك نلاحظ أن الجدية والعفوية قد تلتقي وقد تتناقض، وعلى العموم ينبغي أن يكون الانسان جادا على الدوام فضلا عن اعتماده للتخطيط، حتى لو كان يستند في عمله الى التلقائية في السلوك والنوايا، إذن من الواضح أن الانسان على وجه العموم، يمتلك الطموح العفوي كي يتفوق على غيره من باب التنافس الانساني المشروع اذا كان مشروطا بالضوابط المتعارف عليها.
ويؤكد العلماء المعنيون، أن هنالك طرقا كثيرة تساعد الانسان على الرقي والنجاح منها وربما من اهمها التخطيط للعمل، مع مشروعية الحركة الى أعلى أو الى أمام، هذه السبل لها علاقة بربحية الانسان ومنها مبدأ أو صفة الجدية، وكيفية استثمار الانسان لها من اجل تحقيق النجاح، فالتعامل الجاد يمثل عاملا مساعدا على نجاح الانسان، ليس بوصفه قيمة اخلاقية تنطوي على عمق انساني فحسب، وانما يتحوَّل الى عامل مساعد يشبه العوامل المادية المساعدة لتحقيق تقدم الانسان في مجاله العملي أو الفكري الذي ينشط فيه.
ولعل السؤال المهم الذي ينبغي طرحه حول هذا الأمر، هو كيف يمكن أن تتحول الجدية الى عامل مادي مساعد، يُسهم في تطور الانسان وارتقائه وتقدمه؟، من المؤكدان الامر يبدو كأنه واضح للجميع، بمعنى يعرف الجميع أن الطرف الجاد مهما كانت هويته (فرد، جماعة، شركة، دولة) وما شابه، سوف يكون محط احترام الجميع، ولكن اذا انحصرت الجدية في الجانب اللفظي، فإن نجاح الانسان هنا لا يرتقي الى المجال العملي او المادي الملموس.
ويمكننا في هذا الصدد أن نطرح بعض الأمثلة حول هذا الجانب، عن المشاريع المادية الاقتصادية الناجحة، ودور الابتعاد عن التسويف في مدى تحقيق النجاحات الكبيرة لهذه المشاريع، اذ ان الامر بالغ الوضوح على مستوى التعامل الفردي او الجمعي، فالشخص الذي يميل الى التسويف والمماطلة لا يمكن أن ينال ثقة الاخرين، في جميع المجالات، واذا تمكن من خداعهم مرة او اثنتين، فإنه من المستحيل ان ستمر في هذا الخداع كاسلوب عمل، يتعاطى به في التعامل والعلاقات مع الآخرين، ولا شك انه سوف يكون مرصودا ممن يتعامل معه، وهنا سوف يتعرض الى خسائر فادحة من حيث الجانب العملي المادي، فضلا عن المعنوي فيما يتعلق بالسمعة وما شابه.
المراوغة من أشكال الاحتيال
التسويف والمراوغة تنتمي الى الخداع او الاحتيال، ولا يمكن أن تنتمي الى التعامل الجاد والصحيح، وقد يظن من يعتمد هذه الاساليب في التعاملات التجارية والاقتصادية ذات الربحية المادية، انه يستطيع ان يحقق ما يروم اليه من خلال هذه الاساليب، ولك كما يقول المثل المعروف (حبل الكذب قصير)، والمراوغة نوع من الكذب على الاخر مصيرها الكشف والفضح في وقت قريب، عنده لن يتعامل مع المراوغ أي شخص او جهة او شركة!.
عندها سوف تكون الخسارة فادحة لمن يبتعد عن الجدية في العمل والتعامل مع الاخرين، لذلك من يطمح الى تحقيق الربحية عليه أن يكون جادا وملتزما مع الاطراف الاخرى، واذا كانت المراوغة، وبعضهم قد يسمّيها (شطارة) تحقق نجاحا في الربح المادي المؤقت، فإن الزمن والتعامل المستمر كفيل بكشف التسويف، وهذا سيقود الى ابتعاد الاطراف الاخرى عن التعامل مع الطرف الذي لا يتعامل معهم بجدية، وهذا الكلام ممكن أن ينطبق على اصحاب المشاريع الاقتصادية كافة، كالمعمل والمصنع الكبير او المتوسط والصغير، نزولا الى المشاريع الفردية الصغيرة.
وهكذا فإن هذا المثال يمكن أن ينطبق على صاحب الشركة، والمصنع، والمتجر، وكل الخدمات والمنتَجات الاخرى، حتى العلمية منها والتعليمية وسواها، لهذا تؤكد الدلائل كافة، على أن الربحية المادية والمعنوية لا يمكن أن تتحقق، من دون اعتماد مبدأ الجدية والالتزام في التعامل مع الاخرين، كعامل مساعد حيوي ومبدئي، واذا تحققت الربحية فعلا من خلال التسويف، فإن عمرها سوف يكون قصيرا، وهذا الأمر يعرفه وجربه أصحاب المشاريع الاقتصادية او سواها.
من هنا تسعى الشركات العملاقة الناجحة في العالم، ومنها اليابانية على سبيل المثال، شركات صناعة السيارات الى عدم خداع الزبائن مطلقا، حتى لو تكبدت مليارات الدولارات كخسائر عن اخطاء في الصنع وما شابه، لأنها لا تريد أن يضعها الزبائن في موضع الشركات المراوغة، عندها سوف تكون خسائرها اكبر بكثير من الخسارة بسبب جديتها بالحفاظ على سمعتها، التي تعود عليها بأرباح هائلة ومستمرة.
اضف تعليق