العفو هو أحد أسماء الله الحسنى، وهذا وحده يكفي لكي يضعه الانسان في أعلى وأحسن مرتبة من مراتب السلوك والتفكير، فيكتسب بذلك صفة وملَكَة الانسان القوي الكريم، ويأتي العفو مقابل إساءة اقترفها إنسان بحق آخر، ويسمى عفو لأن الانسان المُساء له من القوة والقدرة بحيث يتمكن أن ينتقم ممن أساء له، لكنه يؤثر العفو على الانتقام، فيستحق بذلك صفة القوة والكرم، ويُضاف لها الحكمة أيضا.
أما الانتقام فهو مفردة تقابل بمعناها وفعلها العفو، فهناك أناس لا قدرة لها على العفو، وتفضّل الانتقام ممن أساء لها، وهذا السلوك سوف يجرّد الانسان من صفات كبيرة، وسوف يعرّضه لخسائر كبيرة ايضا، على العكس ممن آثر العفو على الانتقام، فمن يعفو عن المسيء هو الرابح دائما، ومن لا يتمكن من ذلك فيؤثر الانتقام على العفو، فهو خاسر بطبيعة الحال، وشتان بين ربحية العفو وخسارة الانتقام.
لذلك نلاحظ أن الانسان عندما يفهم معنى العفو، ويتوغل في أسراره وفوائده، ومن ثم يؤمن به، فإنه يجعل من العفو نبراسا له، ومنهجا حياتيا لا يحيد عنه، وهو يتمسك بهذا المنهج حبا بالذات الالهية وتقربا منها وتمثلا بها، لأن الله تعالى ما كان يتخذ من هذه المفردة (العفو) اسما لعزّه وجلاله، لو لا عظمة هذه المفردة وعلوّ شأنها، لذلك فإن الانسان الذي يبادر بالعفو تجاه المسيئين له ويتخذ من هذا الاجراء منهجا له في الحياة، فإنه سوف يكون الرابح على الدوام، كما تدل على ذلك التجارب والوقائع على حد سواء، أما الانسان الذي يتمسك بمنهج الانتقام فهو خاسر لنفسه وللآخرين، كونه سيعجز عن المبادرة بالعفو بسبب تمسكه بالنقيض.
يقول الامام علي عليه السلام: (المُبادَرَةُ اِلى العَفْوِ مِنْ أَخْلاقِ الكِرامِ).
اذاً هنالك ارتباط جوهري بين العفو والكرم، والانسان الذي يكون قادرا على العفو عن خصومه عندما يقتدر عليهم، يعد من اكرم الكرماء، ومن افضل سمات الانسان أن يعفو عندما يقتدر، والعفو عند المقدرة من خصائص الكبار في عقولهم وأرواحهم وقلوبهم، لذلك هناك ترابط وثيق الصلة بين الكرم والعفو وبالعكس، فالانسان الكريم هو الاقدر على العفو من غيره عن المسيئين له، ونادرا ما تعثر على انسان يعفو عن الناس ولا يتمتع بملَكَة الكرم، لذلك يوصَف الناس الكرماء بالغنى، وهم فعلا اغنياء رابحون على الدوام لما يتمتعون به من حكمة وقدرة على العفو عمّن أساء لهم، مهما كان حجم الإساءة، لذلك نجد الناس الكرماء اقدر من غير على العفو، وهم الأقرب من غيرهم الى الغنى المادي والمعنوي.
هنا يربط العارفون وأهل التخصص بين الربحية وبين العفو، والربحية هنا لا تقتصر على الجانب الاخلاقي فحسب، بمعنى عندما تكون قويا وقادرا على الاقتصاص من اساء إليك، وبادرت بالعفو عنه، فإنك في هذه الحالة لن تخسر شيئا، بل سوف تكسب احترم الاخرين جميعا فضلا عن احترام المسيء نفسه وكل من يمت له بصلة قرابة، ويؤكد العلماء أن افضل وسائل اصلاح المسيئين هي ان تستخدم منهج العفو معهم، فحتى عدوك عندما تصفح وتعفو عنه، سوف يتقرب إليك وقد تتحول العداوة الى صداقة حميمة كما تدل التجارب، هنا سوف تكون الربحية عالية ومضمونة حتى في المجال المادي.
فصاحب المشروع الاقتصادي السلعي، عندما يتحلى بصفات الكرماء في التعامل مع الاطراف الاخرى، فإنه في الحقيقة يكسبهم جميعا، وبهذا تدخل قضية العفو في مضاعفة الارباح المادية ايضا، وهو منهج معروف ومشهود له حتى في المجال الاقتصادي العلمي، إذ لا يمكن أن تطول الخسارة من يتمسك بهذا المنهج في تعاملاته مع الاخرين، على العكس ممن ينتهج حالة الانتقام من الاخر، فإنه سوف يكون عرضةً لخسائر مضاعفة حتى في المجال المادي، لذلك لا ينحصر منهج العفو في المجال الاخلاقي فقط، وانما يمتد الى مجالات التعامل بمختلف اشكالها وانواعها ومجالاتها.
لذلك ينبغي على صاحب المشروع الاقتصادي، صغيرا كان أم كبيرا، أن يبتعد عن اسلوب الانتقام من خصومه، بل على العكس تماما من ذلك، عليه ان يتعامل معهم وفق اسلوب العفو الذي يجعل منهم اصدقاء متعاونين ومقربين منه، وهو بهذه الطريقة يستطيع أن يحولهم من مسار العداء الى الصداقة والاحترام، فضلا عن كسبه لهم كأطراف تتعامل بإيجابية معه في المجالات الربحية والاقتصادية عموما، لذلك غالبا ما نلاحظ أن الذي يبتعد عن اسلوب العفو يتعرض للخسارة قبل غيره.
من هنا فإن الانسان الذي ينتهج اسلوب الانتقام، يعد غير سوي حسب علماء النفس، لأن الناس الاسوياء يستجيبون الى فطرتهم، والاخيرة تدفع باتجاه العفو واللين، أما اذا حدث العكس واندفع الانسان نحو الانتقام وبادر به الطرف المعارض له او خصمه، وجعل من العفو خلف ظهر كمنهج للحياة، فإن هذا الامر يؤشر خللا نفسيا لديه، يسمى بـ (اللّؤم).
كما يؤكد ذلك الامام علي عليه السلام في قوله: (المُبادَرَةُ اِلى الإنْتِقامِ مِنْ شِيَمِ اللِّئامِ).
والخلاصة، أن الانسان ازاء منهجين واضحين، أحدهما نقيض للآخر، الاول العفو، وهو منهج يعود عليه بمكاسب وارباح معنوية ومادية، وهذا الرأي هو خلاصة ما يذهب له العلماء المختصون، والذين يبنون آرائهم استنادا الى مزيج مستخلَص من التجارب والوقائع، فضلا عن الحكمة التي يتسمون بها، أما الثاني فهو الانتقام، الذي لا يعود على صاحبه بفائدة تُذكر، بل ليس هناك سوى الخسائر التي تلحق بمن يؤمن بالانتقام كمنهج للتعامل مع المسيئين أو الخصوم، لأن العقل والمبدأ الاقتصادي السليم لتحقيق الربحية، يؤكد على جانب مهم هو كسب الخصوم والاصدقاء معا من خلال اعتماد منهج العفو في العلاقات كافة.
اضف تعليق