من يراجع سيرة أهل البيت مع مخالفيهم سواء في العقيدة أو الرأي أو غير ذلك يتضح له بوضوح أنهم رغم قدرتهم على فرض آرائهم على غيرهم إلا أنهم لم يلجأوا إلى ذلك بل آثروا التعامل معهم بالأدب والخُلق الرفيع ما دعا كثيراً من مخالفيهم إلى الرجوع عن آرائهم ومعتقداتهم...
ليس من المتوقّع أن يتحد الناس على اختلاف مذاقاتهم ومشاربهم الفكرية والعقائدية ويصبحوا على نهج واحد، لأنهم من الأساس خلقوا مختلفين وهذا ما يظهر من قوله تعالى: (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفين) (1)، إنما المتوقّع منهم أن لا يجور بعضهم على الآخر ويفرض على البقية رؤاه وعقائده أو حتى سننه وعاداته المختلفة.
فمن الطبيعي أن يختلف الناس فيما بينهم ولكن ليس من المقبول بتاتاً أن يخرج الإنسان في تعاطيه وتعامله من الآخرين عن أدب الخلاف ويفرض عليهم معتقداته أو آرائه ورؤاه.
وقد تميّز أهل البيت (عليهم السلام) في سلوكهم الرباني وأخلاقهم العظيمة في مراعات الأدب مع من يخالفهم في المعتقد أو الرأي وضربوا للتأريخ عبر العصور خير صور في هذا المجال.
وقد يُقال: أهل البيت (عليهم السلام) لم تكن لديهم القدرة في فرض معتقداتهم أو آرائهم على مخالفيهم.
وفي جوابه يقال: إنّ من يراجع سيرة أهل البيت (عليهم السلام) مع مخالفيهم سواء في العقيدة أو الرأي أو غير ذلك يتضح له بوضوح أنهم رغم قدرتهم على فرض آرائهم على غيرهم إلا أنهم لم يلجأوا إلى ذلك بل آثروا التعامل معهم بالأدب والخُلق الرفيع ما دعا كثيراً من مخالفيهم إلى الرجوع عن آرائهم ومعتقداتهم واتباعهم في ذلك.
الملفت للانتباه أنّ كثيرا من مخالفي أهل البيت (عليهم السلام) يعتمدون لغة التجاسر والتهجّم عليهم من دون أن يلاقوا منهم أيّ تجاسر ولو بالمثل.
وقبل أن نبيّن الشواهد على ذلك نذكر نموذجين لاعتراف بعض مخالفي أهل البيت (عليهم السلام) بالتزامهم بأدب الخلاف معهم:
النموذج الأول: روي عن أنس بن مالك، قال: كنت مع النبي (صلى الله عليه وآله) وعليه برد غليظ الحاشية، فجذبه أعرابي بردائه جذبة شديدة حتى أثّرت حاشية البرد في صفحة عاتقه (صلى الله عليه وآله)، ثم قال: يا محمد احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك فإنك لا تحمل لي من مالك ولا مال أبيك، فسكت النبي (صلى الله عليه وآله) ثم قال: المال مال الله وأنا عبده.
ثم قال: ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي؟
قال: لا، قال: لم؟
قال: لأنك لا تكافىء بالسيئة الحسنة، فضحك النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر(2).
النموذج الثاني: يقول المفضل بن عمر دار نقاش بيني وبين ابن العوجاء حول عظمة النبي (صلى الله عليه وآله)، فدعاني إلى الاعراض عن ذكر النبي ومناقشته حول خالق الكون.
فلم أملك نفسي غضباً وغيظاً وحنقاً، فقلت: يا عدوّ الله ألحدت في دين الله، وأنكرت الباري جلّ قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم وصوّرك في أتم صورة ونقلك في أحوالك حتى بلغ إلى حيث انتهيت...
فقال ابن العوجاء: يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلّمناك، فإن ثبتت لك حجّة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا تخاطبنا ولا بمثل دليلك تجادل فينا.
ولقد سمع من كلامنا أكثر ممّا سمعت، فما أفحش في خطابنا ولا تعدّى في جوابنا، وإنه الحليم الرزين العاقل الرصين، لا يعتريه خُرق ولا طيش ولا نزق، يسمع كلامنا ويصغي إلينا، ويتعرّف حجّتنا حتى إذا استفرغنا ما عندنا وظننّا أنا قطعناه دحض حجّتنا بكلام يسير وخطاب قصير يلزمنا به الحجة ويقطع العذر ولا نستطيع لجوابه رداً، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه(3).
أمّا مصاديق التزام أهل البيت (عليهم السلام) بأدب الخلاف مع ألد مخالفيهم فالشواهد على ذلك كثيرة ومنها:
السام عليكم
عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: دخل يهودي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعائشة عنده، فقال: السام عليكم- أي الموت عليكم-، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): عليكم.
ثم دخل آخر، فقال مثل ذلك، فرد عليه كما رد على صاحبه.
ثم دخل آخر فقال مثل ذلك فردّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما ردّ على صاحبيه، فغضبت عائشة، فقالت: عليكم السام والغضب واللعنة يا معشر اليهود، يا إخوة القردة والخنازير.
فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا عائشة إنّ الفحش لو كان ممثّلاً لكان مثال سوء، إنّ الرفق لم يوضع على شيء قط إلا زانه، ولم يرفع عنه قط إلا شانه.
قالت: يا رسول الله أما سمعت إلى قولهم: السام عليكم؟
فقال: بلى، أما سمعت ما رددت عليهم؟
قلت: عليكم، فإذا سلّم عليكم مسلم فقولوا: سلام عليكم، وإذا سلم عليكم كافر فقولوا عليك(4).
لا أُكافيهم بمثل ما فعلوا
لما ملك عسكر معاوية الماء وأحاطوا بشريعة الفرات ومنعوا أميرالمؤمنين (عليه السلام) وجنده منها قالت رؤساء الشام له: اُقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا، فسألهم الإمام علي (عليه السلام) وأصحابه أن يشرعوا لهم شرب الماء، فقالوا: لا والله ولا قطرة حتى تموت ظمأً كما مات ابن عفان.
فلما رأى (عليه السلام) أنه الموت لا محالة تقدّم بأصحابه وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع سقطت منه الرؤوس والأيدي وملكوا عليهم الماء وصار أصحاب معاوية في الفلاة لا ماء لهم، فقال له أصحابه وشيعته: امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك، ولا تسقهم منه قطرة، واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضا بالأيدي فلا حاجة لك إلى الحرب.
فقال: لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة، ففي حدّ السيف ما يغني عن ذلك(5).
أظنّك غريباً
روي أنّ شامياً رأى الإمام الحسن (عليه السلام) راكباً فجعل يلعنه والإمام الحسن (عليه السلام) لا يرد، فلما فرغ أقبل الإمام الحسن عليه فسلّم عليه وضحك، وقال: أيها الشيخ أظنك غريباً، ولعلك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا حملناك، وإن كنت جائعا أشبعناك، وإن كنت عريانا كسوناك، وإن كنت محتاجا أغنيناك، وإن كنت طريدا آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك.
فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك، لأن لنا موضعا رحباً وجاهاً عريضاً ومالا كبيراً، فلما سمع الرجل كلامه بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالاته(6).
أنت ابن الطباخة
روي أنّ نصرانياً قال للإمام الباقر (عليه السلام): أنت بقر.
فقال (عليه السلام): لا أنا باقر.
قال: أنت ابن الطباخة.
قال: ذاك حرفتها.
قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذية.
قال: إن كنت صدقت غفر الله لها، وإن كنت كذبت غفر الله لك، فأسلم النصراني(7).
دعوة الموالين للالتزام بآداب الخلاف مع الآخرين
لم يقتصر أهل البيت (عليهم السلام) مع مخالفيهم على لغة الغض وعدم الردّ بالمثل، بل أمروا من حولهم من أتباعهم ومحبّيهم بالالتزام بنفس المنطق ما يدل على عظم خُلقهم وشدّة التزامهم بأدب الخلاف مع الآخرين.
قاتله الله كافراً ما أفقهه
روي أنه مرّت امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إنّ أبصار هذه الفحول طوامح وإنّ ذلك سبب هناتها، فإذا نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلمس أهله فإنّما هي امرأة كامرأة.
فقال رجل من الخوارج: قاتله الله كافراً ما أفقهه، فوثب القوم ليقتلوه، فقال علي (عليه السلام): رويدا إنّما هو سب بسب أو عفو عن ذنب(8).
مهلاً ياقنبر
روي عن جابر قال: سمع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) رجلاً يشتم قنبراً وقد رام قنبر أن يردّ عليه، فناداه أمير المؤمنين علي (عليه السلام) مهلاً يا قنبر دع شاتمك مُهاناً ترض الرحمن وتسخط الشيطان وتعاقب عدوّك، فوالذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ما أرضى المؤمن ربّه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه(9).
اسمعوا ردّي عليه
روي أنه وقف على علي بن الحسين (عليه السلام) رجل من أهل بيته فأسمعه وشتمه فلم يكلّمه، فلمّا انصرف قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل؟ وأنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا ردي عليه.
قال: فقالوا له: نفعل ولقد كنّا نحب أن تقول له ونقول، قال: فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: (وَالْكاظِمينَ الْغَيْظَ وَالْعافينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنين) (10)، فعلمنا أنه لا يقول له شيئاً.
قال: فخرج حتى أتى منزل الرجل فصرخ به، فقال: قولوا له: هذا علي بن الحسين، قال: فخرج إلينا متوثبا للشر وهو لا يشك أنه إنما جاءه مكافئا له على بعض ما كان منه، فقال له علي بن الحسين (عليه السلام): يا أخي إنك كنت قد وقفت علي آنفا فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيّ فأستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس في فغفر الله لك.
قال: فقبّل الرجل ما بين عينيه، وقال: بل قلت فيك ما ليس فيك وأنا أحق به(11).
أقول: ما أحوجنا اليوم مع تلاطم الفتن بنا وتظاهر الأمم علينا إلى هذا المنطق والأدب الرفيع الذي تعامل به أهل البيت (عليهم السلام) مع الآخرين لنكون كما أرادوا صلوات الله عليهم زيناً لا شيناً عليهم.
اضف تعليق