الأخلاق ثالثة الأثافي، فهي مكملة للدين والعلم، ومثلما لا يستقر (القِدر) إلا على ثلاث، كذلك الحال بالنسبة للمجتمع، فهو لا يستقر ولا يتطور إلا عندما يرتكز على ثلاثة: الدين، الأخلاق، العلم، وطالما أن الثلاثة يرتبطون مع بعضهم بوشائج لا فكاك منها، فهذا يعني فيما يعنيه...
الأخلاق ثالثة الأثافي، فهي مكملة للدين والعلم، ومثلما لا يستقر (القِدر) إلا على ثلاث، كذلك الحال بالنسبة للمجتمع، فهو لا يستقر ولا يتطور إلا عندما يرتكز على ثلاثة: الدين، الأخلاق، العلم، وطالما أن الثلاثة يرتبطون مع بعضهم بوشائج لا فكاك منها، فهذا يعني فيما يعنيه، التأثير المباشر لغياب أحدهم عن الثلاثة، فبالعلم وحده لا يستقيم المجتمع، ولا تنمو الحياة نحو السؤدد، وكذا الحال لا إستقامة بالدين بلا علم ولا أخلاق، هذه المساند الثلاثة هي الداعم الأقوى للمجتمع.
وكلامنا هنا عن الأخلاق، ونجتزئ من المفهوم العام للأخلاق الهامش التربوي، بمعنى كيف نربي الإنسان أخلاقياً، ليس بالكلمات وحدها ولا بالوعظ رغم أهميته، فالأخلاق كلمة متبوعة بموقف، وتُقاس على أساس المواقف التي تصممها وتبنيها الأخلاق، فالإنسان الممتلئ أخلاقيا، سيظهر ذلك في مواقفه الاجتماعية وأنشطته العملية المختلفة، كيف إذاً لو شبَّ الطفل في بيئة لا أخلاقية، أو مدرسة لا تحكمها الأخلاق، أو مجتمع مصاب بالفقر الأخلاقي!!؟.
قد يحدث هذا في عالمنا العاري الذي بات مكشوفا لبعضه عبر الميديا الحديثة والإعلام الذي سلط نفسه كاشفا لكل شيء، فالثقافات مباحة، والقيم تعيش عصرها التناقلي الذهبي، ولا سبيل لمنع أحد من استخدام وسائل العصر، الانفتاح المسؤول وحده من يحفظ الطفل، المراهق، الشاب، فالبيئة البِكرْ هي العائلة، أول مدرسة أخلاقية للفرد، ينهض الطفل في ربوعها، يفتح عينيه على الوجوه التي تضمها، تُشنَّفُ أذناه للأفواه الناطقة فيها، تلتقط حروفها، وتستفهم عن معاني الكلمات الملفوظة، فإذا كانت المعاني من قبيل الفضائل صحَّت التربية، ومع كل يوم جديد في هذه العائلة الأخلاقية، يلتقط المولود الجديد قيماً جديدة تسند قامته وتشدّ أزره وترمم وعيه، وتؤثّث عقله بالقيم الصالحة، ففي بيئة أسرية كهذه، ستعمل الأخلاق بدأب على تعضيد الشخصية وتبنيها بالتآخي والترادف مع الدين والعلم.
فأولى المحطات التربوية هي الأسرة النموذجية، بأخلاقها ودينها وعلمها، أي أن المدرسة الأخلاقية الأولى للإنسان عائلته، ولا يكفي بالطبع أن تكون خلوقاً عالِماً متدينا، أو مراعياً لمتطلبات الدين، فالمهم أن تكون رقيبا لعملية الانفتاح الثقافي والسلوكي، كما أن الوعاء الكبير الذي يثبت مهنية وصلاحية المساند الثلاثة، الأخلاق، الدين، العلم، هو العمل بها، تطبيقها وليس ترديدها كالببغاء، أي تحويل الأخلاق إلى مواقف، أفعال يلمسها المحيط لمس اليد، ويسمعها، ويراها بالعين المجردة، وليس بمنظار أو وسيط آخر، وهنا يمكن أن نجزم القول بأن الأسرة هي محطة التربية الأخلاقية الأولى في حياة الكائن البشري، هذه المحطة قد ينطلق منها الإنسان إلى عالم الفضيلة، ومن الممكن جدا أن ينطلق منها إلى عالم الرذيلة.
وثمّةَ محطة ثانية تلي مباشرة محطة الأسرة، إنها المدرسة، فالمحيط الاجتماعي الجماعي الثاني للطفل بعد العائلة (المدرسة)، وهذه المحطة يمكن أن تكون موجِّهًا ودافعا للطفل نحو المقبولية الاجتماعية، وقد يحدث النقيض، حين تتخلى المدرة عن دورها التربوي الأخلاقي، هذه المحطة يجب أن يعرف كادرها، أنها ليست معنية بزقّ العلم وحده في عقول الصغار، ولا الدين وحده، فالأخلاق هي المرتكَز الثالث الذي تستند إليه الشخصية، ولا نبالغ بشيء عند القول بأن الأخلاق هي التي تكمل دين الإنسان وعلميته، خصوصا أننا نعيش الانفتاح الثقافي الإعلامي بأقصى درجاتي.
تُرى هل وعتْ مدارسنا مهمتها هذه، وهل تُقدّر الكوادر التربوية التعليمية دورها الأخلاقي في تربية طلبتها؟، هذا السؤال يحتاج إلى إجابات دقيقة عنه، ولسنا هنا بصدد استهداف شريحة أو شخصية معينة، فالهدف هو تسليط الضوء على حقائق خطيرة قد يؤدي إهمالها إلى دفع المجتمع صوب الانهيار، لماذا غابت مناهج التربية الأخلاقية عن المدارس، هل هو العجز في تقدير درجة الخطورة، أم هي اللامبالاة، أم عدم الشعور بالمسؤولية، أم عدم التقدير الصحيح لقيمة التربية الأخلاقية للطلاب، بالأخص في المراحل العمرية الأولية؟.
المحطة الثالثة تخص الأصدقاء، وتُرمى المهمة فيها على طرفين، الإنسان نفسه في اختياره لأصدقائه، والتدقيق في صفاتهم ومواصفاتهم، والطرف الثاني يعود للأصدقاء ومدى تأثّرهم بالثقافات الضارّة وما يتمخض عن ذلك من تأثيرات مباشرة على الفرد الذي اختارهم، وطالما أن الطيور (على أشكالها تقعُ)، فمن باب أولى أن يكون الإنسان حاذقا في اصطفائه لمن يرافقه مشقة الحياة ومصاعبها، نجاحها وإخفاقها، ضوءها وظلامها، تألّقها ونكساتها، ثنائية الفوز والخسران، هذه كلها ترتبط بسلسلة الدين/ العلم/ الأخلاق، وإن انفصمت عرى هذه السلسلة، فلا مفرّ من التدهور والانحطاط، لأن غياب أحد عُرى السلسلة، يعني تلاشي أقطابها الثلاثة كلهم، لأن العلاقة الرابطة تداخلية لا تقبل الانفصام.
هذا ما دفع بالعلماء والفلاسفة والمصلحين، إلى التركيز على التربية الأخلاقية، وأظهروا في أفكارهم ومؤلَّفاتهم وجل كتاباتهم، بأن الأخلاق عمود لا يمكن أن يتخلى عنه المجتمع من حيث الارتكاز، والحال نفسه بالنسبة للفرد، فهو حين يكون بلا أخلاق (أيّاً كانت الأسباب التي تقف وراء ذلك)، هذا يعني بالتعدد والتناسل والتراكم مجتمعا بلا أخلاق، والنتيجة انهيار حاضر أو مستقبلي في المدى المنظور للمجتمع، فما العمل، وكيف التصدي لهذه العقبة الكؤود، بوضوح تام، كيف نبني فردا أخلاقيا، ومن ثم كيف ننتج مجتمعا مستقرا نافرا حيويا مستندا إلى الأثافي بلا نقص.
تكريس التربية الأخلاقية هي الحل، فكيف يتمّ ذلك؟، في رؤيتنا يجب القيام بما يلي:
- إظهار دور الأخلاق من الناحية التربوية عبر شتى السبل والوسائل.
- تشريع ثقافي وتعليمي ملزم لمادة الأخلاق وإدخالها في المناهج الدراسية لكل المراحل.
- تفكيك شفرات الانفتاح وجعله مفهوما للجميع بالأخص الشباب والطلبة.
- أن لا يتم الاكتفاء بالوعظ الأخلاقي، وأن تكون التربية الأخلاقية متّكئة على التجريب الفعلي الواقعي.
- التركيز على الدور الأسري في التربية الأخلاقية، وإفهام ولاة الأمور بأن الاهتمام المادي وحده لا يبني ولدا صالحا، الأخلاق والقيم هي التي تبنيه وتجعله من بين أقدر الناجحين وأميزهم.
- المؤسسة التربوية التعليمية الحكومية والأهلية، تتحمل كامل المسؤولية في تربية طلابها أخلاقيا، ليس عبر التلقين والوعظ فحسب، فثمة السلوك والمواقف التي تجعل الطالب أخلاقيا في سلوكه وتربيته.
- أرباب العمل مسؤولون عن موظفيهم وعمالهم، فمحيط العمل والعلاقات الإنسانية في هذا المجتمع العامل لا تقل درجة أو مرتبة عن المدرسة ولا الأسرة في التربية الأخلاقية.
- المحافل الثقافية والإعلامية تتحمل وطرا من ثقل المسؤولية الأخلاقية الفردية والمجتمعية، ويجب أن تؤدي دورها التربوي الأخلاقي بكامل التنظيم والتأثير والفاعلية.
اضف تعليق