قُرِنَ حُبُّ الرِّئاسة بِالعُلماء لا لِكَون العِلم هو الدّافع إلى الحِرْص على تَسَنُّم مَنْصِب الرّئاسة، وإِنّما لِكَون الرّئاسة عِلَّة في إِفْساد العُلماء. فَقَد يَتَجنّب العَالِم الرّئاسة في سَبيل المُحافظة على حُسْن عِلمهِ وصَلاحه بِلا كُلْفَة أو جُهد مِن نَفْسِه وبَدَنهِ وعَقْلِه...
فِي مَعانِي النّصِ الشّرِيفِ لِأَمِيرِ المُؤمنين صَلوات الله عليه أَنَّ الآفةَ: ما يَنْتَهي بِالصّالِح الماديٌ أو المَعنوي إلى الفَساد.. والعالِمُ: كَثِيرُ المَعْرفة المُنَظّمة.. والرِّئاسةُ: رَأْسُ الشَّيء وأَوّلُه.
هَذا نَصٌّ مَشْهور عِنْد تَناوُل مُشْكِلات الرّئاسة بَين عامة النّاس، وما زالَ الإسلامُ مُنْذ ارْتِكاب الصَّحابة جَريمة اغْتِيال النّبي صلى الله عليه وآله ضَحِيّةَ "حُبُّ الرّئاسة".
العِلمُ دَرَجاتٌ تُحَدِّد مَرتَبةَ حامِلِه. وتَحْدِيدُ المَرْتبة العِلْمِية رَهنٌ بِالمَعْنى المُخْتار لِلعِلم أَيْضا.. فبَعضُهمُ عَرَّف العِلم: مَعْرِفةٌ مُنَظّمة، مَعْرِفةٌ عامة غَيْر مُنَظّمة، مُطْلَقُ المَعرْفة، ما لَحِقَ بِشَجَرَة الفَلْسفة أَو اسْتَقلّ عنها، ما كانَ قَطعِيّاً أو قانُوناً، البَدْهِيات، ما أَفْرز في الذِّهْن جَديدا، ما أَنْتَجتْهُ المُسْتَقِلات العَقلية.. واخْتَلفوا فِي كَون حُبّ الرّئاسَةِ غَرِيْزة أو رَغْبةَ أَكِيْدة، أَو أَنّ الدّافع إلى حُبِّ الرّئاسَة يَشْتَدّ أو يَضْعف، وَهُو الّذي يُحَدِّد دَرَجة سَعْي الإنْسان إلى الرّئاسَة أو التَّمسُك بِها أَو بِأَذْيالِها.. أَو أَنَّ حُبَّ الرّئاسة حِرْصٌ شَدِيد عِنْد الإنْسان وأَصْعَبَ ما يَسْتَطيع الإِنْسانُ التّخَلّي عنه حِيْن بُلُوغِهِ.
قُرِنَ حُبُّ الرِّئاسة بِالعُلماء لا لِكَون العِلم هو الدّافع إلى الحِرْص على تَسَنُّم مَنْصِب الرّئاسة، وإِنّما لِكَون الرّئاسة عِلَّة في إِفْساد العُلماء. فَقَد يَتَجنّب العَالِم الرّئاسة في سَبيل المُحافظة على حُسْن عِلمهِ وصَلاحه بِلا كُلْفَة أو جُهد مِن نَفْسِه وبَدَنهِ وعَقْلِه.
الّذي يَهُمنا مِنَ النَّص الشّرِيف: أنّ مُستوى العِلم يُحَدِّد رُتْبَة العالِم بَيْنَ أَقْرانِهِ ونُظَرائِه. ولكنَّ التَّساؤل المُثِير يَدُور حَول الجِهة الّتي لَها حقّ الإخْتِصاص في تَقْدِير دَرَجةَ العِلْم عِنْد العَالِم قَبْل سَوْق الرُّتْبَة إِليْه.
تَعْتَمِد الحَوزات الشّيعية الفِقْهِ والأُصُول مادَّتي العِلْم، فَهَلْ فِيهما ما يَشُدّ العَالِم إلى حُبِّ الرّئاسَة؟!.. حُبُّ الرّئاسة لَيْس آفةُ لعِلْمَي الِفقْه والأُصُول، وإِنّما هُو آفَةُ العُلماء بِصَرْف النّظَر عَنْ دَرَجة عِلمِهم أو رَتْبَتِهم العِلْميّة.
هل حُبُّ الرِّئاسة لا يَشْتَدّ عند المَرجِع المُجْتهد ويَضْعُف عند العالِم في مَرْحَلة المُقدمات.. الرّئاسة مَطلوبَة ٌعند كِلَيْهما كعِلْمٍ أَو رَغْبَة أَو كِلَيهما مَعا، وَقَد لا تَكُون.
الرّئاسَةُ هي عِلمٌ أَيْضا، فَهلْ المرُاد مِنَ النّص الشّريف أنّ اختصاص العُلماء لا يَجْتمع مَع حُبِّ عِلْم الرّئاسة أَمْ الرّئاسة مُجرّدة، فإنْ اجْتَمع عِلمُ الدّين مَع حُبِّ الرّئاسة؛ أَفْسَدَتِ الرّئاسةُ العِلمَ إِذْ لَيْس مِنْ شَأنِ عُلوم الدِّين الصُمود أَمام الرّئاسة والتّصدي لها؛ لأنّ مِنْ صِفَة الرّئاسة التْهام العِلم!
المَرْجعُ الشّيعي عالِمٌ، والمَرْجِعيّة رِئاسَةٌ أَيْضا في الوَلايتين: وَلاية الفَقِيه العامّة والوَلاية المُطلَقة. وَالوكالات الّتي تَصْدُر عن المَرْجعيّة تَكلِيف بِرِئاسَة.. فَهلْ المُراد في النّص التّأكيد على خُطورة "حُبِّ" الرّئاسة لا الرِّئاسة المُجردة ذاتها؟
العالِمُ أَكَثرُ النّاس تَمسُّكا بالرّئاسة إذا ما أَحَبَّها وَسَعى إليها، لأَنّه يَخْشى اسِتلام الجاهِل لها، وَهُو يَعلمُ أنّها آفَةٌ، ويَعلَم أَنّ حُبَّ الرّئاسَة مَفْسدَةٌ لِلعُلماء، وحُبُها قَرِينُ كُل عالِم إِلا مَنْ اسْتُثْني. ويَرى الفَلاسِفةُ القُدماء أَنّ صَلاحَ الرّئاسة في حُكْم العُلماء الفَلَاسِفة لا فِي غَيْرهم. ولا تَصلْح الرّئاسة باِلجُهّال وهُمْ يُحِبُّونها أَيْضا ويُحاربِون عليها ولِأَجْلِها.. ورُبما حُبُّ الرّئاسة القَرين لِعالِم الدِّين يَصِل إلى دَرجَةِ المَودّةِ، فلا يَسْتطيع أَحدٌ انْتِزاعَ "الحُبّ" مِنْهُ طالَما قَدِّرَ العالِمُ دَرجةَ عِلْمه بِذاته، ثَمّ قَدَّر لِنَفسِه رُتْبَتَه.
إِنَّ كَثيِراً مِنَ عُلماء الدِّين يُقَدِّر لِذاتِه دَرجةً عِلميّة ومَرتَبةً أَيْضا، وتَخْلو الحَوزة مِنْ مَعايِير خاصّة في التّقدير. فَمِن المُشاهدات فِي الحَوزة أَنَّ دَرْسَ البَحْث الخارِج يَغُصّ بِطُلاب عِلم لَمْ يَتَخَطّوا مَرْحَلة المُقدِّمات بِجُودة مُناسبة. فَما حُكْم هؤلاء إِنْ أَحَبّوا الرّئاسة؟!
النّصُ الشَّرِيفُ يَتحدث عن العالِم في اخْتِصاصه ويُوصَف بِأَنّهُ عالِمٌ، وهو المَعنِّي بالآفَةِ إِذا ما أَحَبَّ الرّئاسة، أو أَنّهُ يُحِبُّ الرّئاسة لِعِلمهِ الّذي َيشُده إِليها ويَرى فِيها كَماله وتَمام عِلْمِه، وكأَنّ العالِمَ لا يَتُم عِلمُه ِبِلا رِئاسَة!.. فما دُمتَ عالِما فأَنْتَ رَئِيْس، لأَنَّكَ تَحْمِل شُعْلةَ النُّور وتَتَقدم بِها صُفوفَ النّاسِ حتى تَرْشُدهم إلى الطّريق السّليم!
يُصابُ عالِمُ الدّين بالغُرور فِي مَجالِ اخْتِصاصه لأَنَّ العِلمَ الذي يَحوز عليه "رِئاسة" أَيضا، فلا يَرى العالِمُ فِي النّاس مَنْ يُضاهِيه عِلما، فهو المُتربِّعٌ على رئاسة العِلم ولا يُنافِسه أَحدٌ.
حُبُّ الرّئاسة في العِلم آفَةُ العالِم، لأَنَّ الرّئاسة ذاتها تُشْعِر العالِم بِكَماله فَيُحِبّها وإِنْ لَمْ يَكْتَسِب عِلْمَها. وقد لا يَجْتهد في تَحْصِيله العِلْمِي حِينَ يَكْتَفي بِرئاسة مِنْبَر أو مَجْلِس، وتَكُون المُغالبةُ في البَحثِ العِلمي دافِعُه بِغُرور. فإنْ تَفَوقْ على نَظَرائِه أَّخَذَته نَشْوَةُ رِئاسة المَوقف وسَعادَةُ تَخَلُّف نُظَرائِه عنه.. إِنّها آفةٌ تَجْعَل مِنْ العالِم إِذا ما أَصابَتْه جاهِلا أحْمَق.
اضف تعليق