الحق كما يصفه العارفون هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، هذا يعني اننا ازاء مفردة ومعنى وواقع لا يمكن تحريفه أو إنكاره او تغييره، إلا اذا تعمَّد الفاعل تجاوز الحقائق وتوابعها من أدلة وشواهد عادلة، لذلك كل من يدير ظهره للحق، يُقال عنه أنه لا يراعي هذه القيمة ذات الطابع التكويني الذي ينسجم مع الفطرة الانسانية، ومع مواصفات الكون كله، ومن يرفض او ينبذ الحق ليس امامه طريق غير الباطل، والنتيجة بين النقيضين (الحق والباطل)، ستنتهي بنهاية الأخير الى هزيمة نكراء، وإن طال الزمن، بمعنى في حالتيّ الصراع بين الطرفين، يحدث أن يتظاهر الباطل بالغلبة وتحقيق الفوز، وقد يبدو هذا للرائي او المستمع ظاهريا، وتكتيكيا، ولكن في النتيجة لا يصح إلا الحق، فهو يعلو ولا يُعلى عليه.
أما بخصوص قولنا بأن الحق سمة او ملَكة تكوينية تنسجم مع الوجود وكائناته، فهذا الرأي ينطلق من أن الكون ومخلوقاته تم خلقها بإرادة ربانية، وهذه الارادة قائمة على الانسجام والتوافق، فكل شيء مخلوق في الوجود وكائناته حق، لأن الله تعالى يريد الخير والرحمة بالانسان، لذلك كل من يقف بالضد من الحق فهو يقف ضد الارادة الإلهية، وعند ذاك ستنتهي حياته الى الضنك، والعوز والفقر، وهذا ينسجم تماما مع الآية الكريمة الواردة في سورة طه والتي جاء فيها: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)، بمعنى أن كل انسان يتجنب أو يُعرِض عن ذكر الله، فإنه يعرض عن الحق ولا يعمل به، ومن ينتهج هذا المنهج في حياته، فإنه سينتهي الى الفقر والضنك، ليس الفقر المادي فحسب، بل الفقر الروحي الذي يسلب إرادة الانسان الايجابية، ويكرّس روح المعاندة والعزة بالإثم في نفسه، لهذا سوف تتسم حياته بالضنك والفقر.
علما أن التمسك بالحق كمنهج فكري وعملي يستدعي إرادة متميزة، وعقلا متفردا، لأن طريق الحق يحتاج الى تضحيات كبيرة لا تتمكن عليها سوى الارادات الكبيرة، من هنا يؤكد علماء النفس والتربويون المعنيون والخطباء والدعاة الاصلاحيون، أن منهج الحق لا يُمنَح لأحد، إنما يُنتَزع انتزاعا، من خلال الاصرار الشخصي على تقديم التضحيات المطلوبة ونكران الذات وتطوير القدرات الذاتية، والابتعاد عن الباطل وأهله وأشكاله وأساليبه المخاتلة، حتى لو كان ينطوي على مغريات كبيرة، مادية او معنوية، كالجاه والمنصب والاموال والقوة وما شابه، لأن العبرة تكمن دائما في النتائج النهائية، وليس في الفوائد الآنية التي تقوم على الظلم والاساءة للآخرين، فالباطل وأهله يهدفون الى فوائد غير مشروعة، وكلها آنية قابلة للزوال السريع، وليس فيها ما يمتلك صفة البناء للغد، وزراعة الخير للغير.
لذلك أهل الباطل يغضبون من الحق، لأنه يسلب منهم مغريات الباطل ويمنعهم عنها ويمنعها عنهم، ويطالبهم بالكف عن التجاوز على حقوق الآخرين وإيذائهم، أما سبب منعهم عن ركوب الباطل، فلأنهم - أهل الباطل- سيتعرضون الى خسائر فادحة مع ارباح آنية سريعة الزوال، ومع ذلك (ما فائدة أن يربح الانسان العالم ويخسر نفسه) كما يقول السيد المسيح (عليه السلام)، لذلك خير لك أن يغضبكَ اخوك من اجل الحق، على أن يصمت او يجاريك على افعالك بالباطل، لأن النتيجة ستكون وبالا على من يعتمد الباطل والخداع والتزييف في حياته.
يقول الامام علي عليه السلام (خير اخوانك من كثر إغضابه لك في الحق)، وهذا امر واضح، لمن يرغب في فهمه وقطف ثماره، فالانسان الذي لا يهمه أمرك، قد لا يثنيك عن ارتكاب الباطل، ولكن اذا كان الانسان حريصا عليك وتهمه حياتك ومصلحتك فإنه سوف يغضبك ويقف بوجهك بقوة اذا لاحظ أن تنتهك الحق وتعتمد الباطل في حياتك، والواقع أن مهمة الثبات على الحق غاية في الصعوبة، على الرغم من انها الطريق المضمون الى الربحية المعنوية والمادية معا، فالحق يحتاج الى عقول جبارة، وألسنة لا تكف عن المطالبة به حتى في اصعب الظروف وأحلكها، خاصة كبار القوم وقادة النخب في المجتمع، فهؤلاء ( العلماء، المفكرون، الخطباء، الكتاب وغيرهم) مسؤولون أكثر من غيرهم في الثبات على الحق وتثبيته.
كما يرد ذلك في كلمات للامام علي عليه السلام يقول فيها: (يحتاج الإمام إلى قلب عقول، ولسان قؤول، وجنان على إقامة الحقّ صؤول). لذلك يتطلب الحق تربية خاصة للانسان، تجعله قادرا على جني ثمار وربحية الحق التي لا تقل قيمة عن أثمن الكنوز، لاسيما أن رجال الحق تكتمل سماتهم وملكاتهم التكوينية، كونهم لا يعيشون ذلك الصراع العصيب الذي ينتج عن عدم التصالح مع النفس لدى أهل الباطل، فيعيشون طوال حياتهم حالة عدم القبول والرضا عن النفس، والشعور المؤلم بالذنب، وهذه قمة الخسائر المعنوية للانسان، ومع ذلك مثل هؤلاء أضعف من أن يتخلوا عن مغريات الباطل، فيؤثرونها على مزايا الحق، ويستطيبونها حتى لو كان الثمن خسارة الرضا عن النفس، وخسارة دعة الضمير، لذلك فإن طريق الحق هو طريق الربحية، وبالمقابل فإن طريق الباطل هو طريق الخسران بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.
اضف تعليق