البيئة بمفهومِها العام تعني الوسط المكاني، الذي يعيش فيه الإنسان ويتأثر به ويؤثر فيه. وبعبارةٍ أخرى يقصد بمفهومِ البيئة جميع العناصر الطبيعية والحياتية، الَّتِي تتواجد على سطحِ الأرض وحولها، الأمر الذي يحتم على الإنسانِ مواجهة جميع النشاطات الَّتِي من شأنِها إحداثِ تغيير في البيئةِ المحيطة بالكائناتِ الحية؛ بالنظرِ لقدرةِ الملوثات البيئية على اختلالِ النظام البيئي.
وبحسبِ المتخصصين بالشأنِ البيئي يشار إلى تلوّثِ البيئة بوصفه أي شيء يؤثر في عناصرِ البيئة سواءً الحية منها المتمثلة بالإنسانِ والنبات والحيوان أو غير الحية، الَّتِي أطرافها الهواء والماء والتربة. ولعلّ ما يثير الدهشة هو سعي إنسان اليوم جاهداً من أجلِ حماية الطّبيعة من سلبيةِ آثار فعالياته بخلافِ الإنسان القديم، الذي كان منشغلاً بحمايةِ نفسه من الطبيعة.
تُعَدُّ مهمة المحافظة على بيئةِ الحياة، والحرص على استمراريةِ ديمومتها انعكاساً لأهميتها وتأثير نظافتها على صحةِ الإنسان وتأمين سلامته التّي تمكنه من أداءِ نشاطاته بشكلٍ فاعل يفضي إلى العطاءِ الدائم والإبداع في الإنتاج، الأمر الذي فرض على حكوماتِ مختلف بلدان العالم التعامل مع مهمةِ المحافظة على البيئة بعقلانيةٍ واتزان، بوصفها من المسؤوليات الملزمة الَّتِي لا يمكن تغافل سلبية تداعيتها المتمثلة بمخاطرِ التلوث وكارثية آثاره على المجتمعاتِ الإنسانية الناجمة في أغلبها من النشاطاتِ البشرية الَّتِي تعكس اختلال العلاقة ما بين الإنسان وبيئته، إلى جانبِ أسباب أخرى خارجة عن إرادته. وانطلاقاً من إدراكِ المجتمع الدولي لهذه الحقيقةِ الصادمة، أصبح مطلب الحفاظ على البيئةِ بفعلِ تنامي مشكلاتها من أبرزِ القوانين التّي أقرتها المنظمة الأممية بتشريعاتٍ تسعى مضامينها بمجملِها إلى الارتقاءِ بالوعي البيئي، لأجلِ الحد من تلوثِ البيئية وتدهورها.
لا أخطئ في القولِ إنَّ القطاعَ الصناعي، الذي يشمل مختلف النشاطات الاستخراجية والتحويلية، يعد من أهمِ المرتكزات الداعمة لاقتصاداتِ كثير من بلدانِ العالم، ولاسِيَّمَا المتقدمة منها التّي تلعب فيها الفعاليات الصناعية دوراً رئيساً بتعزيزِ استراتيجيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية الساعية إلى تحقيقِ رفاهية شعوبها، بالإضافةِ إلى زيادةِ فرص العمل في محاولةِ إتاحتها لأكبرِ عدد من السكانِ القادرين على العملِ والباحثين عنه، فضلاً عن إمدادِ المستهلكين باحتياجاتِهم من السلعِ والبضائع، إلا أنَّ إيجابيةَ ما مرتجى من هذه النشاطاتِ الإنتاجية تبقى مرهونة بمستوى ما يرافقها من آثارٍ سلبية لا يمكن تجاوزها من دونِ العمل على تقليصِ ما تخلفه من ملوثاتٍ بوسعِها التأثير على صحةِ الأنسان وإفساد بيئة الحياة وإلحاق أضرار جسيمة بها.
إنَّ خطورةَ المواد الملوثة الناتجة عن النشاطاتِ البشرية في ميدانِ الصناعة تفوق بحسبِ المتخصصين خشية المجتمعات البشرية من الملوثاتِ التّي تتواجد في النفاياتِ المنزلية؛ بالنظرِ لاعتمادِ كثير من أنماطِ الصناعة على موادٍ من شأنِها الإضرار بصحةِ الإنسان والكائنات الحية على حدٍ سواء نتيجة الأمراضٍ والأوبئة الكثيرة المترتبة على انبعاثِ الملوثات من مختلف مراحلِ العملية الإنتاجية، بالإضافةِ إلى سلبيةِ تأثير المواد الملوثة على توازنِ أوساط الطبيعة المتمثلة بالهواءِ والماء والتربة.
يشكل تلوّث الهواء أبرز مشكلات البيئة المعاصرة جراء تسببه في موتِ نحو (50) ألف شخص سنوياً نتيجةً لأثرِ المواد الضارة الَّتِي تحويها جزيئاته، الأمر الذي يؤدي إلى إلحاقِ أضرارٍ بليغة بصحةِ الإنسان، بالإضافةِ إلى البيئةِ الَّتِي يعيش فيها. وقد وجد أنَّ المدنِ الصناعية الكبرى تشكل أكثر المناطق تعرضاً لظاهرةِ التلوث، إلى جانبِ الدول النامية الَّتِي لا تفتقر لإمكانياتِ الحد من تلوّثِ البيئة.
لم تكن البصرة بمنأى عن أخطارِ التلوث الناجمة عن التعاملِ مع النفطِ في جميعِ مراحل استثماره، ولاسِيَّمَا فعالية استخراجه التّي من شأنِها المساهمة في زيادةِ الانبعاثات السامة بأجواءِ المدينة الغنية بآبارِ النفط، حيث يعاني الأهالي في المناطقِ المتاخمة لحقولِ النفط من حالاتٍ مرضية مثل الحساسية والربو والتهابات الرئة، فضلاً عن تعرضِ الأطفال لإصاباتٍ تنفسية خطيرة، بالإضافةِ إلى امتدادِ تأثيرات التلوث للمصادرِ المائية والتربة الزراعية.
على خلفيةِ انتهاج الحكومة العراقية سياسة التراخيص الاستثمارية، أفضى زيادة عدد الشركات النفطية العاملة في بعضِ حقول البصرة النفطية إلى تفاقمِ خشية كثير من المتخصصينِ في مجالِ البيئة من تهديداتِ الملوثات المتأتية من استخراجِ النفط لبيئةِ الحياة في المحافظة جراء كتم أنفاسها بمستوياتِ تلوث قياسية في ظلِ اتهامات رسمية وشعبية لشركاتِ التنقيب بتجاهلِ القواعد الرامية إلى الحدِ من التلوثِ وتجاوزها على التصميمِ الأساس لبعضِ مناطق المحافظة، إلى جانبِ المشكلات الصحية والبيئية الموروثة من سنواتِ حروب النظام السابق المتمثلة بتلوثِ الأنهار وسلبية آثار الألغام وغيرها من مخلفاتِ العمليات العسكرية.
إنَّ نشاطاتَ القطاع النفطي في محافظةِ البصرة، تشكل أبرز ملوثات بيئة الحياة وأكثرها قدرة على إحداثِ خلل بالنظامِ البيئي ومكوناته الحية وغير الحية بفعلِ ما تخلفه العمليات الإنتاجية للمشروعاتِ النفطية من أضرارٍ بالغة الأثر على السكانِ المحليين. وبحسبِ مصادر رسمية في محافظةِ البصرة، فإنَّ شركاتَ النفط العملاقة العاملة بحقولِ المدينة تتجاهل التشريعات القانونية الصادرة عن الحكومةِ العراقية بقصدِ المساهمة في مهمةِ ضمان الحفاظ على البيئة، حيث تفضل إداراتها تسديد الغرامات المتواضعة نسبياً على تركيبِ أجهزة المعالجة الخاصة بخفضِ انبعاثات الغازات السامة في الهواء، التّي بلغت معدلات تلويثها مستويات قياسية.
ومن المهمِ الإشارة هنا إلى أنَّ الشركاتَ النفطية الاستثمارية العاملة في الحقولِ النفطية بمختلفِ مناطق البلاد، ملزمة بمعالجةِ الملوثات الناجمة عن العملياتِ الاستخراجية والاستكشافية من خلالِ اعتماد تقنيات حديثة في معالجةِ التلوث النفطي الناجم عن هذه العملياتِ لأجلِ تخفيض مستوى التلوث.
بالاستنادِ إلى ما أعلنته وزارة النفط العراقية، كان المأمول من جولاتِ التراخيص النفطية، إنعاش الاقتصاد الوطني، فضلاً عن المساهمةِ في توفيرِ فرص عملٍ من شأنِها المعاونة في تقليصِ معدلات البطالة بشكلٍ تدريجي؛ بالنظرِ لإيجابيةِ نتائج آلياتها في مهمةِ تعاظم موارد الدخل الناجمة عن تعهدِ الشركات الأجنبية بالعملِ على تطويرِ حقول البلاد النفطية، الأمر الذي يفضي إلى ارتفاعِ سقف الإنتاج النفطي بحقولِ النفط في البصرة، وبالتالي زيادة الإيرادات المالية المتحققة من بيعِ النفط الخام، غير أنَّ واقع الحال يشير إلى خلافِ هذا التصور، حيث أنَّ ارتفاعَ سقف الإنتاج النفطي ما يزال مصدراً رئيساً لزيادةِ انبعاثات سموم عمليات حرق الغاز المصاحب، الذي يشكل أحد أهم العوامل المساهمة بزيادةِ نسبة التلوث في المحافظة.
المسؤولون المحليون في محافظةِ البصرة يحملون شركات النفط مثل لوك أويل، شل، اكسون موبيل، البي بي وإيني الإيطالية مسؤولية تسمم أجواء بعض مناطق المدينة، بالإضافةِ إلى التأثيراتِ البيئية والصحية التّي تسببها الاستثمارات النفطية، ولاسِيَّمَا تقلص رقعة الاراضي الزراعية وزيادة مساحة الأراضي التّي تعاني من مشكلةِ التصحر.
على الرغمِ من الحديثِ عن محاولةِ بعض الأطراف المحلية في البصرةِ رفع دعاوى قضائية ضد شركات النفط الأجنبية العاملة في حقولِها حول تسببها بتهديدِ صحة الناس جراء الملوثات المرافقة لاستخراجِ النفط، فإنَّ الإجراءاتَ القضائية التي سيتم اتخاذها قد تفلح في إنقاذِ حياة كثير من الأهالي مستقبلاً، إلا إنَّها مهما كانت قوةَ تأثيرها ستبقى عاجزة عن المساهمةِ في إعادةِ الأمل بشفاءِ أناس استفحل المرض في أجسامِهم، بالإضافةِ إلى ما يحتمل أنْ يحمله بعض الأهالي من أمراضٍ لا يمكن تشخيصها إلا بعد مرور سنوات طويلة!!.
اضف تعليق