يستقيظ تسعة ملايين شخص في بغداد، ثاني أكبر عاصمة عربية من حيث عدد السكان، يوميا تقريبا على رائحة كبريت، سببها النفط الثقيل غير المُعالج الذي تحرقه عشرات مصانع الطابوق والأسفلت المنتشرة في ضواحي المدينة. ويؤدي حرق النفط الثقيل غير المعالج الذي توفره الحكومة العراقية بأسعار مدعومة، إلى انبعاث...

يُعد تلوث الهواء من أخطر التحديات البيئية والصحية التي تواجه العالم اليوم، إذ يتسبب في وفاة ما يقرب من 7 ملايين شخص سنويا بشكل مبكر، وفقا لتقديرات جديدة لمنظمة الصحة العالمية. ويؤثر تلوث الهواء على الجميع، حيث يتعرض حوالي 99% من سكان العالم لاستنشاق هواء لا يتماشى مع معايير الجودة التي وضعتها المنظمة، ما يجعل هذه المشكلة تهديدا عالميا يستوجب اتخاذ إجراءات عاجلة للحد منها.

وينتج تلوث الهواء عن مصادر متعددة، أبرزها احتراق الوقود الأحفوري مثل الفحم، الغاز الطبيعي، الديزل، والبنزين، والتي تُستخدم لتوليد الكهرباء وتشغيل وسائل النقل. كما تسهم الأنشطة الزراعية، مثل حرق المحاصيل والأشجار، وحرائق الغابات في تفاقم مستويات التلوث.

وفي العديد من المدن الكبرى حول العالم، مثل نيودلهي، دكا، بانكوك، وجاكرتا، يكاد يكون الهروب من الهواء الملوث أمرا مستحيلا، حيث تتداخل العوامل الصناعية والطبيعية لتزيد من خطورة المشكلة.

وحل العراق في المرتبة 24 عالميا من اصل اكثر 175 دولة، في مؤشر "التعرض لتلوث الهواء"، حيث يصنف المؤشر البلدان، من ناحية الأكثر تأثرا من الهواء الملوث، وليس حجم التلوث في كل بلد.

وبحسب شركة “آي كيو إير” IQAir التي تراقب جودة الهواء في العالم كان العراق سادس أكثر بلد عانى في 2023 من تلوث الهواء.

ويلخص المؤشر معياره بان تلوث الهواء قد يضر بصحة أي شخص، ولكن بعض الأفراد أكثر عرضة من غيرهم لآثاره الضارة المرتبطة بالصحة، لذلك يحدد مؤشر التعرض العالمي لتلوث الهواء البلدان التي تضم السكان الأكثر عرضة للملوثات الجوية.

وتتدرج النقاط بين 0 الى 100، وكلما ارتفعت نقاط دولة ما، تكون هي الأكثر خطورة بالنسبة لتعرض وتأثر سكانها لتلوث الهواء، فيما يعتمد المؤشر على تحليل حجم السكان الأكثر عرضة للتلوث الجوي في كل بلد، و معدل الخصوبة، وانتشار أمراض القلب والأوعية الدموية وأمراض الجهاز التنفسي المزمنة ومعدل الإصابة بسرطان الرئة والقصبة الهوائية والشعب الهوائية في كل بلد كمعايير لاستخراج النتيجة النهائية.

وفقا لذلك، جاءت الولايات المتحدة الامريكية بالمرتبة الأولى، بمؤشر تعرض وتأثر السكان بتلوث الهواء، وبعدد نقاط بلغت 49.30 نقطة، وجاء العراق بالمرتبة 24 عالميًا أي بمرتبة متقدمة من بين 175 دولة، وبلغ عدد نقاط العراق 41 نقطة، اما بالمرتبة الأخيرة جاءت سنغافورة بصفتها الأقل تأثرا وتعرضا لتلوث الهواء وبعدد نقاط بلغ 17 نقطة.

التلوث الصناعي يخنق أجواء بغداد

يستقيظ تسعة ملايين شخص في بغداد، ثاني أكبر عاصمة عربية من حيث عدد السكان، يوميا تقريبا على رائحة كبريت، سببها النفط الثقيل غير المُعالج الذي تحرقه عشرات مصانع الطابوق والأسفلت المنتشرة في ضواحي المدينة.

وأعلنت السلطات العراقية نهاية كانون الأول/ديسمبر إغلاق 111 معملا لإنتاج الطابوق في منطقة النهروان بجنوب شرق بغداد منذ تشرين الأول/أكتوبر “بسبب الانبعاثات غير الملتزمة بشروط البيئة” بالإضافة إلى “57 معملا للأسفلت المؤكسد”. وأصدرت أيضا توجيها لمعامل الطابوق “لاستخدام الغاز بدلا من النفط الأسود” في غضون 18 شهرا.

ويؤدي حرق النفط الثقيل غير المعالج الذي توفره الحكومة العراقية بأسعار مدعومة، إلى انبعاث غازات الدفيئة مثل ثاني أكسيد الكربون وثاني أكسيد النيتروجين، وانتشار رائحة كبريت باتت أقوى منذ أسابيع مع “تغيّر اتجاهات الرياح وازدياد معدلات الرطوبة” في الشتاء وفق وزارة البيئة.

لكن في بغداد كذلك، محطات لإنتاج الطاقة الكهربائية مملوكة للدولة تنفث دخانا كثيفا، بالإضافة إلى مولدات منتشرة في كل زوايا المدينة لتعويض انقطاع الكهرباء، ومصاف للنفط وحرق للنفايات. 

ويقول أبو أمجد الزبيدي المقيم منذ أكثر من 40 عاما على بعد أمتار من محطة الدورة “المواد السامة تلتصق على سياراتنا (…) وعلى أسطح منازلنا حتى، لم نعد نصعد إليها”.

ويتابع الزبيدي وهو بقال “ناشدنا أكثر من مرة رئاسة الوزراء ومجلس الوزراء والبرلمان، وجاء برلمانيون إلى هنا، لكن من دون نتيجة”.

ويشير الزبيدي وخلفه أربع مداخن ضخمة يمكن رؤيتها من مسافة مئات الأمتار إلى أن غالبية جيرانه مصابون بـ”الربو والحساسية المزمنة”.

وكلما عاينه طبيب، يطلب منه التوقف عن التدخين لإصابته بالتهاب في القصبات الهوائية، إلا أن الرجل الخمسيني يؤكد أنه لا يدخن ويعود السبب في مرضه إلى إقامته قرب محطة كهربائية.

وكان العراق سادس أكثر دولة تعاني من تلوث الأجواء في 2023، بحسب تصنيف شركة “آي كيو إير” IQAir التي تراقب جودة الهواء في جميع أنحاء العالم.

وفي العام نفسه، تجاوز تركز الجسيمات الدقيقة (PM2.5) القادرة على دخول مجرى الدم عبر الرئتين وهي خليط سام من الكبريتات والكربون الأسود والنترات والأمونيوم، توصيات منظمة الصحة العالمية سبع إلى عشر مرات في العراق.

ويتسبب التعرّض لهذه الجزيئات بـ”عدة مشاكل صحية ويؤدي إلى تفاقمها، بما في ذلك الربو والسرطان والسكتة الدماغية وأمراض الرئة” على ما تفيد “آي كيو إير”.

وبحسب بيانات تسجّلها أجهزة استشعار تابعة للسفارة الأميركية في بغداد، غالبا ما تصبح جودة الهواء في العاصمة العراقية ولعدّة ساعات، “غير صحية”، ما يعني أن “الجميع قد يبدأ بالشعور بتأثير على صحته، وقد يكون هذا التأثير أكثر خطورة على الفئات الضعيفة”.

وكلّف رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني في تشرين الأول/أكتوبر لجنة خاصة تحديد أسباب انبعاث “رائحة الكبريت المنتشرة في بغداد والمحافظات المجاورة وبيان أسبابها ومعالجتها”.

وفي رد على أسئلة فرانس برس، وجّه المتحدث باسم وزارة البيئة أمير علي حسون أصابع الاتهام إلى “الأنشطة الصناعية الكثيرة أغلبها في محيط العاصمة” تحديدا في النهروان “حيث سُجل أكبر عدد مصانع تطلق انبعاثات”.

تُضاف إلى هذه المصانع، مصافي التكرير مثل مصفاة الدورة، والمولدات الكهربائية التي يُضطر سكان العراق الذين يزيد عددهم عن 45 مليون نسمة إلى استخدامها للحصول على الكهرباء في بلد يقوضّه الفساد فيما بناه التحتية متهالكة بسبب نزاعات استمرت لعقود وسياسات عامّة غير فعّالة.

وزاد عدد المولدات الكهربائية في 2023 عن 48 ألفا وفق السلطات في العراق حيث يعيش نحو 70% من السكان في المدن.

وحظرت الحكومة العراقية حرق النفايات وتعهدت “إضافة الوحدات اللازمة لتحسين الوقود المنتج في مصفى الدورة ومعالجة الغازات المنبعثة” منه.

وفي العراق الغني بالموارد النفطية التي تؤمن 90% من دخله، لكنه لا يزال يكافح من أجل التحول إلى الطاقة النظيفة، يدعو الناشط البيئي حسام صبحي قطاع النفط إلى الابتعاد عن النفط الثقيل.

ويوضح لوكالة فرانس برس أن “الاستغناء عن النفط شيء صعب جدا في بلد مثل العراق” لكن مع ذلك “نستطيع على الأقل استخدام نفط جودته أفضل من النفط الثقيل الذي يتم استخدامه حاليا (…) والذي يسبب رائحة الكبريت”.

ويدعو إلى “استحداث قوانين” تواكب التغيرات المناخية السريعة، بالإضافة إلى اعتماد حلول مستدامة مثل إنشاء أحزمة خضراء والتشجير وتعزيز النقل العام.

ويوضح “بغداد أصبحت بحاجة ملحّة إلى حزام أخضر يمتدّ على آلاف الكيلومترات (…) يعمل كَرِئة” للمدينة.

وعلى بعد أمتار من محطة الدورة، يقول سائق سيارة الأجرة حسين (32 عاما) إن الحياة قرب المنشأة “تزداد سوءا مع مرور السنين”.

ويشير إلى أن والده الذي يعاني سعالا مزمنا “بسبب السموم التي ترميها علينا المحطة” دخل قبل فترة قصيرة المستشفى لمدة 20 يوما جرّاء تدهور صحته التنفسية.

ويضيف “الكهرباء ضرورية لكن الصحة أهم”.

معاناة عمّال إحدى أكثر الصناعات تلويثا في العراق

وتعمل عائلات عراقية بكاملها في معامل تقليدية لإنتاج الطابوق منتشرة على نطاق واسع في مختلف أنحاء البلد وتحرق مواد نفطية معظمها غير مُعالج ما يتسبب بانبعاثات سامّة.

منذ ساعات الفجر الأولى، تحمّل داليا غالي (17 عاما) وأختها رقيّة حجارة الطابوق على ظهر حمار في معمل مخصّص لإحدى الصناعات الأكثر تلويثا في العراق، متمسكّة بوظيفة بعيدا عن المدرسة التي يجب أن يرتادها من هم في سنّها، من أجل البقاء وعائلتها على قيد الحياة.

وتقول الشابة المغطاة بالغبار قرب مدينة الكفل بمحافظة بابل، ثاني أكثر محافظات العراق فقرا، “تعبت كثيرا لكن ماذا نستطيع أن نفعل؟ (…) لولا عملنا أختي وأنا، لا يمكن لعائلتنا أن تعيش”، لافتة إلى أن العائلة لا تملك هواتف ولا تلفاز.

وتشير إلى أنها تركت المدرسة في سن العاشرة. وتضيف “لو كنت أمتلك المال، لكنت عُدت اليها، لكنني لا أمتلك شيئا”. وداليا غالي وشقيقتها هما المعيلتان الوحيدتان لعائلتهما المؤلفة من 17 فردا بينهم مسنّون مرضى وأطفال، اثنان منهم فقط في المدرسة.

وتؤكد رفضها لأن يلتحق أشقاؤها الأصغر بالعمل نفسه، موضحة “نعلم مدى التعب الذي قد يعانونه”.

ويعيش نحو 17% من سكان العراق الذين يزيد عددهم عن 45 مليونا، في الفقر، وفق السلطات. وأشارت الأمم المتحدة في العام 2018 إلى أن 5% من أطفال البلد دون سنّ الـ14، يعملون.

وعلى الرغم من المخاطر البيئية والصحية، أكّد كلّ العمال الذين التقتهم وكالة فرانس برس أنّهم مضطرون للاستمرار في عملهم.

ويتوافد العمّال في الشتاء اعتبارا من الثانية فجرا في ظلّ البرد القارس الى المكان حيث يعملون حتى الظهر. وتراوح أجورهم اليومية بين 20 ألف دينار عراقي (15 دولارا تقريبا) و50 ألف دينار (38 دولارا تقريبا)، ما يكفي بالكاد لتأمين القوت اليومي.

في الصيف، يبدأ دوامهم عند منتصف الليل وينتهي قرابة الثامنة صباحا مع بزوغ الشمس وارتفاع درجات الحرارة التي تتجاوز الخمسين مرارا.

وتذهب الشقيقتان إلى العمل مع عمّهما عطية غالي (43 عاما) الذي ترافقه كذلك بسيارته أحيانا زوجته تحرير وابنه البالغ 17 عاما.

وأصبح غالي الذي تنقّل بين معامل الطابوق مذ كان يبلغ 12 عاما، مشرفا اليوم على العمّال في ثلاثة أقسام.

في مرحلة أولى، يعمل نحو عشرة أشخاص (نساء وأطفال) على تحميل حمير بحجارة صُنعت من الطين.

عند امتلاء المقطورة الخشبية التي يجرّها الحمار، يُسَيّر الحيوان نحو نفق حجري ضخم هو “الفرن” حيث يُفرّغ نحو أربعة عمّال آخرين الحمولة ويكدّسون القطع فوق بعضها من الأرض حتى السقف.

يخرج بعدها العمال من النفق ويُشعلون على سطحه محرّكا يعمل بالوقود وينفث دخانا كثيفا ويبثّ حرارة على الجدران المثقوبة لتسخين الطوب طيلة أربعة أيام حتى يتحوّل لونه من الأبيض إلى الأصفر ويصبح جاهزا للبيع.

ويقول غالي “حين تحلّ الأعياد يطلب أطفالنا ملابس وأشياء أخرى فنبقى حائرين (…) فلا الرواتب تكفينا ولا الدولة تدعمنا”، متابعا “إنها أشغال شاقّة”.

لكنه لا يعرف غير هذه المهنة، و”لا باب رزق آخر” لديه، مشيرا إلى أنه سيُضطر إلى النزوح في حال إغلاق المعمل للبحث عن معمل آخر يقوم بالعمل نفسه.

خلال الصيف، ينتقل العمّال إلى منازل من طين متهالكة في الموقع النائي، هربا من انقطاع المياه والكهرباء في البلد الغني بالمواد النفطية لكن حيث البنى التحتية متهالكة بسبب نزاعات استمرت لعقود وفساد وسياسات عامّة غير فعّالة.

وتزاول تحرير حمزة (35 عاما)، زوجة غالي المهنة نفسها، مذ كانت تبلغ 14 عاما.

وتتمنى السيدة التي كانت تفضّل أن تكون ربة بيت لولا الضيقة المادية، ألّا ينتهي الأمر بأولادها مثلها بل “أن يصبحوا أطباء”.

بين الحين والآخر، تتوقف حمزة التي تضع وشاحا يغطي كل وجهها باستثناء عينيها الثاقبتين، لتوبّخ بصوتها الجهوري الأطفال المتقاعسين عن العمل أو لتمازح زميلاتها اللواتي يلتقطن أنفاسهنّ فيما يتوجه الحمار إلى الفرن.

ويقول صباح مهدي (33 عاما) بعد تحميله شاحنة تستعد للانطلاق إلى السوق “بعضنا يتعرّض لإصابة خلال العمل أو حتى يموت”، مشيرا الى أن زميلا له قضى “فرما بآليات تقطيع الطابوق (…) وآخر قضى احتراقا” داخل الفرن.

وقضى العام الماضي 28 عاملا في معامل الطابوق في وسط وجنوب العراق، وأُصيب أكثر من 80 آخرين جرّاء حوادث عمل أبرزها انفجار مخزن الوقود وحرائق وانهيار أسقف المعامل القديمة، بحسب مصادر طبية.

ويضيف العامل المياوم بتأثر “ليس بمقدورنا أن نتوقف عن العمل ولا يوم”، مطالبا “الحكومة بأن تنظر في حالنا”، ومشيرا الى أن لديه خمسة أطفال، اثنان منهم من ذوي الاحتياجات الخاصة.

في فرن آخر محاذ، يقول حمزة صغير (30 عاما)، الأب لطفلَين، “لا فائدة من كلامنا، لم ولن يسمعنا أحد في الدولة”.

ويضيف الرجل الذي يعاني سعالا مزمنا، “طلب مني الطبيب أن أتوقف عن العمل بسبب التراب والحرارة (…) لكن لا يمكنني ذلك”، متابعا “أحلم بأن أترك المعامل وأشتري سيارة أجرة وأبني بيتا”.

اضف تعليق