بعدما أصبحت مشكلات شرق القارة القطبية الجنوبية تلك محط اهتمام، ازدادت مخاوف الباحثين إزاء المستقبل، فالطريقة الوحيدة لتوقُّع ما سيحدث في العقود أو القرون المقبلة هي استخدام نماذج حاسوبية تحاكي كيفية استجابة الصفائح الجليدية لمناخ متغير، إلا أن النماذج بسيطة نسبيًّا، وحتى وقت قريب لم تكن تستطيع إعادة نَسْخ بعض الأحداث الماضية بدقة...
بقلم: جين كوي
تبدو الصفيحة الجليدية العملاقة في شرق القارة القطبية الجنوبية من أعلى مستقرة، لكنّ الأمر يختلف تمامًا من أسفل، وبشكل خطير، وفي صباح يوم رائع من أيام شهر يناير، كانت كاسحة الجليد الأسترالية RSV Aurora Australis بصدد خسارة معركة، قبالة ساحل شرق القارة القطبية الجنوبية. كانت السفينة قد قضت أيامًا وهي تحاول المرور وسط جليد البحر الثقيل؛ فاصطدمت بالتجمع الثلجي،، ثم عادت إلى الخلف، لتندفع مرة أخرى إلى الأمام، إلا أن الجليد البالغ سمكه عدة أمتار لم يتزحزح إلا قليلًا جدًّا، حتى إن ستيفين رينتول - وهو عالِم بِحَار في جامعة تاسمانيا في هوبارت بأستراليا - بدأ يتملكه اليأس من تحقيق هدفه في الوصول إلى تلك المنطقة من القارة، التي أفشلت كافة البعثات السابقة في الوصول إليها. يقول: "اعتقدتُ فعلًا أن الأمر قد انتهى. ستكون مجرد محاولة فاشلة أخرى".
هبَّ الطقس بعد ذلك لنجدتنا إذ غيَّرَت الرياح اتجاهها، دافعةً الجليد بعيدًا عن الشاطئ، وفتحت طريقًا للمرور عبر الثلج. وبذلك تمكنَت السفينة من المرور، سالكةً طريقها عبر 100 كيلومتر من الجليد، حتى وصلت إلى حافة القارة المجمدة بعد منتصف الليل بقليلبذا أصبح رينتول وفريقه هم العلماء الأوائل الذين يصلون إلى جرف "توتن" الجليدي.. تلك الحافة الجليدية العائمة الكبيرة المواجِهة لأكبر نهر جليدي في شرق القارة القطبية الجنوبية. يقول رينتول، وهو كبير علماء البعثة: "لقد كانت تجربة مثيرة حقًّا".
وكان على الفريق العمل بسرعة قبل أن ينغلق الجليد على بعضه مرة أخرى، وينسَدّ أي منفذ للهروب. واصل رينتول وزملاؤه العمل لأكثر من 12 ساعة، دون توقف، مستمرين في قياس درجة حرارة الماء وملوحته، وسرعة واتجاه تيارات المحيط، إضافة إلى شكل وعمق قاع المحيط. كما نشروا أدوات، من شأنها أن تقوم بمواصلة أخذ القياسات بعد مغادرة السفينة للمنطقة.
أكدت هذه الملاحظات المباشرة الأولى المخاوف التي ساورت الباحثون منذ مدة طويلة، حول احتمال تسرُّب المياه الدافئة القادمة من المناطق المجاوِرة في المحيط، ودخولها تحت الامتداد الجليدي العائم، وتآكل الجليد من أسفل1. رينتول: "قد يفسر ذلك سر تضاؤل سُمك "توتن" في العقود القليلة الماضية".
تكشِف مثل هذه النتائج عن بعض الحقائق المخيفة عن شرق القارة القطبية الجنوبية، تلك اليابسة الشاسعة النائية جهة الشرق من سلسلة الجبال العابرة للقارة القطبية الجنوبية (انظر: "ملك الجليد"). تساوي مساحة هذه المنطقة مساحة الولايات المتحدة بأكملها تقريبًا، وتقع في معظمها على هضبة عالية يصل ارتفاعها إلى 4,093 مترًا فوق مستوى سطح البحر، حيث قد تنخفض درجات الحرارة إلى -95 درجة مئوية. وإذ كانت الصفيحة الجليدية في شرق القارة القطبية الجنوبية تبدو باردة ومعزولة، اعتقد الباحثون أنها كانت مستقرة في الماضي، ومن المستبعد أن تتغير في المستقبل، وذلك بخلاف الصفيحة الجليدية الأصغر كثيرًا، في غرب القارة القطبية الجنوبية، التي دقت نواقيس الخطر لانحسار الكثير من أنهارها الجليدية بشكل سريع.
إلا أن تاس فان أومين - أخصائي علم الجليد في قسم القارة القطبية الجنوبية الأسترالي، في كينجستون بالقرب من هوبارت - يقول إنه في السنوات القليلة الماضية، "كل ما كنا نظن أننا نعرفه تقريبًا عن شرق القارة القطبية الجنوبية تَبَيَّن أنه كان خاطئًا". فبعد التحليق بالطائرات عبر القارة، حاملين أدوات لسبر ما تحت الجليد، وجد فريقه أن جزءًا كبيرًا من شرق القارة القطبية الجنوبية يقع تحت مستوى سطح البحر بكثير، ما يجعله أكثر عرضة للمحيط، الآخِذة درجة حرارته في الارتفاع، عما كان يُعتقد في السابق. كما كشف الباحثون أيضًا عن أدلة على أن نهر "توتن" الجليدي الضخم، الذي يحتوي على كمّ من الجليد كالذي يحتويه غرب القارة القطبية الجنوبية، قد تعرّض في الماضي للنقص والزيادة على نحو متكرر2. وهذا مؤشر آخر على أنه قد ينحسر في المستقبل.
ورغم أنه يبدو أن شرق القارة القطبية الجنوبية لا يفقد الآن الكثير من الجليد، فهناك دلائل على أنه يتأثر بحرارة تغيُّر المناخ، ويستجيب لها بدرجة ملحوظة . وهذا أمر مثير للقلق، إذ إن صفيحته الجليدية يزيد حجمها عن عشرة أمثال تلك الموجودة في الغرب. لو حدث وذاب كل الجليد القابع تحت مستوى سطح البحر في شرق القارة القطبية الجنوبية، فإن ارتفاعات المحيطات على مستوى العالم كانت لتزيد بنحو 20 مترًا.
يحاول الباحثون الآن جمْع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن شرق القارة القطبية الجنوبية، من أجل توقُّع ما هو آتبدقة أكبر. وهم قلقون من أنه خلال القرون القليلة القادمة، قد تصل الصفيحة الجليدية هناك إلى نقطة حرجة. يقول إريك ريجنو، أخصائي علم الجليد في جامعة كاليفورنيا في إيرفاين: "فور انحسار الأنهار الجليدية إلى ما بعد نقطة معينة، قد تتدهور الأمور بسرعة كبيرة، بما يتسبب في ارتفاع مستوى سطح البحر بسرعة. ولا نريد أن نستيقظ على كارثة كهذه".
خطر في العمق
كان ريجنو من أوائل العلماء الذين حَذَّروا من احتمال ظهور مشكلات في شرق القارة القطبية الجنوبية.. تلك المنطقة التي طالما تجاهلها باحثو المناخ منذ زمن بعيد.ففي عام 2013، قام فريق ريجنو بالتوصل إلى تفاصيل تفاعلاتالثلج حول حافة القارة القطبية الجنوبية، من خلال تجميع صور الأقمار الصناعية، وطائرات الاستطلاع، والنماذج المناخية.وتوصل الباحثون إلى ما يثبت أن ستة جروف جليدية في شرق القارة القطبية الجنوبية، بما فيها "توتن"، كانت تذوب من أسفل بمعدلات أعلى بكثير مما كان متوقَّعًا، حتى إن بعضها تسبق سرعته الأنهار الجليدية سريعة الانحسار في غرب القارة القطبية الجنوبية3.
ظهرت المزيد من المفاجآت عندما رأى الباحثون بعض من تلك الأنهار الجليدية في شرق القارة القطبية الجنوبية بمزيد من التدقيق؛ فقد أظهرت صور الأقمار الصناعية وطائرات الاستطلاع التي التُقطت بين عامي 1996، و2013 أن مستوى سطح نهر "توتن" الجليدي قد انخفض بمقدار 12 مترًا، وأن الخط الموصول بالأرض الخاص به– أي النقطة التي يبدأ عندها الجليد المتدفق من القارة في أن يطفو في المحيط – قد انحسر نحو اليابسة بمسافة هائلة وصادمة،قد تصل إلى 3 كيلومترات4.
من جهته، يقول كريس ستوكس، أخصائي علم الجليد في جامعة دورهام بالمملكة المتحدة: "هذه ليست واقعة فردية". فقد عمد فريقه إلى تحليل صور الأقمار الصناعية التي التُقطت بين عامي 1974، و2012، والتي شملت جميع المناطق الساحلية في شرق القارة القطبية الجنوبية. وغالبية المناطق لم يظهر فيها صافي زيادة أو نقصان في الجليد، باستثناء منطقة "ويلكس لاند"، التي تفوق مساحتها مساحة جرينلاند، والتي تضم نهر "توتن" الجليدي5. هذا بينما انحسرت ثلاثة أرباع الأنهار الجليدية في الفترة ما بين عامي 2000، و2012. يقول ستوكس: "لعل ويلكس لاند هي المنطقة الضعيفة في شرق القارة القطبية الجنوبية".
وبينما كان يدرس الباحثون الانحسار المفاجئ للأنهار الجليدية في شرق القارة القطبية الجنوبية، كان فان أومين وزملاؤه يحلِّقون فوق "توتن"؛ لسبر الأجزاء السفلية منه. يقول فان أومين: "إن المشهد من أسفل الجليد مهم للغاية؛ لمعرفة كيفية تدفق الأنهار الجليدية، وكيفية استجابتها لتغيُّر المناخ". كما أشار أنه عندما أطلق الفريق مبادرة دولية تحت اسم "آيسكاب" ICECAP (وهو اختصار لاسمها بالانجليزية: التعاون الدولي لاستكشاف الغلاف الجليدي عبر التنميط الجيوفيزيائي الجوي)، قبل عقد من الزمن، لإجراء مسح ممنهج للأجزاء الخفية من شرق القارة القطبية الجنوبية، "كنا تقريبًا لا نعرف شيئًا عمّا يَجري بأسفل هناك".
في فصل الصيف من كل عام منذ ذلك الحين، تجوب طائرات مبادرة "آيسكاب" أنحاء القارة الشاسعة؛ للنظر خلال الجليد باستخدام الرادار، وكذلك أجهزة استشعار الجاذبية والمغناطيسية. يقول مارتن سيجيرت، أخصائي علم الجليد في كلية لندن الإمبراطورية، والباحث الرئيس في المشروع: "إن هذه الرحلات لهي أفضل الرحلات الجوية في العالم". تتغير هذه الصفيحة الجليدية - التي تبدو غير واضحة المعالم - بشكل مستمر، في ظل الكثبان الثلجية المنحوتة بفعل الرياح، والتي يتلألأ عليها الثلج بآلاف الظلال تحت ضوء القارة القطبية الجنوبية.ويقول: "إنه يبدو كما لو كان كوكبًا آخر".
كشفت الرحلات الجوية عن مشهد مثير جدًّا، مخبَّأ تحت الصفيحة الجليدية المسطحة نسبيًّا. وأكدت النتائج الأولية للاستطلاعات الجوية في شهر يناير الماضي - تحت قيادة أخصائي علم الجليد، صن بو من المعهد الصيني للبحوث القطبية في شنجهاي - وجود أخدود طويل، يبلغ طوله 1,100 كيلومتر، وهو الأخدود الأطول في العالم، ويقترب مدى عمقه من عمق الأخدود العظيم (Grand Canyon) في الولايات المتحدة. وكان فريق فان أومين قد اكتشف - في رحلات جوية سابقة فوق ويلكس لاند - أن نسبة 21% من مستجمَع نهر "توتن" الجليدي تقع تحت مستوى سطح البحر بأكثر من كيلومتر واحد، وهي منطقة تزيد مساحتها 100 مرة عن التقديرات السابقة. ويقول دونالد بلانكنشيب، عالِم الجيوفيزياء بجامعة تكساس في أوستن، وباحث رئيس ضمن مبادرة "آيسكاب": "لم نتوقع حقًّا أن تكون بهذا الاتساع الذي هي عليه".
كما اكتشف الفريق أحواضًا تحت الماء، تمتد على طول الطريق من حافة جرف "توتن" الجليدي إلى الخط الموصول بالأرض على مسافة 125 كيلومترًا إلى الداخل، بعمق يبلغ 2.7 كيلومتر تحت سطح البحر6. ويمكن لهذه الأحواض العميقة أن تسمح لمياه الدافئة من الشواطئ أن تصل إلى الجليد بسرعة، وتبدأ في تآكله.
"كل ما كنا نظن أننا نعرفه تقريبًا عن شرق القارة القطبية الجنوبية تَبَيَّن أنه كان خاطئًا".
ظهرت الفرصة الأولى لدراسة مصير تلك المياه عندما وصلت كاسحة الجليدRSV Aurora Australis إلى "توتن"، اكتشف رينتول وزملاؤه وجود مياه بالقرب من الامتداد الجليدي، تصل درجة حرارتها إلى 0.3 درجة مئوية، وتُعَدّ أكثر دفئًا بكثير من نقطة تجمدد مياه البحر، التي هي -2 درجة مئوية1.يقول رينتول: "إنها تؤدي إلى معدلات ذوبان سريعة". وتُظْهِر الأدوات التي تركها هو وفريقه في المنطقة أن المياه الدافئة موجودة على مدار السنة. وإذا كانت هذه المياه تتبع مسار القناة المكتشَفة حديثًا تحت "توتن" نحو الخط الموصول بالأرض، ستكون درجة حرارتها على الأقل 3.2 درجة أعلى من نقطة التجمد عند هذا العمق."سيكون هذا خبرًا سيئًا جدًّا"، كما يقول.
وقد تأتي المخاطر المهدِّدة للجروف الجليدية من داخل القارة القطبية الجنوبية أيضًا، من البحيرات القابعة تحت الصفيحة الجليدية، التي ترسل مياه الفيضانات بشكل دوري نحو الساحل.فقبل عقد من الزمن، نضبت بحيرة "كوك" الكامنة تحت الصفيحة الجليدية في "ويلكس لاند" فجأة، وتدفق منها 5.2 مليار متر مكعب من مياه الفيضانات؛ في أكبر حدث من نوعه يسجَّل في القارة القطبية الجنوبية.قد تمثل هذه الفيضانات عاملًا آخر من عوامل زعزعة الاستقرار، مسبِّبةً تدفقًا أسرع للجليد، وانهيارًا أكبر لجبال الجليد، كما يقول ليه ستيرنز، أخصائي علم الجليد في جامعة كانساس في لورانس.
ماضٍ مضطرب
إن هذه السيناريوهات ليست مجرد افتراضات، كما يقول الباحثون. فقد كشفت الدراسات التي أُجريت في السنوات القليلة الماضية أن شرق القارة القطبية الجنوبية قد فَقَدَ كميات كبيرة من الجليد في الماضي، وقد يحدث ذلك مرة أخرى في المستقبل القريب.
وقد أتت أدلّة على ذلك من بعثة في عام 2010، كانت مدعومة من قِبَل البرنامج المتكامل لحفر المحيطات، واستعادت الرواسب من قاع البحر قبالة ساحل شرق القارة القطبية الجنوبية. كان الحصول على تلك الرواسب أمرًا بالغ الخطورة؛ حيث كان لِزامًا على السفينة أن تتوقف مرارًا وتكرارًا عن الحفر؛ لتتفادي الجبال الجليدية الضخمة. تقول تينا فان دي فليردت، عالمة الجيوكيمياء في كلية لندن الإمبراطورية، وباحثة رئيسة في البعثة: "تُعَدّ المياه المحيطة بالقارة القطبية الجنوبية من أكثر البيئات صعوبة فيما يتعلق بعمليات حفر المحيطات"، إلا أن الجهود المبذولة قد أتت ثمارها، إذ كشفت عن تغيرات مفاجئة كانت قد حدثت في تاريخ الصفيحة الجليدية. تقول فان دي فليردت: "اعتقدنا منذ أمد بعيد، حين وصلت الصفيحة الجليدية في شرق القارة القطبية الجنوبية إلى حجمها الحالي، قبل قرابة 14 مليون سنة، أن الأمر قد انتهى. فهي مجرد كتلة كبيرة ومستقرة من الجليد، لا تستجيب على الاطلاق لتغيُّر المناخ".
إلا أن رواسب قاع البحر قد كشفت أن الصفيحة الجليدية قد تمددت، ثم اضمحلت عدة مرات، بين 5.3 مليون، و3.3 مليون سنة مضت7، وهي الحقبة التي يُطلق عليها عصر البليوسين، عندما كانت درجات حرارة الهواء تصل حتى درجتين مئويتين أعلى مما هي عليه اليوم. وتقول فان دي فليردت: "كانت تصلنا إشارة واضحة في كل مرة كانت ترتفع فيها حرارتها، ما يشير إلى أن الصفيحة الجليدية كانت حساسة لاحترار المناخ".
يقول الباحثون إن لديهم بعض النتائج الأولية المثيرة عن فترة ما بين العصرين الجليديين الأخيرة، قبل ما بين 129,000 116,000 سنة ماضية، حين كان العالم بنفس دفء اليوم. انحسرت الصفيحة الجليدية انحسارًا أقل بقليل في هذا الوقت، مقارنة بما حدث في عصر البليوسين الأكثر دفئًا بكثير. تقول فان دي فليردت: "هذه مفاجأة كبيرة".
ومن جانبها تقول مورين رييمو، عالمة الجيوكيمياء فيمرصد "لامونت دوهيرتي"الأرضي في باليسادس بنيويورك: "إذا ثبتت صحة النتائج، سأقول إنها مثيرة للاهتمام حقًّا. وقد يعني ذلك أنك قد تفقد كمية معينة من الجليد بسهولة تامة، حال وجود القليل من الاحترار".
تقدُّم سريع إلى الأمام
بعدما أصبحت مشكلات شرق القارة القطبية الجنوبية تلك محط اهتمام، ازدادت مخاوف الباحثين إزاء المستقبل، فالطريقة الوحيدة لتوقُّع ما سيحدث في العقود أو القرون المقبلة هي استخدام نماذج حاسوبية تحاكي كيفية استجابة الصفائح الجليدية لمناخ متغير، إلا أن النماذج بسيطة نسبيًّا، وحتى وقت قريب لم تكن تستطيع إعادة نَسْخ بعض الأحداث الماضية بدقة، مثل الانحسارات الكبيرة للأنهار الجليدية، التي يكتشفها العلماء عبر تاريخ شرق القارة القطبية الجنوبية.
وقد حاول باحثا المناخ روبرت ديكونتو - من جامعة ماساتشوستس في أمهرست - وديفيد بولارد - من جامعة ولاية بنسلفانيا في يونيفرسيتي بارك - إضفاء صبغة أكثر واقعية على عمليات المحاكاة، عبر إدراج بعض العمليات التي لم يسبق تناولها في الدراسات السابقة. يتيح نموذجهما للمياه الذائبة على سطح الجليد أن تعمق الصدوع، وأن تشق الجروف الجليدية، كما أنه يحاكي كيفية انهيار الجروف الجليدية بمجرد أن تفقد الجروف الأخرى التي تدعمها.
عندما أدرج ديكونتو وبولارد هذه العمليات، أظهر نموذجهما انحسار الأنهار الجليدية في شرق القارة القطبية الجنوبية، بمعدلات كبيرة، في أثناء فترة ما بين العصرين الجليديين الأخيرة، وفي عصر البليوسين8. ومن جهته، يقول فان أومين: "هذه فعلًا هي أول محاولة ناجحة لتطابق عمليات محاكاة الصفائح الجليدية بشكل تقريبي مع فهمنا الأفضل لانحسار الأنهار الجليدية، وارتفاع مستويات سطح البحر في الماضي".
وبعد النظر إلى الماضي، وَجَّه الباحثان نموذجهما نحو المستقبل، حيث ظهرت لهما مجموعة من الأخبار الجيدة والسيئة. ففي عمليات المحاكاة الخاصة بهما، لا تتغير الصفيحة الجليدية في القارة القطبية الجنوبية بأكملها كثيرًا في الـ500 سنة المقبلة، إذا ظل الاحترار العالمي محصورًا عند أقل من 1.6 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل عصر الصناعة، بحلول نهاية القرن؛ بما يتماشى تقريبًا مع ما تنشده اتفاقية باريس للمناخ.
أما إذا ارتفعت درجات الحرارة أكثر من 2.5 درجة مئوية تقريبًا فوق مستويات ما قبل عصر الصناعة، بحلول عام 2100، وواصلت الارتفاع أكثر، فسوف يؤدي ذوبان الجليد في القارة القطبية الجنوبية إلى رفع مستويات المحيط بمقدار 5 أمتار بحلول عام 2500 (المرجع 8)، وسينتج نحو نصف ذلك من شرق القارة القطبية الجنوبية. ومع ذوبان جليد جرينلاند أيضًا، سيرتفع مستوى سطح البحر حول العالم بـ7 أمتار على الأقل، وهو ما يكفي لإغراق أجزاء كبيرة من المدن الساحلية الرئيسة، مثل مومباي، وشنجهاي، وفانكوفر، ونيويورك. يقول ديكونتو: "سوف يعيد ذلك تشكيل الخط الساحلي في العالم بشكل كبير، وسوف يؤثر على الملايين".
وهو يحذِّر من أن هذا النموذج لا يزال غير مكتمل إلى حد ما، ويرجع ذلك في الأساس إلى كون المشاهَدات في شرق القارة القطبية الجنوبية محدودة للغاية. ويقول: "إن معظم الخط الساحلي ببساطة لم يحدَّد على الخرائط".
كما نجم عن نقص البيانات نماذج للمحيطات سيئة للغاية، تقلل كثيرًا من تقدير كمية المياه الدافئة التي تصل إلى الجروف الجليدية، كما يقول ديكونتو. ويضيف: "يستدعي ذلك حقًّا مراقبة طويلة الأجل لأوضاع المحيطات".
وفي الوقت الحالي، تنخفض درجات الحرارة في شرق القارة القطبية الجنوبية بسرعة مع دخول فصل الشتاء في الجنوب؛ فيما يقبع الباحثون في منازلهم الدافئة، يستعرضون كميات البيانات الأخيرة التي جُمعت في موسم العمل الميداني. وتأتي على رأس الأولويات المستقبلية رسم خريطة للصخور الكامنة تحت جميع الجروف الجليدية الكبرى، ما من شأنه أن يساعد الباحثين على تحديد الأنهار الجليدية الأخرى، التي قد تتآكل بفعل مياه المحيطات الدافئة، وتوقُّع كيفية استجابة المناطق الداخلية، حال اختفاء الجليد من على الهوامش الساحلية.
ومن أكثر الاكتشافات رعبًا.. الوديان الكبيرة في المناطق الداخلية من القارة، التي يزداد عمقها مع انحدارها نحو المحيط. فقد تؤدي هذه الوديان إلى زعزعة استقرار أجزاء كبيرة من الغطاء الجليدي في شرق القارة القطبية الجنوبية، حين تبدأ حوافه في التفكك على مدى العقود والقرون القادمة. يقول بلانكنشيب: "حينها، قد تنزلق الصفيحة الجليدية بأكملها بسهولة، ولن يتمكن أي شيء من إيقافها".
اضف تعليق